معجم القبائل والزعامات الكردية في العصر الوسيط: «خلائقٌ(* ) لا تُحصى وأممٌ لا تُحصَر» (1/2)
بدرخان علي
مجلة الحوار- العدد 73- السنة 26- 2019م
مقدمة : التاريخ الكردي الضائع وفضل المصادر العربية – الإسلامية
لا يُعرف تاريخ الكرد من غير معرفة القبائل الكُردية وتاريخها وتحوّلاتها. إذ يكاد يكون التاريخ الكردي حتى مطلع القرن العشرين هو عينه تاريخ القبائل والأسر الحاكمة، التي غالباً ما تكون زعامات عشائرية، وصراعاتها، لا تاريخ المدن والعمران والثقافة. وما زالت القبيلة الكردية تحتفظ بحضور ملموس في المشهد العام في بعض أجزاء كردستان (كردستان العراق وتركيا خصوصاً) بدرجات متفاوتة. وعلى هذا الأساس تكتسي دراسة القبائل الكردية وتوزعها الجغرافي وذرى قوّتها أو اضمحلالها وتدهورها أهمية بالغة للمؤرخين والباحثين في شؤون التاريخ الكردي.
——————————-
وفي الحالة الكردية وبغياب سردٍ كرديّ للتاريخ القديم أو الوسيط، والحديث، بسبب غياب التدوين وأسباب أخرى ليس هنا موضع نقاشها، تشكل المصادر العربية بصورة أساسية و (الفارسية والسريانية و الأرمنية و التركية واليونانية..بدرجة أقل) المُعين الأول للباحثين والمؤرّخين في استكشاف التاريخ الكردي. ولهذه الأسباب مجتمعة هناك فجوات كثيرة ومراحل وحقب غير مطروقة، يلاحظها القارئ للتاريخ الكردي. وهو ما يزيد من أعباء الباحث والمؤرخ المعاصر وهو يحاول تدوين هذا التاريخ من معلومات متناثرة ومبعثرة هنا وهناك.
المصدر الكردي الوحيد للتأريخ الكردي الوسيط هو كتاب «شرفنامه» للأمير (شرفان خان البدليسي) المدّون باللغة الفارسية، وُضع بين أعوام 1597-1599 م(1)، ثم ترجم إلى بقية اللغات، لكنه يبقى سرداً كردياً ومدوّنة تاريخيّة كرديّة تأسيسيّة. يليه بعدة قرون كتاب «خلاصة تاريخ الكرد وكردستان» (2) الذي وضعه العلامة محمد أمين زكي في عام 1931 بالكردية ومنها تُرجم إلى بقية اللغات. وبين هذين المؤرخَيَن الكرديَيَن، هناك مؤلَّف في التاريخ الكردي للعلّامة الكردي ملا محمود بيازيدي (م 1797-1868) لم يصلنا، أو لم يكتشف حتى الآن. وهو كتاب من ألف صفحة يبدأ من حيث ينتهي شرفخان البدليسي(3). وكذلك رسالة عن القبائل الكردية وتوزعها الجغرافي، لم تصلنا أيضاً. وما وصلنا للبايزيدي هو تعريف مُبسّط بعادات الأكراد الاجتماعية وظروف عيشهم لغير الكرد – إن جاز التعبير- مع تلميحات تاريخية بسيطة في مؤلفه المترجم للعربية تحت عنوان (رسالة في عادات الأكراد وتقاليدهم) (4) .
