وديع العبيدي
بين بلند العراقي وراسل الانجليزي تقاطعات ومفارقات، كلاهما ولد في حقبة ذهبية من تاريخ بلده المعاصر، راسل في العصر الفكتوري الذهبي وبلند في العهد الملكي الذهبي، كلاهما ولد في عائلة ارستقراطية غنية تحترم الثقافة والعقل والانفتاح، وفقد والديه في ظروف مبكرة ووكلت تربيته إلى جدته الأرسقراطية الصارمة، وكلاهما (راسل وبلند)
كان يضيق بالضوابط الصارمة وشخصية جدته القوية، لكن بلند، تمرد فكريا وعمليا وترك البيت ليعيش حياة التسكع والصعلكة، فيما كان تمرد راسل فكريا عنيفا، مع بقائه في كنف العائلة والنظام الدراسي الباهظ الذي جعله يتصدر كرسي الفلسفة في كامبردج. راسل وريث تقاليد البرجوازية أو الأرستقراطية الأوربية العريقة التي كانت تجمع بين النفوذ والمال والثقافة ولا تفرق بينها،أو تفرط بواحدة منها. وبلند ولد في مجتمع يفتقد مفاهيم البرجوازية والأرستقراطية والطبقية والثقافة، وفي بداية التشكل الاجتماعي الوطني والقومي للوقوف على عتبة البناء المجتمعي العصري بتقاليد برجوازية مستعارة. فالبرجوازية وما يدعى ارستقراطيا العربية تفتقد الأصول والتقاليد العريقة، التي أتاح لها الزمن النشأة والتطور في مصر الخديوية مثلا. بينما انتكست التجربة العراقية وواجهت العراقيل والمثبطات التي نسفته تماما عقب وفاة فيصل الأول، وبلغت ذروتها الوحشية بمجازر 1958.راسل المثقف والفيلسوف العالمي والانساني المستقل الذي لم يتردد في التدخل ومقارعة الظلم والاستبداد في أعتى معاقله بدء من بريطانيا وموسكو ستالين والبيت الأبيض، دون أن يتخلى أو يفخر بإرثه الأرستقراطي وأبهته العائلية، والتاريخ اليوم يذكره بإضافته العلمية والانسانية لعائلته ووطنه وليس بالتمرد عليهما كما يجري عندنا. راسل كان وفيا لروح الفيلسوف جون ستيوارت ميل، والده الروحي الدي وكل والد راسل تربيته إليه، لكنه توفي مبكرا، فبقيت دكراه في ضمير الطفل، ولم يخذل ذكراه.
يقول #بلند الحيدري#: عشت غربة حقيقية في بيت والدي، حيث والدتي تحب ابنها البكر، ووالدي يحب ابنه الأصغر، فعشت حالة اغتراب دفعتني إلى الهروب من جو البيت!.
بلند لم يصبر على تقاليد الأرستقراطية، فلم يذهب إلى الفلسفة، التي كان جميل صدقي الزهاوي مثالها يومئذ، وانما ذهب إلى الشعر الذي كان علامته البارزة يومئذ معروف الرصافي، الذي تقلب في شظف العيش وحياة الفاقة والتمرد بكل صنوفها. فضل بلند رياضات اللغة على رياضيات العقل. وكان هروبه من البيت مزامنا للفترة التي سكن فيها الرصافي في جانب من بيت للبغي في الميدان من وسط بغداد، عقب عودته من منفى الفلوجة. ومن عالم البغي استلهم بلند عوالمه وتصوراته الشعرية. وفي العام التالي لوفاة الرصافي (1945م) ذهب بلند إلى بعقوبة ليجد حسين مردان ويستقدمه معه إلى حياة بغداد وشوارعها وعالم لياليها. وهنا حدث ما لم يكن بالحسبان. ثورة حسين مردان الخارجة على كل شيء.
بلند ومعروف الرصافي
تمرد بلند الحيدري سليل العائلة الأرستقراطية المعروفة لم يخرج عن الأصول الاجتماعية العامة، وفي مجموعته الشعرية الأولى (خفقة الطين/1946) نجده أدنى إلى روح الفكر الاجتماعي لشاعرية الرصافي، بينما عكست مجموعته الثانية (أغاني المدينة الميتة/ 1951) انحيازا وقربا من أجواء حسين مردان الدي عرضته مجموعته الشعرية الأولى (قصائد عارية/ 1949) للتوقيف والمحاكمة. لكن بلند الذي سخر معظم شعره الأول للمرأة البغي، نسج لنفسه طريقة تجديدية مميزة في النظرة للمرأة والبغي، وهو موضوع يستحق وقفة خاصة لاحقة. ولم ينحدر بنظرته أو لغته الشعرية لما يوصف بالابتذال.
