#عوني الداوودي#
إذا خرجنا من مكان ٍ ما في العالم عسكرياً ، فسنبقى فيه مائة عام سياسياً .
ونستون تشرشل
حاول الترك جاهدين تطبيق هذا الشعار في العراق على مدى العقود الماضية، وأفلحوا في ذلك، ولو إلى حين.
أكدت مراراً وفي مناسبات مختلفة على وجوب دراسة الحقبة التي تلت انتهاء الحرب العالمية الأولى وتأسيس الدولة العراقية الحديثة بشكل موضوعي ومحايد بعيداً عن التعصب العنصري والطائفي، لفهم واستيعاب المشاكل المحيطة بنا كعراقيين بطيفنا بدون إستثناء، حيث نطمح للعيش بسلام على أرض ٍ يحسدنا عليها القريب والبعيد، ويبدو بأن العين قد أصابتنا في مقتل .
أقول بعدم الرجوع إلى تلك الحقبة، ومارافقتها من مساومات واتفاقيات وإنشاء كيانات ودول قومية، غبن فيها البعض، وأعتبرها آخرون ناقصة للحصول على حقوقه التاريخية. لكن وفي المحصلة النهائية وفي 23-08-1921 وبقرار بريطاني في مؤتمر القاهرة تم تعيين الملك فيصل الأول ملكاً على العراق وإنشاء الدولة العراقية من ولايتي بغداد والبصرة وبعد خمسة سنوات ألحق بهما ولاية الموصل وتم تحديد جنوب خط بروكسل الحدود الشمالية للدولة العراقية من قبل وفد عصبة الأمم المتحدة الذي أخذ على عاتقه الفصل في النزاع الدائر آنذاك حول أحقية ولاية الموصل بين الأطراف المتنازعة، العراق وبريطانيا من جانب وتركيا من جانب آخر والمحاولات الكوردية التي كانت تقول بأحقية الكورد في هذه المنطقة، مما حدا بالشخصية الكوردية عزت بابان زاده وفي رده على سؤال وفد العصبة : مع من تريدون العيش؟ مع الأتراك أو مع العرب ؟ أجاب : ولماذا لا تقولون هل تريدون دولة كوردية أم لا ؟ . وبعد أن يأس الكورد من إنشاء الدولة الكوردية على أثر المساومات الدولية، لا سيما في معاهدة لوزان عام 1923 التي أقبرت معاهدة سيفر عام 1920 التي نصت في بنودها 62 و63 و 64 على إنشاء وطن قومي للكورد على غرار الدول القومية التي أنشئت. فضل الكورد العيش مع العرب، وقالوها بالحرف الواحد : نفضل العيش مع أحفاد الرسول، نظراً لعدم وجود حروب دموية بين الكورد والعرب تاريخياً، بل كان الاثنان ضحية فرض الجهل والتخلف العثماني عليهم على مدى قرون. حيث كانت الإمارات الكوردية في حالة حروب مستمرة ضد السلطات العثمانية ومنها على سبيل المثال إمارة سوران التي عمرت ما يقارب سبعمائة سنة وإمارة بابان القوية وعاصمتها السليمانية وإمارة بوتان وغيرها، ولا حقاً السياسات الشوفينية لجماعة تركيا الفتاة الذي ترأسهم فيما بعد مصطفى كمال وأنشأ الدولة التركية الحديثة على أنقاض الإمبراطورية الهرمة العجوز التي كانت تسمى بالرجل المريض. وعلى الرغم من قرار عصبة الأمم المتحدة بإلحاق ولاية الموصل، بالعراق المشكل حديثاً، مفندة الادعاءات التركية بأحقية الولاية والتي لم تستند فيها على الحقائق التاريخية، والكشف عن زيف الأحصائيات التركية التي كانت تقول بأغلبية الولاية من العنصر التركي، ومع ذلك تم تعويض تركيا ب 500 ألف باون استرليني و 10 % من نفط الولاية لمدة خمسة وعشرين سنة.