وتشكل المصادر التاريخية العربية المَنهلَ الأساسي في مضمار التأريخ الكردي ولحسن الحظ أن قُدامى البلدانييّن والرحالة والجغرافيين العرب قدّموا الكثير من المعلومات الغنية حول الكرد وقبائلهم وانتشارها وجغرافية بلادهم . ولولا هذا التأريخ العربي للتاريخ الكردي لما أمكن معرفة أي شيء تقريباً عن تاريخ الكرد في العصر الوسيط. ولا غرابة هنا، فالكرد جاوروا العرب وكانوا مكوناً أساسياً من مكونات الحضارة الإسلامية – العربية . أركز هنا على كلمة العربية لأن الإسلام منح لعرب الجزيرة العربية قوة دافعة للانتشار في أمصار بعيدة وتعريبها، كما أن العربية أضحت لغة الحضارة الإسلامية بلا منازع، رغم التعددية الأقوامية والإثنية داخل المجال الحضاري الإسلامي بعد الفتوحات.
القبائل والزعامات القبلية الكُردية في العصر الوسيط :
يشكّل كتاب (القبائل والزعامات القبلية الكُردية في العصر الوسيط)(5) لمؤلِّفه د. زرار صديق توفيق(6) إضافة مهمّة للغاية في مضمار التأريخ الكردي. فقد ألّف بحقّ (معجماً) للقبائل الكردية في العصر الوسيط (كما قال عنه أستاذه د. حسام النقشبندي في تقديمه للكتاب)… بحسب ما توفر من مصادر مكتوبة، منقّباً فيها، مدققاً في المعلومات المختلفة بين المصادر .
صحيحٌ أنه بعض معلومات الكتاب قد نجدها في مؤلفات أخرى وكتب عدة، لكن لم يسبق، حسب معرفتي، تأطيرُ هذه المعلومات وتدقيقها وتبويبها في مؤلف واحد على هيئة هذا الكتاب الذي بين يدينا. وهو كتاب يشبه (معجم الأنساب والأسرات الحاكمة في التاريخ الإسلامي للمستشرق زامباور) و( السلالات الإسلامية الحاكمة ، تأليف : كليفورد إدموند بوزورث)، لكن على نحو أكثر تفصيلاً، لأنه يعنى بشؤون القبائل بشكل أساسي وانتشارها وإماراتها، وليس الأسر الحاكمة وحسب. والسطور هذه، تأتي قراءة في هذا الكتاب/ المرجع، مع تعليقات وشروحات على متن الكتاب واستخلاصات منه.
يبحث الكتاب في شؤون القبائل الكردية في العصر (الكردي) الوسيط الذي يبدأ بمطالع العهد الإسلامي وحتى بدايات القرن العاشر الهجري/ السادس عشر الميلادي-معركة جالديران 920ﮪ/1514م(7). و كما نلاحظ أن هذا التحقيب معدّلٌ قليلاً عن التحقيب الإسلامي المعروف. وهو تحقيبٌ منطقي في دراسة التاريخ الكردي، لأن معركة جالديران بين الإمبراطورتين الصفوية والعثمانية تعتبر نقطة فاصلة في التاريخ الكردي، حيث قُسّمت بلاد الكرد بين الإمبراطوريتين، وافتتحت صفحة جديدة في التاريخ الكردي والقبائل والإمارات الكردية وارتباطها بالسلطات الإمبراطورية الجديدة توافقاً أو صراعاً أو مزيجاً من الأمرين .
لسوء الحظ وعلى قلّة ما وصلنا، بفضل ما هو مدّون عن الأكراد في بطون المصادر العربية، هناك مؤلفات مفقودة كان من شأنها إضاءة الكثير من الجوانب المغفلة أو المهمة في تاريخ الكرد وهي في حدود ثلاثة عشرة كتب أشار إليها المؤلف، تبدو ذات أهمية لأنها تتعلق بالأكراد أو بمناطق انتشارهم، ورد ذكرها عند مؤرخين لاحقين. أهمهما كما يظهر من العنوان كتاب: (القلاع والأكراد لأبي الحسن علي بن محمد المدائني (ت: 225ﮪ/840م) و كتاب (أنساب الأكراد لأبي حنيفة الدينوري (ت:282ﮪ/895م) ، أشارت المراجع الفارسية المتأخرة إليه(8).