حسين مردان في أصوله العائلية والاجتماعية كان أكثر قربا من ظروف الشاعر الرصافي. فوالد كل منهما كان شرطيا. والنظرة الاجتماعية للشرطي في العراق نظرة شائنة مخزية. هو الذي يعتقل الناس وكلب السلطة الذي يحمي المتنفدين واللصوص الكبار. فقد الرصافي أباه في طفولته المبكرة وأنشأته أمه التي مرضت وفقدت بصرها فكفلته خالته ليدرس ويتخرج في المدرسة الرشدية. اقترن التمرد في شخصية الرصافي من سبة المجتمع – لابن الشرطي وزوجة الشرطي-، بمعاناة الفقر والشظف وكفاح المرأة الطموح لتنقذ ابنها من شبح العوز وتخرص العامة. وقد تدرج الرصافي في المراكز العليا وعين عضوا في مجلس مبعوثان العثماني واستاذا للعربية والآداب في الأستانة والقدس، ثم صار عضوا في البرلمان العراقي وتقلد مراكز رفيعة في التعليم والثقافة، قبل أن يحتدم خلافه مع السلطات، ويستقيل من الوظيفة متفرغا للكفاح الوطني وحياة الشظف وسنوات النفي في الفلوجة ثم يعود إلى بغداد ويتوفي وحيدا في حجرة حقيرة في محلة الصابونجية من قلب بغداد، منتقلا من (نومة فوق الحصير لنومة تحت الثرى)- مرثية لميعة عباس عمارة للرصافي. ولد فقيرا كادحا ومات فقيرا كادحا، لم يغر بالسلطة والنفود، وكان ذلك رائده في بناء فكره الاجتماعي والوطني الذي يعتبر مأثرة قيمة في التراث العراقي المعاصر. ولعل رائعته في [أم اليتيم، الأرملة] من نوادر الشعر العربي وفرائده الخالدة في كل العصور.
على الجانب الآخر، لم يفقد حسين مردان أباه ولم يتعرض لليتم وشظف العيش، ولكنه بقي يتحسس من نظرة المجتمع لابن الشرطي، وكان قويا ومشاكسا قادرا على حماية نفسه، وجد فرصته الدهبية في الانتفاضة الشعبية عام 1948 حيث يلقي كلمة ثورية في التظاهرة، تكسبه الصيت والثقة والهوية الاجتماعية الوطنية الجديدة، ثم يأتي تعرضه للاعتقال ليغسل في داخله بقايا النظرة المترسبة في طفولته عن ابن الشرطي وعائلة الشرطي. في أيام النظام الملكي الدمقراطي كان الاعتقال وشما للرجولة والوطنية، يتدافع إليه طلاب المجد والمراهقة السياسية. فلا غرو أن يتجدد حرص حسين مردان على انتهاز كل ما من شأنه استفزاز النظام واستنفار قوات الشرطة، لتتكرر مرات اعتقاله وتوقيفه ست مرات. قبل أن يتبرجز ويصبح مديرا في المؤسسة الثقافية في الستينيات حتى وفاته المبكرة عام 1972م. سخر مردان شعره للمرأة والتمرد الاجتماعي والابتذال، ما يجتذب إليه الأنظار على طريقة (خالف تعرف). فكانت سيرته أشهر من شعره، وابتذالاته اللغوية والاجتماعية التي يتندر بها البعض أشهر من أي دور في مجال التجديد والبناء والاضافة. وقد شعر مؤخرا بنقص تجربته فسخر كتبه الأخيرة لما دعاه (نثر مركز) ليضمه بعض أنصار قصيدة النثر إلى تراثهم المبكر. على أن فكرة النثر الفني، المركز، قديمة تعود إلى بدايات القرن العشرين. وقبل ولادة حسين مردان توجد نمادج لها في الصحافة العراقية، وكان من دعاتها وأنصارها الزهاوي والرصافي وبول شاؤول وسواهم. لكن تلك التجارب لم تلق القبول من الشارع الثقافي ولم تصدر في كتب أو يتخصص بها أحد، حتى وجد مردان ضالته فيها، من غير طائل. فلم تحظ بالعناية والدراسة والصدا شأن شعره المبكر.
بلند وحسين مردان
العلاقة الحيدرية المردانية لم تستمر، وسرعان ما استحال التقارب السطحي إلى تنافر وقطيعة، عندما شعر بلند بالتهميش أمام اجتياح مردان العنيف لمشهد الثقافة البغدادية، واستنفار أئمة الفكر وأعلام الثقافة وأعيان المجتمع للمحاماة عن الشاعر حسين مردان وكتابه المصادَر أمام المجلس العرفي. فتأكدت خيبة بلند الحيدري وخسارته من ريادتين كانتا له بغير منازع: ريادة الحداثة الشعرية وريادة الصعلكة الشعرية. الأولى ذهبت للمثلث الدهبي [السياب، البياتي، الملائكة] وهو سابق لهما حقا. والثانية صادرها حسين مردان المتمرد المشاكس الباحث عن مجد سهل ودكتاتورية شارع. ولا يجد بلند غير معاودة الهروب من بلده إلى بيروت، بعدما هرب من البيت إلى الشارع من منافسة أخيه الأكبر الشاعر صفاء الحيدري. وحتى عندما عاد لاحقا إلى بغداد بعد وفاة حسين مردان، للعمل في مجلة آفاق عربية، وهي أرقى دورية ثقافية صدرت يومداك، لم يستطع التخلص من أشباح هزائمه الأولى، في البيت والشارع، فأطلق ساقيه للريح وبلا عودة هده المرة.. إلى لندن، ليرمم بعض هزائمه ويعيد تأثيث شخصيته قبل أن يرحل أخيرا عام 1996م.
لقد نجح حسين مردان في تأسيس وتوريث موجة التمرد والصعلكة قبل موته من خلال ثنائي سركون بولص وجان دمو، وكأنه تكرار ثنائي بلند/ مردان، وبينما يحدو جان دمو حدو مردان في نهجه السلوكي واللفظي إلى منتهاه، لا يجد سركون بولص غيرأن يحدو حدو خطوات بلند في التسلل إلى بيروت،والتقاء نفس الجماعة والتيار الدي سبق بلند التقاه فيها [طاقم مجلتي شعر وحوار] ليغادرها إلى الولايات المتحدة، شاعرا ومغنيا جوالا، ثم ليموت متجمدا من البرد في حديقة ألمانية (2007).
