التحوّل الفكري الثاني ورد أوجلان على داروين
البقاء ليس للأقوى بل للمجتمعية-1
أحمد بيرهات ( الإدارة المشتركة لمنتدى حلب الثقافي)_
التحوّل الذي قام به القائد أوجلان في إمرالي يمكن أن نُكثفه في هذا المقال فنرى أن:
القائد أوجلان قد أبحر في بحر التاريخ والأديان والفلسفة وفيزياء الكوانتوم وركز على علم الاجتماع بشكلٍ خاص، حيث فسّرها، قيّمها، ونقدها، واستنتج منها الكثير لوضع الإطار الفكري-النظري لمشروعه الذي يعتبر أطروحة مضادة للذهنيات المُسلطة على كدح المجتمعات فهو يجمع بين الدقة الموضوعية وقوّة الطرح، وهو يلقاك بعبارة موجزة حيناً، غامضة أحياناً، بالإضافة إلى التركيز على عدة مرتكزات تخص مشروعه المجتمعي الذي قد يبدو تكراراً إنما أعتقد أنه يقصده ليخدم أطروحاته.
المُفكر أوجلان حاول أن يستخدم كلمات وعبارات لها مدلولات رمزية أو تنضوي على استعارة أو كناية ويحاور الفلاسفة بأفكارهم وينتقدها أذكر منهم: هيغل-نيتشه- ماركس- لينين-بروديل -والرشتاين -وغيرهم..
القائد أوجلان من خلال كتبه التي ألّفها وهو في سجنه بجزيرة إمرالي قد أبدع في صنع عالمه الفكري، وطرح موضوعات كثيرة هامة، ووضعها على طاولة البحث حتى أنه يُحضر القارئ المتأني على تتبعها، ونقدها، وتعميقها، وتدعيمها، وتنويعها، واستكمال ما يتطلب لاستكماله ومعارضة ما يستحق المعارضة”
القائد أوجلان كتب آراءه وفلسفته على صفحات التاريخ عبر مرافعاته ومجلداته الخمسة (باسم مانيفستو الحضارة الديمقراطية) القيمة الصادرة من سجنه في جزيرة إمرالي التي تحوّلت عملياً إلى التحول الثاني في مسيرته ومسيرة حركة التحرر الكردية المعاصرة
يمكننا القول إن الأوجلانية تعتبر فكر وفلسفة جدليّة متطوّرة لأفكار الأنبياء والرسل من إبراهيم إلى موسى وعيسى ومحمد إلى مقاومة سبارتاكوس ومنصور الحلاج وحسن الصباح وثورة القرامطة والزنج وثورة الفكر والعلم والعقل، لسهروردي وابن خلدون والغزالي…، ومن تراكم الفلسفة الإغريقية لسقراط وأرسطو وأفلاطون إلى الثورة الفلكية لكوبرنيكوس وكليليه إلى برونو ويوتوبيا توماس مور إلى جان جاك روسو وعقده الاجتماعي الذي طُور بشكلٍ راقي في تجربة شمال وشرق سوريا حالياً..
إضافةً إلى دراسة أفكار هوبز ودوركهايم وماكس فيبر وتوماس كوهين والبراديغما في إطاره الفكري الأخاذ وتطلعات الثورة الفرنسية ومبادئها السامية في المساواة والعدالة والإخاء مروراَ بتجربة كومونة باريس وأفكار الأناركيين كروبوتكين ووالرشتاين والفلاسفة الألمان هيغل ونيتشه وروزا لوكسمبورغ وأفكار ماركس وأنجلس ولينين وانتصار ثورة أكتوبر مروراً ببروديل وغرامشي وأفكاره حول الهيمنة والمثقف العضوي وخصوبة أفكار إدوارد سعيد وكاريزماه المؤثرة على المثقفين والمجتمعات عامة والأمريكي خاصةً وأسلوب المفكر العراقي هادي العلوي وإخلاصه للمبادئ الإشتراكية بالإضافة لموراي بوكشين صاحب طراز جديد بأفكاره في الإدارات المحلية الإيكولوجيّة والذي طوّره بشكلٍ ملفت القائد أوجلان فيما بعد.