ويقول المؤلف أن غالبية القبائل والطوائف الكُردية احتفظت بأسمائها التأريخية الأصيلة، وبعض هذه الأسماء كانت قديمة، ربما تعود إلى عهود ما قبل الإسلام، كالجاوان والبُختية والبَشنوية والرُهزادية والهَذبانية ودُنبلي والبَرزكان والكوران والكيكان وشيرويان وغيرها، وحملت قبائل أخرى أسماء عربية إسلامية كالحميدية والحكمية والسليمانية والزرقية، وهناك قبائل غير قليلة سميت وعرفت باسم مواطنها وقلاعها كالهكارية والجولميركية والقَيمُرية والداربان أو باسم شيخها ومرشدها الروحي الأول كشيخ بزيني والميكائيلية والمحمودية، ومن الغريب، كما يضيف المؤلف، أن هناك قبائل تحمل أسماء عربية صرفة، وهي في الوقت ذاته أسماء لقبائل عربية معروفة، كالقريشية والقحطانية والمالكية، على أن المصادر تؤكد على كُرديتها(9). أعتقد عند هذه النقطة كان ينبغي على المؤلف التوقف على دوافع ادعاءات زعماء قبائل كردية كثيرة أصلاً عربياً وما إذا كان لذلك علاقة بتلك التسميات، والتعليق على نظرية الأصل العربي للأكراد التي وردت عند بعض المؤرخين العرب والمسلمين .
عند قراءة هذا الكتاب أو مؤلفات تاريخية أخرى، قد يستغرب القارئ الكردي المعاصر أن قبائل كردية كبيرة لعبت أدواراً كبيرة في التاريخ الكردي الوسيط ولم يبقى لها أي أثر في التاريخ الحديث. والظاهرة لا تقتصر على التاريخ الكردي فقط، فرغم اهتمام العرب بمسألة الأنساب والأصول ووجود مدونة عربية ضخمة في هذا المجال إلا أن هناك انقطاع في تسلسل بعض الأنساب، فما بالنا في غياب مدوّنة تاريخية كردية؟ يعلّل المؤلّف الحالة الكردية بأن «عدد القبائل الكُردية لم يكن ثابتاً خلال الحقبة التأريخية لهذه الدراسة فظهرت قبائل جديدة واختفت قبائل أخرى أو عرفت بأسماء أخرى، وتفرعت القبائل الكبيرة إلى بطون وأفخاذ، ثم صارت كل بطن قبيلة مستقلة بحد ذاتها، فهناك قبائل عديدة كالجاوان والهذبانية والحميدية والبَرزكان كانت معروفة وقوية وكثيرة العدد خلال العصر العباسي، وكانت لها سلطة ونفوذ وأملاك واسعة، ثم اختفت نهائياً خلال العهد المغولي والتركي، ولم يبق لها ذكر ولا خبر، وما من شك في أن وراء هذا الاختفاء أسباب سياسية واقتصادية قاهرة، يأتي في مقدمتها تعرض أقاليم كردستان للحملات التركية والمغولية والتيمورية والتركمانية طيلة أربعة قرون (5– 9ﮪ/11–15م) والتي ألحقت بطبيعة الحال خسائر بشرية ومادية جسيمة بالقبائل الكُردية وقضت على نفوذها وأزاحتها عن ديارها وأرغمتها على ترك مواطنها والبحث عن مواطن جديدة آمنة، وبالمقابل ظهرت خلال القرون الثلاثة الأخيرة من العصور الوسطى قبائل أخرى لم تكن معروفة خلال العصر العباسي، أو أنها كانت تعرف باسم آخر كما ذكر.»(10)