ان ظاهرة حسين مردان وجان دمو تفسر سر علاقة قصيدة النثر بالتمرد والتجاوز اللفظي والفكري والخروج على المألوف الاجتماعي والثقافي، إلى درجة السخرية منه والزراية به.
خلاصة القول ان ثمة نزعة قرمطية شائعة في جانب غير يسير من الأدب العراقي. نزعة التمرد ومخالفة المألوف واستفزاز النظام، لمجرد الاستفزاز والمخالفة وربما الصيت والشهرة وترميم جرح داخلي. ظهرت بوادرها المبكرة مع قيام الدولة العربية الكبرى في بغداد التي فتحت أبوابها على مصاريعها لموجات الغرباء من كل الألوان ولكل الأغراض، فتراجعت القيم والتقاليد العريقة وتعرضت لمنافسة ومناوأة في صورة صراعات سياسية وثقافية واجتماعية بين هويات دخيلة وأصيلة، كانت الأولى تسخر من الثانية وتتهمها بمساوئ النظام، مشرعة لنفسها إشاعة الفوضى والتمرد في القول والفعل. وفي قولة الحسن ابن هانئ المتمردة على التقليد الشعري العربي: قل لمن يبكي على رسم درس.. واقفا ما ضر لو كان جلس! مثال زاخر بالسخرية والزراية، اعتبره ادونيس من مظاهر التجديد المبكرة في الشعر العربي. فالقرمطية اصطلاحا هنا، لم تولد داخل البيت العربي ولا من قبل أهليه، ولم تعرف في الشام ولا مصر ولا الحجاز، ولكنها ظهرت في الأطراف الحادة، مشكلة غزوا داخليا [لغة، دين، تقاليد] وثورة مضادة وجدت فضاءها في مرونة بني العباس، ثم استفحلت بعد غزو المغول للتحول إلى طرز وسياقات ثقافية واجتماعية سائدة في القرن العشرين، على أنها ما زالت تتخذ الأطراف موطنا ومباءة. ولعل هدا أحد أصول التصاق الشعر بالعراق، لسهولة اختراقه نظما وتقليدا وتكرارا مجانيا يتقمص أفكار وصورا وانفعالات جاهزة ومستعارة، تفتقد ديناميكية النمو والتطور الطبيعي وبلوغ نتائج وتحقيق منافع نفسية وثقافية للمجتمع والأمة.
بلند والسياب
وجد الاتجاه الاجتماعي في الأدب العراقي رواجا، ليته كان أكادميا بحثيا، نجم بالدرجة الأولى عن الترجمات والاتجاهات الفرنسية عقب الحرب العالمية الأولى، وقد تم تسخير هذا الاتجاه بشكل رئيس في تغيير النظرة العامة للمرأة، حمالة الحطب على مدى التاريخ، وتوظيفها في تجديد روح الشعر والسرد والخطاب الثقافي عموما في انحيازه العام لقضية المرأة الاجتماعية في وقت مبكر، وهو أمر غير منقطع عن جذوره في حركة الزهاوي (تحرير المرأة)، والرصافي (اليتيم والأرملة) غير المنقطعة عن الحملة المصرية بريادة الطهطاوي وقاسم أمين والاتجاه الانساني في شعر أبي ماضي وميخائيل نعيمة. فإلى جانب نداءات الزهاوي و(أم اليتيم) للرصافي، يقدم السياب رائعته (المومس العمياء) في الخمسينيات، ضمن مطولاته التي رفعت صرح شعر التفعيلة، إلى جانب (أنشودة المطر) و(المعبد الغريق).
رغم الاتجاه العام التقدمي في شعر السياب، فأن خطابه الشعري كان ذاتيا بالدرجة الأولى، باحثا عن التنوع والتجديد كما يلحظ من قصائده الشهيرة، ولم ينقطع في شعره خيط الشكوى والشوق للمرأة الحلم التي لم تأتِ. بينما شكلت المرأة البروليتارية محور تجربة بلند الحيدري بامتياز. تحدث بلند عن المرأة المومس ووصف ظروفها الاجتماعية والاقتصادية المتدنية دون أن يسميها أو يصمها. كما أن حديثه لم يتخذ طابعا شخصيا أو ذاتيا، تاركا مسافة نفسية واضحة بينه وبينها. فهو بينما يعيش على مقربة منها ويتعاطف مع وضعها المدفوع بحكم الظروف، لكنه لا يشاركها رغباتها ونهج حياتها. بقي برجوازيا أو أرستقراطيا في نظرته المتعاطفة للمرأة. ورغم تصنيف أثنين من مجاميعه الشعرية الأولى لهذا الاتجاه، لم تستطع قصيدة واحدة أن ترتفع أو ترتقي كمفردة يتردد صداها، مثل ما للسياب. وبقيت قصائده ومجاميعه رغم أهميتها تقبع بهدوء ومن غير إثارة، رغم الإشادة الخجولة للبعض بلغته وتجربته الاجتماعية في الشعر عموما.
بلند الحيدري في شعره النسوي يضاهي أو يقابل نزار قباني الذي اشتهر بلقب شاعر المرأة، لكنه لم يصدر عن تجربة ذاتية شخصية في شعره، ولم تدخل المرأة تحت جلده أو ينسرب تحت جلدها بحيث يشعر القارئ بحرارتها ورائحتها في النص كما هي لدى السياب. فالسياب هو الصوفي الحقيقي في الشعر الحديث الذي يتماهى في الحالة ليكتب من داخلها، ولا ينظر إليها عبر الزجاج. لقد نزف السياب كثيرا وعانى كثيرا ومات وهو ينزف ويتماهى ألما وصدقا.. فلم تنفصل حياته عن الشعر، وانما كان شعره بعضا من نفثاته وآلامه.
