د .مهيمن إبراهيم الجزراوي
ولد قارىء المقام رحمة الله (شلتاغ) عام 1793م ، واسمه الكامل هو (رحمة الله بن سلطان أغا بن خليل) والملقب ب(شلتاغ) أو(شلتاغ الكركوكلي) في محافظة كركوك ، ومسقط رأسه في قضاء كفري ، وهو من الأكراد العراقيين ، حيث انتقل للسكن في بغداد مع والده سلطان أغا وعمه نعمان أغا الذي عين قائم مقاماً للكاظمية وابن عمه سعيد باشا أمير الحاج الذي عين قائم مقاماً لبعقوبة. وكان رحمة الله (شلتاغ) يسكن في محلة قمر الدين في دار الحاج خلف الكاهجي ، ووصفه الحاج عبد الرحمن الجصاني المعمّر(ولد في بغداد عام 1851م) بأنه كان مربوع القامة أبيض اللون مشرباً بحمرة وكانت فيه سمنة.
تتلمذ قارىء المقام رحمة الله (شلتاغ) على يد أبرز أساتذة الغناء ببغداد وأخذ عنهم أصول غناء المقام العراقي وهم كل من ؛ الملا عبد الرحمن ولي (كفري 1742م – كفري 1830م) ، والملا حسن البابوججي (بغداد 1774م – بغداد 1839م) ، وما شاء الله المندلاوي (مندلي 1778م – بغداد 1851م) والذين شكلوا المدرسة الأولى التي أخذت منها الأجيال اللاحقة أصول وقواعد غناء المقام العراقي.
كان رحمة الله (شلتاغ) يقرأ المقام العراقي في الطابق الثاني (العلوي) في مقهى الشط ، وسميت مقهى الشط بهذا الاسم لأنها تطل على ضفاف نهر دجلة وتقع في محلة المصبغة في جانب الرصافة من بغداد ، وتتكون هذه المقهى من طابقين الطابق الأول (الأرضي) لصاحبها الحاج علي والطابق الثاني (العلوي) لصاحبها حسن الصفو. وكانت ترافق القارىء رحمة الله (شلتاغ) في أدائه للمقام العراقي فرقة جالغي حسقيل شمولي وهي من أشهر فرق الجالغي التي كانت معروفة في بغداد في ذلك الوقت ، وتتألف فرقة الجالغي هذه من:-
1- عازف آلة السنطور ورئيس فرقة الجالغي - حسقيل شمولي عزره (بغداد 1804م - بغداد 1894م).
2- عازف آلة الجوزة - لطفي رزيّج المندلاوي (مجهول تاريخ المولد والوفاة).
3- عازف آلة الرق:- حسقيل شوته مئير(بغداد 1840م - بغداد 1917م).
4- عازف آلة الطبلة - هارون زنكي روبين بقجي زنكي (ولد في بغداد عام 1843م).
توفي رحمة الله (شلتاغ) في بغداد عام 1871م ، ودفن في مقبرة الشيخ عمر عن عمر يناهز الثامنة والسبعين عاماً ، وعن سبب وفاته تعددت الروايات والأقوال وفي النهاية تتفق جميعاً على إنه كان قد جرح وخيط جرحه وكاد أن يشفى بعد أن منعه الطبيب من الغناء وفي إحدى المناسبات أنطلق يغني بصوت عال وبطبقة صوتية عالية فأنفتق جرحه وكان السبب في وفاته.
توفي رحمة الله (شلتاغ) قبل اختراع أول جهاز لتسجيل الصوت عام 1877م من قبل المخترع والعالم الأمريكي توماس أديسون (1847م – 1931م) لذلك فلم يتم تسجيل صوته كما سجل من بعده تلامذته أصواتهم على الاسطوانات لذلك فلا يمكننا أن نسمع صوته ، واعتمدنا فقط على ما نقل عنه من المصادر والمراجع والتي تستند بدورها على المصادر الشفاهية المنقولة عن من عاصروه من المعمّرين.