ويلاحظ المؤلف أن القبائل والطوائف والجماعات الكُردية المرحلة من بلادها إلى ديار الغربة ببلاد الشام ومصر، لم تترك وراءها خلافاتها القديمة ولم تطرح أسباب الفرقة والعداوة فيما بينها جانباً، وأصاب العمري الحقيقة حين وصفهم بقوله «ولا يزال بينهم سيف مسلول، ودم مطلول وعَقّدَ نظام محلول، وطرف باكية بالدماء مبلول»، فالبابيرية واللاوينية وهما من قبائل شهرزور ونزح منهما الآلاف إثر الغزو المغولي لبلادهم إلى الديار الشامية والمصرية واستقروا في نهاية المطاف ببلاد المغرب، حملوا معهم نزاعاتهم القديمة وتجدد القتال بين الأسر البابيرية واللاوينية سنة 674ﮪ/1275م وجرت بينهما الوقائع بمدينة فاس، استخدمت فيها السهام والقسي «وكادت تكون الفتنة بينهم كما كانت في مواطنهم الأولى» على حد قول ابن خلدون.(11)
ويؤرخ المؤلف للظهور الفعلي لأغلب إمارات الجيل الأول من الإمارات الكُردية أنه كان خلال العهد البويهي (334-447ﮪ/946-1055م) بسبب السياسة اللامركزية التي انتهجها أمراء آل بويه الأوائل، إلى جانب أسباب وعوامل كثيرة أخرى ، أما إمارات الجيل الثاني، فقد ظهرت عقب انحلال دولة المغول الايلخانيين وتفككها إلى دويلات.(12)
بلاد الأكراد وانتشارهم :
من خلال الكتاب يمكن التعرف على كثافة الوجود القبائلي الكردي في بلاد أربيل و شهرزور والجزيرة الفراتية (ما بين النهرين- ميزوبوتاميا) عموماً وكذلك في إقليم الجبال وأرمينيا وفي أذربيجان ولورستان وفارس، ويظهر من هذا الانتشار أن الوجود الكردي لا يقتصر على الجبال بل يمتد إلى السهول والمدن، فكثافة الحضور القبائلي الكردي في أرياف ومدن شهرزور وأربيل والجزيرة في العصور الإسلامية الأولى أوضح دليل على ذلك، من دون أن نزعم أن هذه المناطق كانت للأكراد وحدهم، فالوجود الأرمني والعربي والسرياني والفارسي في هذه المناطق لا يقبل الشك، بصرف النظر عن نسب الأقوام تلك خصوصاً في المناطق السهلية الأكثر تنوعاً كإقليم الجزيرة مثلاً.
يقول المؤلف «المناطق الجبلية الوعرة الواقعة غرب الهضبة الإيرانية (جبال زاكروس) وشمال بلاد ما بين النهرين هي الموطن الأصلي للقبائل الكُردية ومركز تواجدها في العصور الغابرة وبمرور السنين ونتيجة لعوامل اقتصادية وسياسية وقبلية متعددة، تخلت قبائل عديدة عن ديارها في الجبال والهضاب العالية واستقرت تدريجياً في المناطق السهلية المنبسطة المتاخمة لها، فالجاوانية (وهي قبيلة كبيرة متعددة البطون والأفخاذ وهي من أشهر القبائل الكُردية وأخبارها متواصلة طيلة العصر العباسي وكانت مثل جميع القبائل الكُردية الأخرى من سكان الجبال والهضاب الباردة قبل استيطانها بمدينة الحلة وأطرافها في أواخر القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي) والنرجسية والبشيرية والزهيرية وغيرها كانت أحداها، فنزلت في نواحي بلدة البندينجين (مندلي) والدسكرة والنعمانية وقوسان وواسط، وانتشرت قراها ومرابعها في المنطقة الممتدة من سفوح جبال بشتكوه إلى ضفاف نهر دجلة، وهذه المناطق كانت امتداداً طبيعياً للبلاد الكُردية، وفي الواقع إن الكُرد قد شكلوا إحدى العناصر الرئيسة من سكانها خلال القرون الستة الأولى للهجرة، فورد ذكرهم خلال الفتح الإسلامي للمنطقة وبعدها، وكانوا من سكنة نواحي البندينجين وشاركوا في واقعة جرت بها سنة 252ﮪ/866م «(13)