كما أشترط الجانب التركي أيضاً عدم عودة المقاتليين الأشوريين الذين كانوا يألفون ما يسمى ب الجيش الليفي الأثوري الذين كانوا يحاربون إلى جانب القوات الإنكليزية، إلى تركيا والذين كان يقدر عددهم بأريعين الف مقاتل ومعظمهم من مناطق حكاري العثمانية وأرومية الإيرانية، مما شكل ضغطاً على الحكومة العراقية الفتية بمواردها الاقتصادية الضعيفة، وبضغط من بريطانيا تم توزيع هؤلاء على المناطق العراقية المختلفة، كما تم جلب أعداد منهم وإسكانهم على شكل ثكنة عسكرية في كركوك مما نتج عنه ما هو معروف في تاريخ العراق المعاصر بحادثة الجيش الليفي الآثوري، وهي الحادثة الدموية التي حصلت بين الأهالي وبين افراد من هذا الجيش، حيث كانت المشاعر الدينية آنذاك قوية في النفوس ولعبت دورها التخريبي بين هؤلاء الضيوف وبين سكان المدينة عام 1924 وبعد هذه الحادثة المؤسفة تم نقل العديد منهم إلى العمادية، وباقي مناطق بهدينان، ولم يرضخ الآشوريين للأمر الواقع وطالبوا الإنكليز بتنفيذ وعودها التي قطعتها أبان الحرب العالمية الأولى بتأسيس كيان آشوري، وتملص الإنكليز من وعودهم كما هو معروف على مدى التاريخ، فحدثت معركة سميل القريبة من دهوك عام 1933 بين المسلحين الآثوريين والجيش العراقي الملكي بقيادة بكر صدقي وسقط الكثير من القتلى والجرحى من بين صفوف الآشوريين وفر الرجال إلى أعالي الجبال ومما تسكت عنه أقلام الكتاب الآشوريين هو دور الكورد المشهود في تلك المعركة في الحفاظ على ممتلكات وأرواح النساء والاطفال الآشوريين وضمهم إلى عوائلهم خوفاً عليهم من بطش الجيش العراقي . كل هذه الأحداث حصلت بسبب الرفض التركي لعودة هؤلاء إلى مسقط رأسهم، وأيضاً لحساسيتهم المفرطة اتجاه أتباع الديانة المسيحية، لنزاعهم المستمر مع اليونانيين، التي يعود تاريخها إلى عام 1453 عندما أحتل السلطان العثماني محمد الفاتح القسطنطينية التي تعرف اليوم ب استنبول ، وهي المدينة اليونانية القديمة التي كانت ضمن أملاك الإمبراطورية الأغريقية.
وأخذت لجنة عصبة الأمم تطلعات الكورد في الاعتبار فأوصت بأن تكون اللغة الكوردية هي اللغة الرسمية في الإقليم بجانب اللغة العربية وعلى أن يدير الكورد شؤونهم بأنفسهم في المناطق ذات الأغلبية الكوردية، وعلى أن تباشر الحكومة العراقية بتحسين الأوضاع المعيشية ومستوى التعليم والصحة لأوضاع الكورد في الإقليم، ووافقت الحكومتين البريطانية والعراقية على ذلك.
بدأ الأتراك بشن حملة دعائية واسعة وإلى يومنا هذا بأنهم خسروا تلك المعركة الدبلوماسية في حالة ضعف سياسي، وخصصوا مبلغاً رمزياً من الميزانية التركية السنوية لولاية الموصل، فلهذا نسمع بين فترة وأخرى المطالب التركية بحقوق تاريخية في ولاية الموصل كوردستان العراق، علماً وبرجوعنا إلى المصادر التاريخية نرى بأن مصطلح كوردستان الجنوبية كان يطلق ومتداولاً على هذه المنطقة حتى قبل الحرب العالمية الأولى.