وقد قام تلفزيون العراق بإنتاج تمثيلية تلفزيونية عن حياة الرواد من قراء المقام العراقي ومن جملتهم قارىء المقام رحمة الله (شلتاغ) حيث جسد دور وشخصية رحمة الله (شلتاغ) فيها قارىء المقام المعروف يوسف عمر(بغداد 1917م – بغداد 1986م) وأدى في تلك التمثيلية مقام القوريات ومقام التفليس باللغة التركية. وقد عرضت تمثيلية رحمة الله (شلتاغ) على تلفزيون الجمهورية العراقية عام 1972م بالأسود والأبيض حيث أدى دور والي بغداد الفنان (محمد القيسي) وأدت دور زوجة الوالي الفنانة (فوزية الشندي) ، وفي هذه التمثيلية رافق الفنان يوسف عمر في العزف كل من شعوبي إبراهيم (بغداد 1925م – بغداد 1991م) على آلة الجوزة ، وخضير الشبلي (بغداد 1928م – بغداد 2005م) على آلة القانون ، و رزوقي الطبال (ولد في بغداد عام 1918م) على آلة الإيقاع.
تعود لرحمة الله (شلتاغ) الكثير من الابتكارات والإضافات في المقام العراقي وذلك لخبرته الواسعة في تراكيب المقامات الأساسية والفرعية من جهة و لباعه الطويل في طرائق وأصول أدائها من جهة ثانية ، فتنسب إليه المصادر طائفة من الأساليب المبتكرة في المقام العراقي ونذكر منها على سبيل المثال انه:-
1- أول من أدخل قطعة (السيه رنك) في مقام الرست. وقطعة (السيه رنك) نغمها سيكاه وتبدأ من الحصار فنزولاً تدريجياً مع الإيقاع إلى السيكاه بترديد كلمة (بابي) وتسمى (المثلثة) ووزن إيقاعها (يكرك). وقطعة (السيه رنك) هي تسمية محلية ، وتدخل في مقام الهزام بعد الميانة وبعد قطعة الحكيمي وهي قطعة موزونة على ميزان اليكرك العراقي ، أما نغمها فهو مخالف على درجة البزرك (جواب درجة السيكاه) وتغنى بتلفظ كلمتي (هي بابي).
2- أول من قرأ مقام الإبراهيمي من (الدوكاه) وكان يقرأ من بردة الحسيني ، ويعد مقام الإبراهيمي من أصعب المقامات العراقية لكثرة قطعه وأوصاله.
3- قام بنقل العديد من المقامات من كركوك إلى بغداد كمقام القوريات وغيرها من المقامات والتي كان أبرزها مقام الموجيلا الذي ابتكره قارىء المقام موجي الكركوكلي (كفري1802م – كركوك 1881م) والذي سمي بمقام المدمي في بغداد.
4- قام بابتكار مقام (التفليس) والذي يعتبر من أهم تجديداته النغمية في المقام العراقي. وقطعة التفليس يغنى فيها بيت من الشعر وفي نهاية الشعر يختتم بجملة (أمان الله ياحي) أما نغم هذه القطعة فهو عراق على درجة البزرك.
5- قام بإدخال قطعة السنبلة في مقام الإبراهيمي (منا لا لا لا لا) ، وأصبحت هذه الصيحة المسماة (السنبلة) قطعة يقرأها كل من يقرأ مقام الإبراهيمي ، والسنبلة هي صيحة عالية كان قد تعارف عليها قراء المقام.
6- أدى جميع المقامات العراقية الرئيسية منها والفرعية وقد تميز في أداء بعضها بصورة مبدعة مثل (الرست ، السيكاه ، الإبراهيمي ، البيات ، الطاهر ، الباجلان ، القوريات ، البشيري ، التفليس ، البختيار ، الموجيلا).
7- كان يتمتع بحنجرة قوية وواسعة حيث كان يقرأ المقام ويحيي حفلات الجالغي حتى وفاته عن عمر يناهز الخمس وسبعين عاماً.
8- كان له العديد من القراء الذين قلدوه واتبعوا أسلوبه وطريقته في أداء المقامات العراقية مثل (احمد الزيدان ، والملا عثمان الموصلي ، ورباز ، وأبو حميّد ، وصالح أبو دميّر، والحاج حمد النيّار) ، فهو الأستاذ الكبير الذي تتلمذ على يديه الكثير من قراء المقام ومعظمهم أصبحوا من بعده أساتذة عصرهم في هذا الفن العريق.[1]