جزيرة بختان/ بوهتان/ جزيرة الأكراد / ابن عمر:
وقد أخذت بعض القبائل والاتحادات القبلية الحيز الأكبر من الكتاب. فقد استطاع المؤلف تركيب سيرة مطولة للإمارة البختية – البوهتانية (اختصارا بوتان) وتسلسل حكامها وأمراءها. فمن خلال الكتاب نعرف الكثير عن هذه القبيلة العريقة، وأشهر القبائل الكُردية وأكبرها خلال العصور الوسطى والعصر العثماني، وهي البُختية، حيث ورد اسمها في أخبار عمليات الفتح الإسلامي حسب قول المستشرق شترك، كما يقول المؤلف. ويضيف أن (بُختي أو بُختو اسم قديم جداً يعود جذوره إلى القرن الخامس قبل الميلاد في أقل تقدير، فقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوتس (485 – 425ق.م) مقاطعة باسم بختويخ (Pekhtuikh) وقال أنها كانت تقع ضمن الساتراب (الولاية) الثالث عشر للدولة الاخمينية (559 – 331 ق.م)، ويرى المستشرق الألماني ثيودور نولدكه ويؤيده كيبرت أن لبختويخ علاقة مع بهتان الحالية، وان البُختية هم القوم الذين ذكرهم هيرودوتس عند حديثه عن الأرمن). والبختية – بوتان تضم عدداً كبيراً من العشائر والبطون، وهي من القبائل الكردية التي لم تلتحق بالأيوبيين ضد الصليبيين، وظلت سيدة المنطقة لفترات طويلة.(14)
وإمارة بوهتان أو إمارة الجزيرة، من أقدم الإمارات الكُردية وأطولها عمراً، إذ ظلت قائمة –ولو بصورة متقطعة – منذ العهد البويهي الذي يمثل العصر الذهبي للامارات الكُردية إلى أواسط القرن التاسع عشر حين أسقطتها الدولة العثمانية مع جميع الإمارات الكُردية الأخرى، وواجهت خلال تاريخها الطويل لحالات مد وجزر كثيرة، وتعرض لغارات وحملات قوى وجهات محلية وإقليمية عديدة من الغز والسلاجقة وحكام الموصل مثل جيوش بك وعماد الدين زنكي وبدرالدين لؤلؤ والخوارزمية والمغول وتيمورلنك وأمراء القره قوينلو والآق قوينلو (قره يوسف القره قوينلو وقره إيلك الآق قوينلو وأوزون حسن) وانتهاء بالصفويين والعثمانيين، وكانت جزدقيل أجل قلعة للبختية والمركز الرئيسي للإمارة، فوصفت بأنها «كرسي مملكة الأكراد البُختية»، وهي على المقربة من جبل الجودي الشهير، وضمت إعمالها حوالي مئة قرية عامرة للأرمن والمسلمين، ووجدت بها مشاتي ومرابع القبائل الكُردية المسلمة واليزيدية.
وفي الواقع إن عساكر المغول الحقوا أضراراً جسيمة بمدينة الجزيرة والقبيلة البُختية وأسقطوا إمارتها، وفَرّ من نجا من رجال البُختية إلى بلاد الشام ومصر وتفرقوا في البلدان، ويقول ابن العبري بهذا الصدد أن سيف الدين صاحب الجزيرة اجتمع إليه سبعين ألف كردي وأمضوا به إلى سورية، ويضيف العمري «والبُختية وهم قوم كانوا يضاهون الحميدية، لكنهم شُعبهم أكثر وقبيلهم أكبر، لهم كبراء وأعيان وأمراء، فهلك أمراؤهم وتشتت كبراءهم وتفرق جمعهم المعهود ولم يبق منهم إلا شرذمة قليلة تفرقت بين القبائل والشعوب» .
