دور معركة كوباني في عولمة المسألة الكوردية في سورية*
د. آزاد أحمد علي**
منذ الأشهر الأولى للانتفاضة السورية أدى الخطاب الذي طغى علية الصبغة الإسلامية والقومية العربية على ابتعاد العديد من أبناء الشعب الكوردي، خصوصا المقربين من حزب الاتحاد الديمقراطي عن هياكل المعارضة العربية السورية. في الجانب الآخر فضلت بعض المنظمات والشخصيات الكوردية التحالف، بل التماهي مع مجموعات المعارضة «العربية» المستجدة على الساحة السورية، خاصة بعد انتفاضة ربيع 2011.
ولقد نافست، بل قلدت أطراف من المعارضة السورية، النظام الحاكم في دمشق بالتوجه نحو المناطق الكوردية، كونها غنيمة سهلة للاستثمار السياسي فيها، فضلاً عن نهب ثرواتها. فاشتد التنافس بين أجنحة المجموعات المسلحة السورية لإخضاع المناطق والمساحات التي خرجت من سيطرة الحكومة، وذلك لمنع إشغالها من قبل القوات الكوردية وحلفاؤهم. فتسارعت الهجمات والمناوشات لدرجة أن العديد من المؤسسات الإعلامية كانت تخلط بين مسميات الجهات المهاجمة والمتصارعة. وبصرف النظر عن عدم دقة التغطية وكذلك مسميات القوى المتقاتلة، لكن المعلومات المثبتة في عام (2012) تؤكد تَكَوُن بيئة مشجعة للهجوم على سكان المناطق الشمالية من سوريا، وعلى الحراك الكوردي فيها على وجه الخصوص، مع رغبة الجهاديين في مهاجمة الأقلية المسيحية في ريف ومدن محافظة الحسكة.
في خضم هذه الصراعات المتعددة المستويات مهدت جبهة النصرة (ج.ن) الطريق وساهمت في تكوين وتقوية الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش)، لكن الصراع والانقسام تسرب إلى صفوفهما، وانقسما بناء على جملة من المواضيع، منها خلافهم على السياسات المتبعة حيال المناطق الكوردية، حيث تعاظمت قوة (داعش) بالارتباط الوثيق مع الهجوم على الكورد والمسيحيين، فالسيطرة على منابع النفط والبوابات الحدودية لمناطق شمالي سوريا، وتجاوزت (داعش) (ج.ن) في استعراض القوة والوحشية، حتى استقطبت عدادا أكبر من أبناء القبائل العربية في الجزيرة السورية، لأكثر من سبب.
يبدو أن الرغبة الجامحة في الاستيلاء على المناطق الكوردية لم تخص (ج.ن) وحدها، بل تعددت الأطراف الأخرى الساعية لذلك، بالتوازي مع ارتفاع مستوى التوتر السياسي، إذ قامت بعض فصائل «الجيش الحر» بالهجوم على مدينتي القامشلي والحسكة. كما يمكن ربط الهجوم الواسع بدءًا بصيف عام 2012 على المناطق الكوردية شمالي سورية مع التقدم العسكري والسياسي للقوى السياسية الكوردية، رغم خلافاتها، فقد توحدت في إطار «الهيئة الكردية العليا»، وبالتالي، يمكن إحالة هذه الهجمات إلى نوع من الردود الاقليمية والسورية الداخلية على مناخ التوحيد والتنسيق في البيت الكردي، حيث رسخت جهود التوحيد المخاوف من التحرر الكوردي وتحقيق إنجازات سياسية لاحقة. لكن صورة المشهد من داخل البيت الكوردي لم تكن وردية، حيث تمكن طرف واحد من استثمار المتغيرات لصالحه وضمن أجنداته الحزبية. وانزلق الطرف الآخر وتمركز تحت مظلة الائتلاف، فالهيمنة التركية.