وكما هو معروف بأن الرعيل الأول من السياسيين الذين حكموا العراق هم أولئك الجنرالات والضباط الذين خدموا في الجيش العثماني وتشربوا بمفاهيمها الطائفية والاستبدادية، التي كان يتبعها العثمانيون في حكمهم على مدى القرون الماضية، فالعداء التركي للشيعة هي ليست وليدة اليوم بل تمتد جذورها إلى أيام الحروب العثمانية السنية ضد الحكم الصفوي الشيعي القزلباش الإيراني ومن ثم العائلة القاجارية الإيرانية التي كانت أيضاً تدين بالمذهب الشيعي، وكان العراق مسرحاً لتلك الحروب الدموية وخاصة الأراضي الكوردية التي كانت تدخل ضمن أملاك الإمبراطوريتين على الحدود المشتركة. ومن جهة أخرى يعتبر الأتراك بأن الشعب الكوردي هو العدو رقم واحد ومن أشد العناصر خطورة على أمنها القومي، لحساسيتها المفرطة من الشعوب الأصيلة في المنطقة كالكورد والسريان بطوائفهم والأرمن، وبما أن الكورد هم الحلقة الأقوى بين هذه الأمم والشعوب، ويدافعون بنكران ذات عن حقوقهم المغتصبة، نرى السياسيين الأتراك في حالة تخبط ملحوظ إزاء معالجة هذه القضية التي لم تستطع الاستمرار في نكرانها أو التأثير على السياسيين العراقيين بتجاهلها.
فالعداء التركي للأمة الكوردية واضحة وصريحة ولا تحتاج لبراهين، فالأمثال التركية العنصرية القبيحة لهي خير دليل على أي ادعاء تركي في حديثه عن الديمقراطية والمثل الإنسانية، وعلى سبيل المثال. يقول المثل التركي : لا تضيع رصاصة في قتل كوردي ، بل ابقر رأسه بالحربة و الكوردي الجيد هو الكوردي الميت و نشرت صحيفة حقيقت ملليت التركية في 10-08 - 1930 لا يشك أحد بأننا نعتبر مثل هذه المطالب ( يقصد إستقلال كوردستان ) من قبل قطعان الوحوش والبرابرة مجرد مزحة محضة، إذ أن المنطقة الوحيدة الصالحة لإقامة حكم ذاتي لشعب لا يتجاوز عدد مفردات لغته 200 كلمة هي وسط إفريقيا أو أحدى صحاريها حيث يعيش أشباه البشر وأشباه القرود ... أما قارة آسيا مهد الحضارات القديمة، فلا يمكن لها أن تقبل بمثل هذه الدعاوي، وأن الذين يتجاسرون على طلب كهذا، ينبغي القضاء عليهم، وهذا ما يجري على أرض الواقع .
وبعد القضاء على انتفاضة جبل أرارات وفي الكوردية ( جياي آكري ) من قبل تركيا وبمساعدة القوات السوفيتية وإيران عام 1936 بقيادة الجنرال أحسان نوري باشا، وقف وزير العدل التركي متبختراً وشامتاً يقول : إن من له حق العيش في تركيا هو ذاك الذي تجري في عروقه الدماء التركية النقية، ومن لم يكن هكذا، له حق العيش فقط كخادم أو كعبد، ولتسمعني الجبال . في أشارة للكورد.
في الحقيقة يترفع كتابنا ومثقفينا في الرد على هكذا عبارات وكلام عنصري حقير، ولربما في مناسبة أخرى ومن أجل نزهة أدبية، سنرسم ملامح وشكل هذا المتعجرف الذي يستهزأ بأحد أقدم شعوب المنطقة. ونبين مدى صحة الدم التركي النقي في الوقت الحاضر.
لكي لا نبتعد كثيراً عن موضوعنا الأساسي وهو البلاء التركي الذي أبتلى به العراقيون، ليلاقوا المصير الذي لا يستحقونه من ذل وخذلان على أيدي حكوماتها التي ساعدتها تركيا وساهمت بشكل فعال في رسم سياساتها تماشياً مع هواجسها ومخاوفها الأمنية التي لا مبرر لها.