أما عن تسمية «جزيرة ابن عمر» بهذا الاسم «العربي» في كتب التراث العربي الإسلامي رغم كونها من أقدم المعاقل الكردية تاريخياً (فمنطقة بوتان بحسب المستشرق والكردولوجي مينورسكي هي الوطن الأم للشعب الكردي وأن جزيرة ابن عمر التي تعد أحدى مدن بوتان كانت مهداً للكرد ومنها توزعوا بحسب مينورسكي، يؤيد هذا الرأي كل من ريج وهندبوك)(15)، يقول المؤلف: «جزيرة ابن عمر- بوهتان مدينة كردية تسميةً وتاريخاً وانتماءً، فاسمها القديم كان قردو وهو نفس اسم كردو وأطلقت عليها السريان والطوائف المسيحية الأخرى منذ عصور ما قبل الإسلام وحتى العهود الإسلامية المبكرة اسم باقردى أو باقردو وهو تخفيف بيث قردو أي بيت الكُرد – بلاد الكُرد، ويقول ياقوت الحموي إن أهل باقردي يسمون مدينتهم قردى، وكانت تقابلها على دجلة مدينة أخرى هي بازبدى – قرية بازفتى الحالية على الحدود السورية التركية – وأحيانا يأتي اسم المدينتين معاً وجاء في بيت شعر:
بقردي وبازبدى مصيف ومربع وعذب يحاكي السلسبيل برود.
وإلى جانب تسمية باقردى، عرفت بوهتان حتى عهد الخليفة المأمون العباسي (198- 218ﮪ/ 814 – 833م) أو حتى سنة 250ﮪ/ 864م في رواية أخرى ب «جزيرة الأكراد» وهو الترجمة العربية لجزرتا دوقردو دون شك، لأن الأكراد، كما يقول ابن شداد: «كثيراً ما ينتابونها وينتجعونها لقضاء أوتارهم»
وفي تلك الآونة -القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي-، نزل بجزيرة الأكراد إي بوهتان رجل أختلف رواة الأخبار فيه، فقالوا هو الحسن بن عمر التغلبي في رواية وقالوا أوس وكامل ابني أوس التغلبي أو ابني يوسف بن عمر التغلبي في روايات أخرى.
ويقول ابن خلكان (ت681ﮪ/1282م): «ولا أدري من أبن عمر… ثم اني ظفرت بالصواب في ذلك وهو أن رجلا من أهل برقعيد من أعمال الموصل بناها وهو عبد العزيز بن عمر البرقعيدي، فأضيف أليه» ، ولم يكن البدليسي على الصواب حين نسب بناء قلعة الجزيرة إلى الخليفة الأموي الثاني عمر بن عبد العزيز. وقد قام هذا الرجل (ابن عمر) بتخطيط المدينة وأعمارها، فعرفت منذ ذلك الحين بجزيرة ابن عمر وطغى الاسم الجديد على الأسماء القديمة للمدينة. وتمتعت مدينة الجزيرة بموقع جغرافي مهم، فهي تقع على الطريق الذي يربط الموصل بمدن شمال إقليم الجزيرة كما ذكرنا، كما إن وقوعها على دجلة أضفى عليها أهمية اقتصادية إضافية» و يذكر البدليسي بأن أول من تولى الحكم في الجزيرة خلال العهد المغولي هو سليمان بن خالد، دون أن يقدم شيئاً عن إخباره ولا يحدد تاريخ توليه الحكم، وربطت الحكايات والقصص الشعبية نسب سليمان بن خالد بالصحابي خالد بن الوليد، ولا شك ان هذا الادعاء، كما يعلل المؤلف ، لم ينشأ إلا من ولع الكُرد بالبطولة وإعجابهم ببسالة خالد بن الوليد، لا سيما وأن خالد بن الوليد لم يكن له عقب (لم تبقى له ذرية). ويصادق المؤلف على الرواية التي تقول أن حكام الجزيرة كانوا على الديانة اليزيدية قبل إسلامهم . «وقد بقي عدد من قبائل ناحية كوركيل /جردقيل التابعة لأمراء الجزيرة على اليزيدية حتى العهد العثماني».