على الصعيد العملي ساهم إعلان الإدارة الذاتية في بلورة وترسيخ الانقسامات السياسية للأحزاب الكوردية، فتوزعت على المحورين الرئيسين للمعارضة السورية، ائتلاف قوى المعارضة وهيئة التنسيق، إلا أن جميع الأحزاب الكوردية باتت تعاني من إشكالية مطالبتها بحقوقها القومية ضمن هذين المحورين، بنفس القدر واجهت المعارضة العربية بحساسية زائدة الطموحات القومية الكوردية التي لم تكن تهتم بها سابقاً. لذلك يظل الافتراض بأن الصراع العسكري على المناطق الكوردية كان بصيغة ما تعبيراً عن الاختلافات والصراعات السياسية الكامنة.
= استهداف مرسوم وممنهج للمناطق الكوردية في شمالي سوريا
لقد استهدفت معظم الفصائل العربية المسلحة المناطق الكوردية، كاستمرارية لسياسة الغنيمة التي مارستها السلطات «العربية الحاكمة» في دمشق ازاء المناطق الكوردية ومجتمعاتها الفلاحية المنتجة. تبلورت أهداف الهجوم والرغبة في السيطرة عليها أواسط عام 2013، بل بالغت بعض الفصائل في تطرفها، فطردت السكان الكورد من المناطق التي لا يشكلون فيها أغلبية، هذا ما بينته سياقات الهجوم على تل أبيض ومجريات حصار كوباني، إذ قامت الفصائل العربية المسلحة بتنفيذ أول هجماتها على الريف الغربي لكوباني وشن حربه الأولى في تل أبيض، والتي بدأت بحملة التجريف العرقي في تموز 2013، كما قامت مجموعات مسلحة بفرض حصار على مدينة كوباني في آب 2013، وبعد شهر تم الاتفاق وفك الحصار جزئياً من قبل كل تلك الفصائل، عدا داعش الذي رفض الهدنة. علماً أنه تم طرد جميع العائلات الكوردية من مدينة الرقة يومئذ. إلى أن شكل هجوم داعش الرئيس على كوباني في أيلول 2014 ذروة الصراع العسكري والسياسي على الساحتين السورية والإقليمية، حيث بدأت عملية اصطفاف حادة، لم تأتي لصالح المسار السلمي للانتفاضة السورية من جهة، ولا لمصلحة التضامن الكوردي – العربي من جهة أخرى، وبالتالي انحرف النزاع السوري حول تغيير السلطة باتجاه القومنة، ونجحت داعش في التركيز على كوباني ونسيان النظام في دمشق، لقد هاجمت داعش بالأصالة عن نفسها وبالنيابة عن غيرها من قوى التطرف القومي والديني على منطقة ومدينة كوباني (عين العرب)، كما تزايد تعاطف وتضامن عموم الكورد مع قوات حماية الشعب (Y.P.G) وقوات حماية المرأة (Y.P.J)، لدرجة أن عدداً غير قليل من المتطوعين الكورد قدموا من كوردستان تركيا للدفاع عن مدينة كوباني.
بعد احتلال الموصل وإعلان الخلافة الاسلامية الداعشية صيف 2014 استكملت عناصر عولمة الجهاد السلفي، وبات خطرها يهدد المنطقة وأطراف من العالم البعيد. وضمن سياقات معركة كوباني وعبر مقاومة المقاتلين والمقاتلات الكورد لداعش، حتى تحرير المدينة في 26 كانون ثاني 2015، تم تسجيل نصر ذات دلالة رمزية على الإرهاب، نصر تلمسه عموم العالم المتحضر، كما تعولمت عبر المعركة المسألة الكوردية، فبات معروفاً من هم كورد سوريا، ولماذا ظلوا محرومين من حقوقهم. ولم تعد كوباني رمزاً للمقاومة والتحرر الكوردي فقط، بل رمزاً لمقاومة العالم الديمقراطي للإرهاب، وباتت معركة كوباني تنسج دلالات سياسية وأيديولوجية متنوعة: أولها أن طبيعة الشعب الكوردي المسلم لا يقبل التطرف الاسلامي الجهادي المعولم، وأن المرأة الكوردية قد جاوزت بتحررها وتنظيمها نساء المجتمعات الصناعية الأوروأمريكية، وأخيراً دافع المقاتلون الكورد عن قيم التنوع والتعايش السلمي، وهم حلفاء موضوعيون لكل قوى التحرر والديمقراطية المحلية منها والعالمية.