أستغل السياسين الترك وجود هؤلاء الضباط على رأس الحكومات العراقية أمثال نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وغيرهم للتدخل في الشؤون الداخلية للعراق لتأمين جانب هذا الجار الجديد الذي سيلعب دوراً بارزاً في تاريخ المنطقة لاحقاً، وذلك بعدم السماح لأبناء شيعة العراق في الوصول إلى دست الحكم وتهميش دورهم السياسي، وذبح الكورد والتنكر للوعود التي قطعتها الحكومة الملكية العراقية لعصبة الأمم، مما جعل العراق يعيش حالة عدم استقرار وحروب داخلية واستنزاف للموارد الاقتصادية والبشرية على مدى العقود الماضية.
يذكر الباحث العراقي حسن العلوي في كتابه التاثيرات التركية على المشروع القومي العربي عشرات الأمثلة الصارخة لتلك التدخلات ومنها على سبيل المثال التقى مصطفى كمال عام 1934 وعلى أثر وفاة الملك فيصل بنوري السعيد وناجي شوكت .. التفت مصطفى كمال إلى نوري السعيد، قائلاً : إن ياسين حلمي أقدم منك ( ياسين الهاشمي ) فهل تقبل بزعامته ؟ فأجابه نوري نعم، أقبل . فقال الغازي سأبعث برسالة إلى ياسين مع ناجي ( ناجي شوكت )، لينقل الحديث الذي دار بيننا اليوم، وعندما تعود أنت من جنيف إلى بغداد، تشرعون بالعمل المشترك وهذا ما دفع العلوي للقول ولذلك كله فإن تسمية الهاشمي مرشحاً لدور أتاتورك، كان أمراً مفروغاً منه، ولم يكن اقتراحاً آنياً حين تقدم به أتاتورك إلى نوري السعيد وناجي شوكت في اجتماعه بهما . ومما لاشك فيه عند قراءة مثل هذه الحقائق، تدل وبشكل لا يقبل الجدل دور الترك في رسم السياسة الداخلية والخارجية للعراق وفقاً لمصالحها، والتي انعكست بشكل سلبي على غالبية سكان العراق الذين هم من أتباع المذهب الشيعي ومن الكورد.
ومن ناحية أخرى أستطاع الأتراك استمالة البعض من التركمان بحكم العلاقات الثقافية للوصول إلى غاياتها ( لا نقصد هنا الإساءة للشعب التركماني الشقيق الذي تربطنا بهم علاقات مصاهرة وود وعيش مشترك، بقدر ما هو تسليط الضوء على بعض الحقائق التاريخية والسياسات التركية للتدخل في الشأن العراقي، ودق الأسفين بين شعوبها ) ويخبرنا الباحث جهاد صالح ( وهو تركماني ) عن ذلك في كتابه الطورانية التركية بين الأصولية والفاشية : منذ ثورة 14 تموز وأجهزة المخابرات التركية بمساعدة أجهزة المخابرات الغربية، تحاول إثارة نعرة الأقلية التركمانية في العراق التي تتواجد غالبيتها في منطقة كركوك الغنية بالنفط، وبفضل الجهود الكبيرة التي بذلتها هذه الأجهزة، بالاشتراك مع بعض الأغوات الرجعيين من تركمان العراق، وبعض العناصر المهووسة التي ما زالت على انغلاقها القومي، استطاعت أن تكوّن جمعية عنصرية تطلق على نفسها أسم جمعية تركمان كركوك وترتبط هذه الجمعية ارتباطاً مباشراً بالمخابرات التركية التي تقوم بتقديم تسهيلات لكل تركماني عراقي ينتمي إلى الجمعية كمنحة مثلاً ، وجواز سفر تركي، إضافة إلى جواز سفره العراقي، وكذلك تقديم منح دراسية ورواتب ... وألخ .