وتعد قبيلة البشنويه ثاني أكبر قبيلة بعد البختية وجارتها الشمالية في إقليم الجزيرة – كردستان الشمالية ، يقول ابن الأثير في مادة البشنوي «عرف بهذه النسبة طائفة كبيرة من الأكراد بنواحي جزيرة ابن عمر لهم قلعة تسمى فَنَك مشهورة».
وحسب رواية شعبيه شبه تاريخية شائعة بين الكُرد وسمعها البدليسي من الإخباريين والرواة الملمين بتاريخ قبيلة البشنوية، أن اسم القبيلة جاء نسبة إلى شخص اسمه بَجنو Bezhno ينتمي مثل بُختي إلى سلالة حكام الجزيرة – أمراء بوهتان، ثم نشب الخلاف والصراع بينهما على تولي السلطنة كما ذكر، إلى أن حسم الأمر لبُختي وفَرّ بجنو إلى حصنكيفا، وكان الاعتقاد السائد بين كُرد الجزيرة وفق رواية أخرى، هو أن الكُرد كُلهم ينحدرون من الأخوين بجنو وبختو. وخلال العهد الإسلامي اقترن اسم البشنوية بقلعة فَنَك، فاتخذوها معقلاً لهم ومركزاً ومقراً لإمارتهم الصغيرة، وكان لهم معها تاريخ طويل.(16)
وأقام زعماء البشنوية إمارة صغيرة شبه مجهولة في حدود عام 275ﮪ/ 888 – 889م، إذ سمع ابن الأثير الذي ولد بجزيرة ابن عمر وقضى شطراً من حياته بها، رجال البشنوية يقولون إن قلعة فَنَك بيدهم منذ ثلاثمئة سنة وكرر قوله هذا في مناسبة أخرى، كما أيده ياقوت في ذلك ويبدو انه نقله من ابن الأثير ويقول:»قلعة فَنَك… وهي بيد هؤلاء الأكراد – البشنوية منذ سنين كثيرة نحو الثلاثمائة سنة»، وفي الواقع أن الحقبة الزمنية (250–334ﮪ/ 864–946م) شهدت ظهور ونشوء الكثير من الزعامات الكُردية الصغيرة في مختلف إنحاء كردستان.
وقد احتفظت البشنوية بإمارتها في قلعة فَنَك والقلاع المجاورة لها حتى أيام الغزو المغولي، على أن المعلومات عنها شبه معدومة، وعند قيام الإمارة الدوستكية – المروانية انضم رجال البشنوية إلى خالهم باد بن دوستك وشاركوه مشاركة فعالة في المعارك التي خاضها ضد البويهيين والحمدانيين .
( يُتبَع في العدد القادم)
(*) – (الأكراد وهم خلائق لا تُحصى، وأمم لا تُحصر، ولولا أن سيف الفتنة بينهم يستحصد قائمهم، وينبّه نائمهم، لفاضوا على البلاد، واستضافوا إليهم الطارف والتلاد، لكنهم رموا بشتات الرأي وتفرُّق الكلمة، لا يزال بينهم سيف مسلول، ودم مطلول، وعقد نظام محلول، وطرف باكية بالدماء مبلول.. ) . المؤرخ والقاضي، الكاتب في ديوان الإنشاء المملوكي ، ابن فضل الله العمري ، 700ﮪ/ 1301م- 749 ﮪ/ 1349م ، في كتابه « التعريف بالمصطلح الشريف» تحقيق محمد حسين شمس الدين ، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان الطبعة: الأولى، 1408 ﮪ – 1988 م ، ص58 .