إن دراسة علم وأفكار كل هؤلاء كانت نتيجته خلق وإبداع المشروع المضاد لنظام الحداثة الرأسمالية وهي العصرانية الديمقراطية عبر إنشاء نظام الكونفدرالية الديمقراطية للشعوب.
كل هؤلاء القادة والفلاسفة عملوا لمناهضة ذهنية الإسكندر (السلطوي -التوسعي)، وأصبح أوجلان من أهم رواد وقناصي الحقيقة.
فقد ظهر مانيفستو الحضارة الديمقراطية أي (البراديغما) الأوجلانية بفعل الدراسة المتعمقة للتاريخ وبحث أهمية سوسيولوجية المجتمعات في الشرق الأوسط وتاريخهم الحافل بالعيش المشترك في كل جوانبها القومية السُلالاتية والمونارشية والدينية وتأثيرات الحضارات على بعضها والخوض في تفاصيل السياسات والأفكار التي بناها وفق جمعية وتركيبة جديدة.
وما استهداف القائد أوجلان إلا طور من أطوار الوقوف في وجه النهضة والتنوير الفكري والتاريخي لشعوب المنطقة عبر مواجهته وفضحه لمرتكزات الحداثة الرأسمالية في الربح الأعظم والدولة القوية والصناعوية الاحتكارية والتي تضررت كل الشعوب في العالم والشرق الأوسط منها، وأكثر من تضرر من مقومات سياسة الحداثة الرأسمالية هم الكرد، هذه الحداثة الفجة أسست ودعمت ما يتم مشاهدته في الآونة الأخيرة من التزايد الشديد في مستوى الفاشية في تركيا ووصولها لمرحلة خطيرة جداً تنذر بعواقب وخيمة مرتبطة ارتباطاً مكثفاً بالقصف الذهني الفظيع عبر استخدام كل طرق ووسائل التكنولوجيا والإعلام منها وبشكلٍ لاريب فيه، ويُراهن عليه حكومة MHP-AKPلإضعاف الحل الذي يطرحه القائد أوجلان.
أطروحة القائد أوجلان تركز وبشكلٍ مكثف حول وعلى تحليل وتشخيص وتعرية سياسة الحداثة الرأسمالية وما تشهده المنطقة والعالم الآن ما هو إلا استمرار للحرب العالمية الأولى والثانية عبر تطبيق مالم تستطع قوى الهيمنة تطبيقه آنذاك بعد هذين الحربين عبر تفعيل أجنداتهم في إعادة سياسة التحالفات والتموضعات الجديدة خدمة لمصالح الاحتكارات الكبرى لقوى الحداثة الرأسمالية كإنكلترا وأمريكا وفرنسا وألمانيا مع عدم إغفال التأثير الرأسمالي المالي اليهودي على كل السياسات الدولية للاستحواذ على أكبر قدر ممكن من الهيمنة والسيطرة على الأسواق في جوانبها الصناعوية والتجارية وتوزيعها وتقسيمها فيما بينهم.
اتخذ القائد أوجلان من إعادة تعريف علم الاجتماع الغربي وإعادة صياغته وتطوره عبر سوسيولوجيا معاصرة تُعيد للمجتمع رونقها ورُقيّها عبر تفعيل حقيقة المادة والطاقة لاستمرارية الوجود -الوعي
وقد بدأ القائد أوجلان كتابه (مانيفستو الحضارة الديمقراطية المجلد الخامس) بتعريف أُطر اصطلاحية ونظرية والبحث في فلسفة الوجود والنشوء والديالكتيك والسيرورة الفلسفية للوصول بالمجتمع الى كينونته والتعبير الأقوى لذلك هو إعادة الاعتبار للإنسان والطبيعة والقيم الأخلاقية المجتمعية عبر تعرية اللوياثانات المعاصرين مِن الفاعلين في الحداثة الرأسمالية الذين يشكلون أكبر خطر على مستقبل البشرية جمعاء..