كل من السياب والحيدري لم يتجاوز شعرهما المجاميع الخمسة أو الستة. لكن السياب كان بروليتاريا صوفيا في حياته وشعره، ومال الحيدري للتسكع وجاور نساء المبغى دون أن يلغي المسافة أو يقطع الشعرة الفاصلة. كان اجتماعيا أرستقراطيا، يحمل مشاعر الفقراء ويحيا حياة المترفين على غرار قباني.
بلند ونزار قباني
نشأ نزار قباني (1923- 1998) في عائلة مترفة، تخرج محاميا ولم يكن بحاجة للمال، واستشعر بوادر الملل والرتابة وهو يهتلج الأيام والسنين بين ملفات الدعاوى ومراجعات المحاكم والروتين الاداري. وكان قد نشرمن شعره أيام الجامعة ما اجتذب إليه الناس، فانحاز للشعر على حساب الوظيفة. وهنا تساءل مع نفسه ذلك السؤال الذي لا يخطر لكثيرين.. ثم ماذا.. وما يكون موقعي من الشعر في أمة من الشعراء.. فخطرله أن يتخصص في شيء يبز به أقرانه، فكانت غزلياته الثورية، ومثاله فيه على حد قوله عمر ابن أبي ربيعة. نجح نزار قباني أن يقدم نسخة عصرية متقدمة من عمر بن أبي ربيعة ويستنهض كل نساء العرب وليس مكة وحدها، بقصائده ونداءاته التي ما كان لامرأة من قبل أن تتجرأ البوح بها.
بلند الحيدري [1926- 1996] ترك البيت في السادسة عشرة من عمره، في وقت حصول قباني على شهادة الحقوق (1944) وهو نفس العالم الدي أصدر فيه مجموعته الشعرية الأولى (قالت لي السمراء)، وبعد عامين يصدر بلند الحيدري مجموعته الأولى (خفقة الطين) التي تتضمن قصائد من شعر التفعيلة. مع اختلاف اللغة والاسلوب بين الأثنين، فكلاهما يحس بالمرأة ويكتب عنها أو يحادثها عبر زجاج المشاعر والأرستقراطيا. والاثنان سوف ينطلقان للتغيير بعد الستينيات. المجازر التي اعقبت تجربة (1958) دفعت بلند لكتابة (أغنيات حزينة إلى كركوك)، فيما تستفز نكسة حزيران (1967)قباني لكتابة القصيدة السياسية الثائرة ويأتي موت عبد الناصر ليكتب أشهر وأوقع رثاء لعبد الناصر (قتلناك يا آخر الانبياء). وبعد محاولات حثيثة، يعود الحيدري لكتابة قصائد خجولة تقترب من السياسة ولا تدخل فيها. بلند الحيدري الذي أهمل من مضمار ريادة قصيدة الحداثة، وقصيدة الصعلكة، لا أحد يذكره في مجال شعر المرأة، أو الشعر السياسي القومي والوطني، إلا هامشيا. وهنا يتكرر نفس السؤال، لماذا نتذكر قصائد السياب وقباني ولا نكاد نجد ما يقابلها للحيدري المعاصر للأثنين، في ذروة العصر الذهبي للشعر الحديث، ولا تقل تجربته عن الرواد في شيء.. هذا ما يستدعي مزيدا من البحث والتفكيك في تجربته!.
صوت هادئ وعميق..
يمتاز صوت بلند الحيدري بنبرات عميقة، وجمله الشعرية لها بنية عاطفية ونفسية محكمة، صادرة عن تأملية هادئة وليست انفعالية طارئة، ذات شفافية رائقة. رسوخ جملته الشعرية وثبات اتجاهها يصدر عن رسوخ منزله العائلي وحنينه السريري المتصل بخصائص الاستقرار والقوة والأبهة. الحياة لم تكسره، ترك البيت بإرادته واختياره الذاتي، وعندما عمل كاتبا في باب المحكمة بينما خاله وزير العدل، لم يكن يشعر بالضعف أو المهانة، وانما كان يعاقب العائلة التي استثنته من حنانها واهتمامها. ويلحظ أن الحيدري لم يفقد قوة الشخصية وسلطان الكلمة وكارزوماه الأرستقراطية أينما كان. فالجملة أو البيت الشعري البلندي هو رديف وتعويض عن البيت العائلي المفقود، له قوته وشفافيته ودفئه الضمني، لكنه لا يقرب المجاهرة أو الاستفزاز. بلند الحيدري لا يفصل بين الحياة والشعر ولا بين العبارة والشعور، لذلك تأتي جملته قريبة من النفس والفكر وكأنها خلجة مقسومة بين الشاعر والمتلقي. دلك هو الشخص الثالث في عربة الصمت، أو العنصر (أكس) في معادلة الريادة الشعرية غير المتعادلة. ويلحظ أن أبهته الأرستقراطية وإرثه العائلي، رفعه عن سوق المزاودة والمنافسة والادعاء، تاركا المياه تعاود مجراها بحكم الطبيعة. مكتفيا بادلاء شهادته عن بعد في كتابه (مدخل إلى الشعر العراقي الحديث) الصادر في بيروت / 1987م. لم يكن وجوديا مبتذلا ولا شيوعيا أو قوميا، معبرا عن وطنيته بحس اجتماعي شفيف. ولم تنعكس نزعات نفسية سلبية في شعره بجريرة الواقع الأدبي أو العائلي، مما يظهر لدى سواه، وانما عبر عن المعضلة الوجودية للانسان عموما، وليس بصفة شخصية. ورغم قراءاته ونظراته العميقة في الحياة والثقافة، فأن بصمات الياس أبي شبكة بقيت الأكثر أثرا في توجهه الشعري كما لدى حسين مردان، بل أن تأثر الأثنين بأبي شبكة كان من العمق بحيث عزلهما عن التعاطي والتواصل مع بقية أطياف المشهد الشعري داخل العراق وخارجه. والواقع أن أثر (أفاعي الفردوس) أعمق كثيرا في تيار الأدب العربي الحديث ورسم توجهاته ، مما تناولته القراءات الأدبية حتى الآن. بل أن التركيز الزائد على حركات التجديد في مصر والعراق، كان على حساب دور الشام ومنجزاته الأدبية والفكرية التي تتجاوز مجلتي شعر وحوار، ولا تنحصر في ما دعي بالمدرسة اللبنانية فحسب.