(1) – مترجم للعربية بترجمتين : الشرفنامه: في تاريخ الدول والإمارات الكردية: ألّفه بالفارسية: شرف خان البدليسي ترجمة : ملا جميل بندي روزبياني، ط 1 بغداد 1953م
وترجمة ثانية على جزأين : ترجمة محمد علي عوني، راجعه وقدم له/يحيى الخشاب، ط1 1958م
(2) – خلاصة تاريخ الكرد وكردستان من أقدم العصور التاريخية حتى الآن، وضعه باللغة الكردية :العلامة المفضال معالي محمد أمين زكي بك الوزير العراقي سنة 1931
و نقله إلى العربية و علق عليه : الأستاذ محمد علي عوني 1936، مطبعة السعادة مصر سنة 1939
(3)– ( وقد حاول البايزيدي، الاقتداء بالبدليسي وتدوين تأريخ الكرد من المرحلة التي توقف عندها البدليسي ويقال أنه قد كتب حوالي ألف صفحة من كتابه الذي أطلق عليه اسم (تأريخ كردستان الحديث) وقد قام الكساندر زابا بترجمة مقدمة كتاب البايزيدي وأرسله إلى أكاديمية العلوم الروسية في بطرسبورغ ولكن لم يعرف شيء عن مصير كتاب البايزيدي لحد الآن وتقول المستشرقة الروسية فاسيليفا أن الكتاب موجود ضمن أرشيف. زابا في المكتبة العامة في بطرسبورغ وأنها لم تستطع الإطلاع إلا على مقدمة الكتاب التي ترجمها. زابا إلى اللغة الفرنسية (وتقع فى حوالى خمسين صفحة) وبعث بها فى عام 1867 إلى أكاديمية العلوم الروسية فى بطرسبورغ لغرض تقييم الكتاب وكما تشير فاسيليفا فأن الكتاب يتناول التأريخ الكردى خلال الفترة الواقعة بين عامي 1786—1858م وان المقدمة تتضمن إشارات إلى عناوين أبواب وفصول الكتاب). مقال جودت هوشيار بعنوان(ذخائر التراث الكردي في خزائن بطرسبورغ ) متوفر على الأنترنت. وله كتاب بنفس العنوان.
(4) – ترجمها إلى العربية ووضع هوامشها: جان دوست، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث(كلمة) ط1 ، 2010م .
(5) – القبائل والزعامات القبلية الكُردية في العصر الوسيط، طبعة ثانية مزيدة ومنقحة صادرة عن دار الزمان ومكتبة التفسير 2016م . وجميع الاقتباسات الواردة في هذا المقال هي من هذه الطبعة .
(6) – وهو مؤرّخ و أستاذ جامعي متخصص في تاريخ الأكراد في العصر الإسلامي الوسيط ، يدرّس في جامعات كردستان العراق. له بالإضافة إلى هذا الكتاب مؤلفات أخرى لا تقل أهمية . منها (الكرد في العصر العباسي) وهي أطروحته للماجستير و (كردستان في العهد الجلائري 734-814ه/1337-1441م) وهي أطروحته للدكتوراه ، يتناول في الكتاب تاريخ كردستان بين حقبتي السيطرة المغولية والتركمانية وحتى السيطرة العثمانية.
(7) – زرار صديق توفيق ، المصدر نفسه ، ص10-11
(8) – زرار ، المصدر نفسه ، ص12-13-14
(9) – زرار ، المصدر نفسه، ص17
(10) – زرار ، المصدر نفسه، ص19
(11) – زرار ، ص20
(12) – زرار ، ص24
(13) – زرار ، ص68
(14) – زرار ، ص 34-51
(15) – د.فائزة محمد عزت ، الكرد في إقليم الجزيرة وشهرزور في صدر الإسلام 16-132ه/637-749م ، مطبعة خاني-دهوك، ص43.
(16) – زرار ، ص53-60
[1]