ولم ينفك الساسة الأتراك في ظل هذه الأوضاع الحالية للتدخل في الشأن العراقي والدخول إلى إقليم كوردستان العراق بإعداد خيالية مدججة يالسلاح، بحجة حماية التركمان، بينما يقطن غالبية الشعب التركماني في المناطق التي يسيطر عليها النظام العراقي أي خارج المنطقة الآمنة، ولم نسمع في يوم ما بأن أدان الساسة الأتراك الممارسات اللاإنسانية التي يتعرض لها الشعب التركماني من اضطهاد وقلع من جذورهم وتعريب قراهم من قبل نظام صدام، بينما وعلى رؤوس الأشهاد من التركمان قبل غيرهم بأن التركمان الذين يعيشون في ظل الإدارات الكوردية تتمتع بكامل حقوقها الإدارية والسياسية والثقافية، فمثل هذه الازدواجية في الخطاب الرسمي التركي يسقط جميع الادعاءات التركية لحماية الشعب التركماني ومن أنه يريد الخير للشعب العراقي. ولا أريد هنا أن أدخل في تفاصيل النية العدوانية التركية المبيتة ضد الشعب الكوردي، ومن ثم تدخلها السافر في شكل الحكومة العراقية المقبلة التي يحاول الساسة الترك رسم ملامحها كما أعلنوا ذلك مراراً، أي بمعنى عدم اختلافها عن الأنظمة العراقية السابقة التي انتهجت السياستين الطائفية والعنصرية بحق شعبنا العراقي والتي أوصلتنا إلى هذا المأزق، وأعادتنا إلى نقطة الصفر.
وساندت الحكومات التركية على الدوام الحكومات العراقية المتعاقبة في فرض سياساتها العدوانية على الشعب العراقي، كما وبقيت تركيا الكمالية محرمة على أبناء الشعب العراقي الفارين من ظلم وجور الأنظمة العراقية لغاية عام 1991 حيث أصبحت تركيا أمام الأمر الواقع،وسمحت للجموع الهاربة بدخول الأراضي التركية، لكنها لم تصنف هؤلاء الفارين من جحيم الحرب كلاجئين، ومنعت بذلك عليهم وصول معونات الأمم المتحدة إليهم .
ولم ينسى هؤلاء الفارين الكورد، في معسكرات موش و ماردين عام 1991 كيف تواطأت المخابرات العراقية مع الميت التركي في دس السم في الخبز المقدم لهم، حيث أنكشف ذلك بعد أن أصيب الكثير من هؤلاء المساكين بالتسمم، وعلى أثر ذلك تحرك أكراد أوربا بشكل فعال لتبليغ الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بذلك، حيث تدخلوا لإيقاف تلك الجريمة .
وساهمت تركيا بقوة في إبقاء نار الثورة الكوردية المسلحة مشتعلة في العراق لابتزاز الحكومات العراقية، وذلك من خلال معارضتها الشديدة في منح الحكومات العراقية الحكم الذاتي للكورد خلال المفاوضات التي كانت تجري بين الفينة والأخرى بين الثورة الكوردية والحكومات العراقية، حيث كانت هناك فرص حقيقية للتوصل إلى اتفاق وإيقاف النزيف الدامي في جسد العراق من خلال المفوضات وخاصة في عام 1970 ومن ثم عام 1983 وعام 1991 . فمن أجل مصالحها الذاتية وخوفاً من أكرادها على حد قولها بقيت تلك النار مشتعلة. ( طبعاً لا استثني المحاولات الإيرانية أيضاً يهذا الخصوص ) ونحن على علم بالزيارات التركية التي كانت تقوم بها إلى بغداد أثناء المفاوضات الكوردية مع الحكومات العراقية في كل مرة، ولا تخفي تركيا في الوقت الحاضر هذه السياسة وما تخبئه من خلال تصريحات ساستهم وجنرالاتهم، بعدما كان يجري ذلك سابقاً في الخفاء.