مركزية المرأة..
الأدب أدبان: منه ما هو انعكاس وصدى لمشهد ثقافي سائد، وهو ما يندرج في باب التقليد، الأكثر شيوعا؛ ومنه ما يصدر عن نزعات نفسية واجتماعية ذاتية تتلقح برداد الفكر فتتعمق وتأخذ صورا ابداعية متجددة، وهذا دأب الرواد والمجددين. وهذا ما يميز بين تجديد بلند وتقليد مردان. بلند لم يتأثر بنظم شقيقه صفاء الحيدري الذي لم ينفصل عن عموده الشعري، بل انفرد عنه بالتحلل عن العمود دون التفعيلة منذ مجموعته الأولى المبكرة والسابقة في حركة الشعر العربي الحديث. ويلحظ أن بلند في فكره وتجديده لا يفصل بين النتاج وشخصية المنتج، أي وحدة الفكر والسلوك. وهذا ما يقودنا لموقفه ونظرته للمرأة كمحور أدبي ودالة على المجتمع والعصر، لدى تيار من المثقفين بدء من أبن رشد والطهطاوي وقاسم أمين والزهاوي والرصافي دخولا في حركة التجديد الشعري لبلند وقباني والسياب.
ان محدودية الحياة العربية قديما وحديثا، ناهيك عن محدودية أفاق الفكر وحرية الابداع، جعل للمرأة حيزا كبيرا في حياة المجتمع، لا يناسب تبعيتها الاجتماعية. وهو أمر لا مثيل له في الآداب الغربية، حيث لا تشكل المرأة والغزل التيار الرئيس فيه. فمنذ أيام الأغريق احتلت الطبيعة والميتافيزيقا والتيارات الاجتماعية والسياسية وما تفرع عنها في القرون الوسطى وعصر النهضة، مكان الصدارة، وبما جعل الأدب يقوم على العقل لا العاطفة، بينما ترك للمرأة مجال كفاحها الاجتماعي والاقتصادي.
الرجل العربي ينشأ في كنف المجتمع، والمرأة تنشأ في كنف الرجل. فهي زوجة وأم وبنت وحبيبة و عشيقة، لا حياة لها خارج حماية رجل وستار اسمه، هي أم فلان وزوجة فلان وبنت فلان وجارية فلان. مع كل ما ينطوي عليه الأمر من تصادم فكري ونفسي، وازدواجية دوري الأم والبنت. وهنا تتولد أولى بوادر الخلاف والصراع بين الأبن والأب، جراء افتراق نظرتهما للمرأة نفسها، التي هي أم الأول وزوجة الثاني في نفس اللحظة.
رغم أن الأبن سوف يكرر الموقف نفسه في النظرة السلعية للزوجة، قبل أن يولد أوديب وينافسه فيها.
طفولة بلند الشقية جعلته على مسافة واحدة من الأبوين، فلم ينحز للأم ولم يعادِ أباه. وأتاح له استقلاله النسبي أن يقلب نظره للأمر من صعيد فكري فلسفي أكثر منه عاطفي اجتماعي. فخلا شعر بلند من الحدة والانفعال وجموح العاطفة وحماسة ابي تمام. انه هادئ متأمل راسخ منساب، جالس على حافة نهر الطبيعة يراقب جريانها عبر العصور. حالة بلند هذه تدكر بالرصافي الشاعر والمفكر والثائر، لكنه ليس العاشق والمتصابي أو المبتذل بعواطفه وانفعالاته، إلى جانب حفظه لمكانة المرأة وتوقيرها في شعره عموما. نظرة أولئك النفر المميز للمرأة، ووقوفهم أمام اشكالية المكانة والوجود انعكست فلسفيا وسلوكيا في امتناعهم عن الزواج [الرصافي، حسين مردان، جان دمو، سركون بولص] وجاء زواج السياب وبلند متأخرا نسبيا.
ولعل الصلة بين بلند وقباني أقوى من سواها ولا تقل عن صلته بالرصافي وأبي شبكة. فالاثنان جعلا المرأة موضوعهما الشعري الرئيس. وإن اختلفت المناهج والأساليب والرؤى. وتعود بدايتهما إلى زمن متقارب نسبيا. لكن قباني كان جموحا ثائرا عاطفيا متمردا في شعره، ولم يكن ذلك من دأب بلند وطبعه الهادئ. والاثنان عاشا في بيروت وانطلقا منها إلى لندن، وفي وقت لاحق تحولا للشعر السياسي وتعاطي الشأن العام. لكن هذا لا يقلل من كون بلند أول شاعر عراقي يسخر شعره للمرأة، وإن على طريقته الخاصة.كما أن لميعة عباس عمارة أول شاعرة عراقية تتغزل بالرجل.