كما جاءت مساهمة قوات البيشمركة ومرورها عبر الأراضي التركية، لأول مرّة في تاريخها، منعطفاً في تاريخ كوردستان، وترجمة لتضامن قومي كوردي تحت غطاء الشرعية الدولية، إذ كانت أول قوات نظامية لدولة مجاورة – حيث الإقليم جزء من العراق دستوريا – تتدخل في الحرب الأهلية السورية. فقد وصل حوالي (150) من قوات البيشمركة مع أسلحتهم بدءًا يوم 28-10-2014 على التوالي إلى مدينة كوباني لطرد مقاتلي داعش منها. وعلى الرغم من معارضة نظام دمشق، إلا أنه ارتضى ضمناً بالنتائج، فالبيشمركة بأسلحتها الثقيلة وبالقصف المدفعي المكثف، رجَّحت موازين القوى لصالح القوات الكوردية المشتركة المدافعة عن مدينة كوباني، وبمساهمةٍ فعَّالة من التحالف الدولي التي كانت تقصف من الجو.
لقد شكلت معركة كوباني (عين العرب) منعطفاً حاداً في مسار الحرب الداخلية السورية، كما ساهمت في تعويم وعولمة المسألة الكوردية في سوريا بوصفها مسألة شعب مسالم يعيش على أرضه التاريخية، مجتمع منتج، تم استنزافه واستغلاله عبر التاريخ، حُرم من حق تقرير مصيره السياسي وإدارة مجتمعاته المحلية، تعرض لكل سياسات الانكار والاضطهاد القومي، وصولاً إلى حرب الابادة الجماعية.
هذا وقد حققت انتصارات وحدات حماية المرأة YPJ وكذلك وحدات حماية الشعب YPG بالإسناد من قوات البيشمركة معلماً، بل مشهداً ذات معنى جديد في مجمل النضال التحرري لليسار العالمي في مواجهة القوى الظلامية. لدرجة أن إلتحق العديد من الشابات والشباب اليساري من مختلف أصقاع العالم بهذه القوات، وتم إعادة إحياء ما يشبه (أممية جديدة) وناعمة، أممية عملية وبسيطة، تتلخص في مواجهة الإرهاب، ومساندة الشعب الكوردي، وإبراز دور المرأة الثورية المقاتلة في سبيل الحريات. ولم يتوقف هذا التعاطف بمشهديته الغنية على الجانبين السياسي والعسكري، بل تعدى ذلك إلى أن تمظهر في تقليد ارتداء زي وحدات حماية المرأة من قبل الفتيات في عدد من الدول الأوربية والأمريكية. كما انتقلت مفاعيل معركة كوباني لتجد معادلها في الأدب والفن، فصدور رواية (بنات كوباني) بالإنكليزية مؤخراً، وإعلان السيدة هلاري كلنتون وابنتها عزمهما على تحويل الرواية إلى دراما تلفزيونية، تُعدّ ذروة التأثر بمعركة كوباني وترجمة راقية لثمرة بطولات وتضحيات أبناء وبنات الكورد في سبيل الانسانية، عبر تحوليها إلى فن درامي معاصر وفعَّال، وهي عملية إحياء لمجد وأهمية هذه المعركة الحضارية والثقافية العالمية، وليست الكوردية، ولا السورية فقط.[1]