ومن خلال نظرة سريعة على جغرافية المنطقة نجد بأن تركيا على خلاف مع جميع جيرانها فهي تحتل جزء مهماً من قبرص بحجة المحافظة على حقوق القبارصة الأتراك، كما وتحتل لواء الاسكندرون السوري، وهي على خلاف أيضاً مع بلغاريا وأرمينيا وإيران وهي تحاول جاهدة قبرصة الجزء الشمالي من العراق كوردستان العراق ، بالضبط على غرار قبرص، وهي في حالة عداء شديد مع اليونان التي تعود جذورها إلى عام 1453 عندما أحتل السلطان العثماني محمد الفاتح القسطنطينية والتي تعرف اليوم باستنبول التي كانت على الدوام جزء لا يتجزء من الإمبراطورية الإغريقية، وتخبئ في ذات الوقت نوايا عدوانية ضد كل من سوريا والعراق من خلال تهربها من الجلوس على مائدة الحوار والتفاهم وخاصة خلال السنين الخمسة المنصرمة حول تقسيم المياه بينها وسوريا والعراق إلى حين الانتهاء من مشروع الغاب الذي سمي زيفاً ب مشروع أنابيب السلام التركية عام 2005 والتي تبلغ كلفته حوالي 30 مليار دولار، وهي لا تعترف بأن نهري دجلة والفرات نهران دوليان وتتشاطأ عليه سورية والعراق، بل تعتبرهما نهرين عابرين للحدود وثروة طبيعية صرفة، ومثل هذا الادعاء محض افتراء لا يمت وأرض الواقع بصلة، ومن الجدير ذكره أن نهر الفرات الذي يبلغ طوله 2900 كم لا يمتد في تركيا لأكثر من 440 كم ويمر في سورية لمسافة 675 كم وفي العراق 1785 كم، أما بالنسبة لنهر دجلة الذي يبلغ طوله 1970 كم لا يمر في تركيا بأكثر من 300 كم وما عدا مسافة قصيرة داخل الأراضي السورية فالباقي يمتد داخل الأراضي العراقية، بينما اعترفت تركيا في عام 1920 بدولية نهري دجلة والفرات، وما التراجع عن التزاماتها حول تقسيم المياه مع سوريه والعراق إلا هو تنفيذ لمخطط بعيد المدى لوضع هذين البلدين تحت رحمة تركيا، إذا أخذنا بنظر الاعتبار مشكلة التصحر والجفاف في المستقبل المنظور، ومنطقة الشرق الأوسط على رأس قائمة المناطق التي يشملها الجفاف مستقبلاً. وبتقديري بأن السياسات التركية الأخيرة وبتحالفاتها العسكرية مع إسرائيل هي أكبر خطر يهدد المنطقة، وسوريا والعراق خاصة .
فالسياسات التركية ليست معرقلة لحركة التطور لدول الجوار، وحسب بل شمل ذلك شعوبها أيضاً، فهي حاولت ومنذ تأسيس الدولة التركية الحديثة بتحويل هذا الشعب الشرقي المسلم إلى شعب أوربي غربي، ولحسن الحظ لم تفلح في ذلك، وفرضت على هذا الشعب حياة قاسية لتمويل وتسليح جيش يقدر تعداده بما يقارب المليون جندي، بينما يزداد الوضع الاقتصادي من سئ إلى أسوء، بفعل التكاليف الباهضة لديمومة التفوق العسكري، لا لشئ، فقط لتغذية طموح العسكر وإشباع رغباتهم، والحنين إلى ( أمجاد ) العثمانيين الغابرة.
ينتظر العراقيون اليوم بفارغ الصبر الإتيان بنظام حكم ديمقراطي، لمعالجة المشاكل التي خلفتها تلك الأنظمة التي استندت في حكمها وكما نوهنا في مرات سابقة بتطبيق سياسة عنصرية وطائفية، وباعتقادنا واعتقاد الكثيرين الذين يريدون الخير للعراق، يجب عدم تكرار تلك السياسات الحمقاء في عراق المستقبل، وأن تتخذ تركيا جانب الحياد الإيجابي وكذلك بالنسبة للسعودية الوهابية وإيران في حل القضية العراقية، وأن يتركوا لنا نحن العراقيين أن نعالج أمورنا بأنفسنا، فلا أعتقد بأنه هناك مشاكل مستعصية بين الكوردي والتركماني والعربي والآشوري والكلداني والمسلم والمسيحي وغيرهم، حيث جمعتنا أرض العراق على مدى القرون الماضية .
فالتدخل التركي الأهوج ومن وراءها السعودية هما السبب الحقيقي لمأساتنا، فنحن أهل الدار وعلينا أن نحل مشاكلنا دون التدخل الأقليمي الذي يحاول الواحد منهم تفصيل مستقبل العراق حسب مقاساته العنصرية والطائفية.[1]