لمَ يدهشكم أني امرأة في الخمسين
تتأبط زند فتى في العشرين من مجموعتها: هكدا أنبأني العراف
. نزار قباني تخذ المرأة أداة شعرية للوصول للناس والشهرة، ولم يصدر عن حاجة نفسية أو اجتماعية خاصة، بينما كانت المرأة تعويضا نفسيا عن الدفء والاستقرار العائلي المختزل في حياته. المرأة عند بلند حاجة وليست وسيلة، يطلبها لذاتها لا لجسدها.. لنفسه، وليس للمنظر الاجتماعي..
كوني ولو للحظة
دما.. فما.. جهنما
تقذف في عينيك ألف شهوة مخبأة
كوني امرأة
يا خيبة تموت خلف النافذات المطفأة
كوني امرأة
وليحلم الثلج الذي في ناظريك
مرة بمدفأة!.. – قصيدة حلم بالثلج
لكنه يتوجع عندما يجد فيها الجارية والعبدة ولا يجد عنفوان الحبيبة النابض بالحياة والجمال والدفء، فيعاود النداء: كوني امرأة.. كوني امرأة!.. برود المرأة – الشرقية- يكشف أحد أبعاد خيبته، رغم أنه ليس سببا رئيسيا..
شتوية أخرى
….. وهذا أنا
هنا
بجنب المدفأة
أحلم أن تحلم بي امرأة
أحلم أن أدفن في صدرها
سرا
فلا تسخر من سرّها
أحلم أن أطلق في منحنى
عمري سنى!.. – قصيدة شيخوخة
وإذا كان قباني قد وجد المرأة التي يبحث عنها في الشعر أو الحياة، فأن خيبة بلند هي سمة عامة تسم شعره وحياته. وفي قصيدة – كبرياء- يشكو عدم اهتمامها ولامبالاتها تجاهه.. فالتركيز على الجانب النفسي والفكري يبدو واضحا من جانبه، بينما لا يتجاوز تفكيرها جسدها..
أنت التي لا تدركين
ماذا أريد
ولعل لو أدركت قلت لآخرين
وبضحكة رعناء مثل الآخرين
ماذا أريد … ! ؟
ومحوت هاتيك السنين
وتصلب الوجه الحزين
ولعدت أزحف من جديد
في مدفني الرطب الوحيد
....
كغد اللصوص الخائفين
ماذا أريد … ! ؟
لصرخت بالظل الذي يهتز في خجل مهين
لصرخت بالوجه الحزين
وبكل ما حملت هاتيك السنين
ماذا تريد … ! ؟
ولعدت أضحك مثلهم …
كالآخرين
أنت التي لا تدركين
ماذا أريد
لِمَ تسألين
عما أريد
أنا لا أريد
أنا لست مثل الآخرين - قصيدة: كبرياء
ويلحظ قارئ بلند الحيدري كثرة تناصاته الشعرية مع نفسه.. حيث تتكرر أبيات أو جمل شعرية معينة في غير قصيدة.. مثل لازمة [أنا لا أريد، أنا لست مثل الآخرين] التي ترد أيضا في قصيدة ساعي البريد، وتكرار ألفاظ مقصودة بذاتها كالمدفأة والمطفأة المتعلقة بموقفه من البيت والمرأة. وهذا يعود أيضا لاستقرار نظراته ومواقفه من أمور بعينها، إضافة لتراجع اهتمامه الشعري بنفسه، جراء استمرار تهميشه أو فشله في تصدر المشهد المشهد الدي بزه فيه من لحقوا به، فاجتذبته الاهتمامات النثرية والصحفية.
المرأة الأم..
بلند أيضا لم يترك الكثير من الشعر، وعدد كتبه الشعرية لم يتجاوز أصابع اليدين.. وهو أمر يتعلق بطبيعته من جهة وموقفه من الحياة والشعر، ومشاعر الخيبة والاحباط. وما يمكن قوله هنا أنه أقل ميلا للافصاح، وكما سبقت الاشارة فقد اتجه للسياسة وتراجع اهتمامه بالمرأة والذات.. لكن ما يلفت الملاحظة استعادته صورة البيت والأبوين مع تقدمه في السن، مع احتلال الأم المكانة الأوسع. ففي المنظور الميثولوجي والنفسي الحديث على السواء، ترتبط صورة الحبيبة والزوجة عند الرجل بأمه. وطبيعة العلاقة بين الأم والطفل تنعكس لاحقا على تصوره ونظرته لشريكة العمر. الواقع أن الزواج هو تعويض لدور الأم، والانسان يبقى – أو يحب أن يبقى- طفلا يحظى بالاهتمام والحب دائما. العكس صحيح أيضا في علاقة المرأة بأبيها وانعكاسها على صورة الزوج. فحالة الاشباع أو الخلل في الطفولة، غالبا ما تنعكس آثارها على العشرة الزوجية سلبا وايجابا. وهو أمر غير ملحوظ، ولا يشكل أهمية في تقاليد العائلة والفكر التربوي، ما ينعكس بالنتيجة على ضعف الروابط العائلية وعدم تحقق الاشباع النفسي والحاجة للدفء والحظوة التي تترجم في جفاف الطبع وقسوة المشاعر وحدة الانفعال. في قصيدة - طفل من الحرب الاولى- يتحدث الشاعر عن ولادته في ظلال الحرب العالمية الأولى والمنعكسة على بلده وأجواء التقشف..