إضافةً إلى التعمّق والكشف عن سر تمسك قوى الحداثة الديمقراطية بالنموذج القوموي وهو إبعاد الشعوب عن بعضها كدين جديد لها في إيجاد أسواق لها في كل أصقاع العالم عبر خلقها للأزمات بشكلٍ دائم وبعدة أشكال كما ذكرنا قومية ومذهبية وطائفية والخطر الأكبر هو فقدان الإنسان لجوهره الروحي والخيالي عبر ليبراليتها التي تتخذ أقنعة كثيرة باسم الحرية وتمجّد الشخص على أساس الكمونالية.
فمع تكاثف كل الصراعات بين النظم والأوليغارشيات والمونارشيات في العالم ومنطقة الشرق الأوسط ومع تزاحم فئة من حثالات الشعوب وقاعة المجتمع ليكونوا الوكلاء لهؤلاء وتطبيق سياساتهم والدكتاتور أردوغان من يمثل مشروع التركياتية الخضراء والتي شارفت على نهايتها.
غني عن التعريف أن أطروحة القائد أوجلان ظهرت بشكلها الواضح في بداية أعوام الألفين (موديل الكونفدرالية الديمقراطية) بديلاً لما يُطرح من مشاريع في وعلى المنطقة، وهذا يعني أن مشروع القائد أوجلان هو الأطروحة المضادة للمشاريع التي تستهدف المنطقة (التقسيم والتشرذم والفوضى) التي يُراد أن تعيش الشعوب فيها كإحدى أهم سياسات الحداثة الرأسمالية وهذا ما حدث بالضبط بما تم تسميته في الإعلام الغربي “بالربيع العربي”.
جوهر الحل الذي يطرحه القائد أوجلان لمنطقة الشرق الأوسط يمتلك شكل تنظيمي ذو بنية مرنة كما هو موجود في تجربة الاتحاد الأوربي لكن بخصوصية شرق أوسطية لتتمكن كل الشعوب والديانات والثقافات والهويات العيش بشكل ديمقراطي وتتخذ المجتمعية أساساً بدل الفردية الأنانية.
أحب أن أشير إلى نقطة هامة جداً ولا بد من الإشارة إليها وهي أن:
مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلداته الخمسة يمثل بخطوطه العريضة ويمثل بتأثيره ما فعله قائد ثورة أكتوبر السوفيتية فلاديمير ايليش لينين(1870-1924) حين كشف عن فحوى اتفاقية سايكس بيكو مع انتصار الثورة السوفيتية عام 1917 وهذا ما فعله القائد أوجلان عبر ما تضمنه كتبه بكشف النقاب عن مخططات الحداثة الرأسمالية ضد الشعوب في الشرق الأوسط، ولم يكتفِ بذلك بل فك شيفرات مطامعها وتوسعاتها اللوياثانية الوحشية ولم يكتفِ بذلك بل طرح البديل عبر مقومات العصرانية الديمقراطية وهي: الأمة الديمقراطية والاقتصاد الاجتماعي والصناعة الأيكولوجية (البيئة) ،وشبه الاستقلال الديمقراطي .
إذاً فالأوجلانية سوف تفتح السبيل أمام تأثير عميق تعبّر من خلاله الثقافات العريقة الأصيلة في كافة أرجاء الشرق الأوسط (وعلى رأسها ثقافات بلاد الأناضول وميزبوتاميا عن نفسها كحقيقة قائمة بحد ذاتها، وتصبح حرة على الصعيد السياسي، وستغدو واحدة من اللبنات الرئيسية المُعبدة لهذه الثقافات الإنسانية التي تلعب دوراً عظيماً للرقي بالبشرية التي تُعد الأسمى معنى من بين موجودات الكون وأنها ستفتح باب الحياة الإنسانية الحقة على مصراعيه للمضي قُدماً على هذا الدرب باسم الحرية والديمقراطية الاشتراكية).[1]
يتبع……