في عالم الخبز الأسمر
في عالم ليال نهمات كجراد اصفر
ولدت أمي
وجهي المدمي
وكبرت مع الحرب الأولى جرحا
ولعقت دمي
وكبرت … كبرت … وصار أسمي
رقما لا يعرف ما اسمي
وعرفت الحرب الأولى
في الخبز الأسمر
في عيني ميت لم يقبر
وبألف ذراع صلبت في دفتر
وحزنت لأمي
ولوجهي المدمى الملفوف بخبز أسمر
والملقى وعدا لجراد أصفر
*
يا أمي
قد كبرت عيناي
وصارت دنياي حديثا اكبر
أكبر من بيت شادته يداي على رمل
…أكبر
من فرحة طفل
بجناح طار به في الحلم … وأكبر
من وجهي المدمى
فأنا يا أمي
يا عتمة ظل لقتيل لم يقبر
اسأل عن معنى لاسمي
في خبزي الأسمر
في جوع ليال نهمات كجراد أصفر
وأنا يا أمي
أبحث في حرب أكبر
عن طفل ميت في عين قتيل لم يقبر
في عام الخبز الأسمر
ولدت أمي
أجيالا من جوع من خبز أسمر
ولدت في وجهي المدمى
حربا أكبر!
المدهب الوجودي الدي ساد في عراق الأربعينيات والخميسينات يقوم على مبدأ الفرد المسؤول. ولكنها في الجانب السارتري القاتم لم تفصل الوجود عن العبث ولم تجد طائلا وراء الحياة. وقد انعكست تلك النظرة على المرأة باعتبارها واهبة الحياة، وتحميل الأم تبعات الألم والمعاناة التي تحاصر الفرد مولود المرأة. وقد كان حسين مردان أكثر قسوة في هذا الجانب ويلحظ كذلك عند جان دمو، كما عند عزوف الرصافي عن النساء رغم تعاطف أولئك عموما مع المرأة التي قدتها الطبيعة أنثى فيقول: وحزنت لأمي!، لكنه لا يستطيع تغيير واقع حاله، وما يلفه من احباط وألم، فيصفها بالقبر الدي يحتوي الجدث (يا عتمة ظل لقتيل لم يقبر.. اسأل عن معنى لاسمي).. والقتيل هو الطفل الدي لا يريد أن يولد في عالم مأساوي، لذلك يناشد أمه بلغة فنتازية وسخرية مبطنة أن تلده في ظل (حرب أكبر) تقضم مواليدها وتكف عن انتاج (أجيال من جوع من خبز أسمر). الحيدري هنا يستحضر خيبة ولادته وهو يراقب مواليد عراقه تطحنهم ماكنة حروب الخليج الأولى والثانية والثالثة دون هدنة. فيسأل عن حرب عظمى حاسمة تضع حدا للاثنين، حسب شهادة راسل: أن لم يضع الانسان نهاية للحرب، فأن الحرب ستضع نهاية للانسان!. وقد مات الحيدري في لندن مثل كثيرين، ولما تزل(الحرب تعمل بجد)*
الحيدري يؤسس لخيبته بالولادة السوداء، ويجترها عبر سنواته حتى بلوغه الثمانين. ورغم صور الموت والدمار تبقى المرأة أكثر عمرا وتعلقا بالحياة (رباه.. احفظ لي حياتي، فأنا لا أريد سوى حياتي!) مجسدا غريزة الأنانية الكامنة خلف فكرة الانجاب. فالمرأة، أيضا، كما السلطة، تؤكد وجودها دون اعتبار لمصير الآخرين. ولابد أن حضور أخبار الحرب من بيروت وبغداد والخليج شحذ الأسى في شعره، فاستعاد طفولته ووجه أمه غير مرة..
أماه
يا أمي
رصاصة في جنبي المدمى
… لا تبعدي
… لا تبعدي عني
كالكلب ها اني
أموت من أجلك يا أمي
لا تبعدي عني!..
أماه
يا أماه
هنا … بلا حبي ولا بسمتي
أغور في الطين
أغور في الجرح
أغور لا أنت معي
أغور لا شمس معي
ولا الهوى العالق في صبحي
وسوف تنسيني
رغم السنا المطفأ في غرفتي
رغم الغد الفارغ يا أمي
فسوف تنسيني!.. – قصيدة عشرون ألف قتيل.. خبر عتيق
فصورة الأم والطفولة لدى بلند لا تنفصل عن الحرب والموت قتلا. وكالعادة، لا يكف بلند عن تمرير سخريته وسورياليته المجللة في نفس القصيدة والعلاقة بالأم..
(لندن)
وتدق بيك بن
دن … دن
(عشرون ألفا)
- لا … كفى خبر عتيق كالمذيع
(قتلوا ليحيا الآخرون)
أنا أتمتم :
يكذبون … ويكذبون
وتقول أنت :
من الحفاة
(قتلوا لتزدهر السنون)
وأنا أتمتم :
يكذبون … ويكذبون
وتقول أنت :
من القطيع
وعلى شفاه أخريات
صوت يهمهم كالصلاة
أمي تتمتم في صلاة :
رباه …
أحفظ لي حياتي
أنا لا أريد سوى حياتي!.. – قصيدة عشرون ألف قتيل.. خبر عتيق
الطريق المسدود الدي بلغه أو نهجه الغرب، جعله لا يجد سعادته بغير شقاء الآخرين، ولا يضمن حياته وسيادته بغير دمار البلدان والشعوب. (قتلوا ليحيا الآخرون، قتلوا لتزدهر السنون)، والذين يموتون هم الحفاة والقطيع.
منظوره الاجتماعي للمرأة..
تأثر شعره وفكره بالتيارات الاجتماعية الاصلاحية الحديثة متجهاً للمرأة كضحية للغبن والاستغلال الاجتماعي. مثلت المرأة محور خطابه الشعري، باحثاً عنها تارة ومنافحاً عنها أخرى. لكن شعره ليس غزلياً بالمعنى التقليدي الدارج أو الكلاسيكي. ولعله من الرواد في كتابة القصيدة المركبة، التي تتجاوز الدفقة الشعورية أو الحالة العاطفية الحسية المباشرة إلى البعد النفسي الانساني. فلا ينظر إلى المرأة كجسد مجرد يمكن تقطيعه إلى قطع غيار وانتقاء ما يناسب مائدة الشعر أو الشعور، كما فعل نزار قباني في بناء هرم شعري قائم على تداعيات حسيّة ولغوية، دون تجاوز الإطار العاطفي السطحي. والذي يكشف سطوة البلاغة اللغوية المنحدرة من تراث الغزل العربي التقليدي الذي لا يرى في المرأة غير الجارية وقطعة ديكور لسدّ حاجة الرجل أو العائلة أو المطبخ. كما يكشف من الجهة الأخرى حالة الترف الاجتماعي والدعة المنطوية تحت هشاشة التجربة العاطفية الخالية من مناسيب الشوق والألم والمعاناة، محلقة في أجواء رومانسية بعيداً عن أرضية الواقع المسكون بالتخلف والجوع والحاجة والغبن. ولعلّ صورة يرسمها مظفر النواب في قصيدة الوتريات تترك أثراً أبعد مدى من لغة قباني الغنائية إذ يقول: تقطر حليب اللوز.. وأنا تحت النهدين إناء. أو صورة محمد حلمي الريشة إذ يمنح النهد حالة الطائر المحتجب من جهة، ليكاشف قارئه: لضرورة الصدر، لن أفتح كمثراي، ثانية، ليفرّ فرحي، لن../ - كثيراً ما تبدو الطيور أجمل في أقفاصها!. ويجمع بين اللذة الحسيّة والجمالية، صورة الكمثرى (نبات/ فاكهة) والطائر (حيوان أليف) زاهداً باللمس أو الارتشاف مجسداً صورة نفسية جمالية، تلتقي من طرف آخر مع رؤية بلند الحيدري في قصيدته (ساعي البريد) ذات الدلالات المركبة..
ساعي البريد
ماذا تريد
....
أنا لا أريد..
أنا لست مثل الآخرين.
فخطاب المرأة لدى الحيدري نابع من وعي اجتماعي حديث ورؤية نفسية عميقة عندما ينظر إلى نفسه في ليلة من ليالي الشتاء حيث تدور مضامين كثير من قصائد المجموعة فيقول:
أنا.. هنا وحدي
بجنب المدفأة
أحلم..
أن تحلم بي
إمرأة!..
وهو تعبير نفسي عميق عن الوحدة والوحشة والحاجة للآخر، دون تصريح بالنداء أو تحليق مجنّح في اللغة.
صورة الشاعر الأخيرة..
يبقى أن بلند الحيدري، الشقيق الأصغر والمتمرد للشاعر صفاء الحيدري، والذي هجر بغداد وهو في ريعان شبابه إلى بيروت متسكعاً في غربة امتدت به حتى آخر العمر ليتوفى في لندن أواسط التسعينيات تاركاً وراءه أسئلة وأوراقاً وهواجس، حرياً بالبحث والدراسة والذكر والتداول في قراءة المدونة الشعرية العراقية. ترك في مكتبة الشعر العربي بضعة مجاميع ابتدأت ب(خفقة الطين). ساهم مع جماعة الوقت الضائع في الأربعينيات، وفي الخمسينيات شكل جمعية أصدقاء الأدب في بغداد، وفي لندن كان الشاعر أحد مؤسسي تجمع الدمقراطيين العراقيين في التسعينيات، الفترة التي ساهم فيها في النشاط السياسي لتشكيل صورة جديدة لعراقه.. ولم يعلم أن البلد الذي ستتعدد هويات مواطنيه، سينتهي من غير هوية. ومن الطريف أن الحيدري الذي لم يكن من شعراء الصف الأول في المشهد الشعري ولم ينضوِ تحت لافتة مؤسسة ما، لم يتراجع إسمه عن اللوحة الضوئية طيلة حياته الشعرية الحافلة بأهم وأكبر الأسماء الشعرية والمدارس الأدبية عربياً وعالمياً.
بلند الحيدري [1926- 1996] من رواد الحداثة الشعرية في العراق، عضو جماعة الوقت الضائع الأدبية في اربعينيات القرن الماضي وعضو جماعة أصدقاء الأدب في الخمسينيات، ساهم في تأسيس حركة الدمقراطيين العراقيين في التسعينيات. شغل مراكز ثقافية في الصحافة العراقية والعربية وصحافة المهجر. من بينها: المحرر الثقافي في مجلة الشؤون الزراعية في الخمسينيات إلى جانب السياب وحسين مردان، مجلة علوم اللبنانية، مجلة أفاق عربية في بغداد, إضافة للشعر له مساهمات في النقد الأدبي والرسم التشكيلي. صدرت له الكتب التالية: في مجال الشعر: خفقة الطين/ 1946، أغاني المدينة الميتة/ 1951، جئتم مع الفجر/ 1961، خطوات في الغربة/ 1965، أغاني الحارس المتعب/ 1971، حوار عبر الأبعاد الثلاثة/ 1972، إلى بيروت مع تحياتي/ 1989، دروب في المنفى/ 1996. وفي النقد الأدبي: رحلة الحروف الصفر/ 1968، نقاط ضوء/ 1979، مدخل إلى الشعر العراقي الحديث/ 1987. وفي التشكيل: زمن لكل الأزمنة/ 1979.[1]