في #عفرين#… الكُرديّ إرهابيّ وانفصاليّ حتى تثبت براءته من… كُرديّته!
أحمد قطمة- إعلامي من عفرين
مجلة الحوار- العدد /72/ – 2018
كثيراً ما كنا نلتقي مع الأصدقاء في عفرين، لنسأل بعضنا، هل هذا حلم، هل يدوم الحال، هل يبقى هذا العلم الأصفر أي علم «الإدارة الذاتية»، التي وعلى نواقصها وعلاتها لم تكن ممكنة في أقصى التصورات الإيجابية لبعضنا كمشروع سياسي قابل للتطبيق العملي.. فكيف لمنطقة مُحاصرة، مُحاطة بمتربصين من كل حدب وصوب أن يحلم شعبها بحكم ذاتهم بذاتهم، وهي مُجاورة من تركيا شمالاً وغرباً، والمعارضة المتطرفة شرقاً وجنوب غرباً، فيما يشغل النظام السوري المنطقة الجنوبية الشرقية منها، ورغم أن حدة العداء كانت تتباين بين تلك الأطراف فيما بينها، إلا أن الثابت، ألا أحد منها يريد أن يرى الكردي سيداً يرفع رأسه فوق أرضه، ويحكمها دون أن ينازعه في ملكه مغتصب متغطرس.
أدرك العفرينيون والكرد عموماً أن انتصار أي طرف من أطراف الصراع السوري سيعني دخولهم في صراع البقاء السياسي معه، لكن ربما لم يتخيل أحد أن يتطور الامر إلى صراع البقاء الوجودي و التاريخي للكرد في المنطقة التي تتألف من 366 قرية، وتبلغ نسبة سكانها الكُرد ما يعادل ال 95 بالمائة، فيما كان النظام قد استجلب بموجب سياساته العنصرية البغيضة بحق الشعب الكردي أيام سطوته الأمنية، بعض العشائر العربية من حوض الفرات، ستينات القرن الماضي في سبيل توطينهم بين الكُرد ضمن المنطقة الأصفى كردياً، وما هي إلا جزءاً من سياسات الحزام العربي التي وإن كانت قد طبقت بشكل أقل فجور في عفرين، إلا أن النظام نفسه يسعى للتوجه نحو تطبيقها بشكل أرسخ قبل سنوات قليلة من اندلاع الحرب الأهلية في العام 2011، فقبلها ببضع سنوات فقط، أصدر النظام السوري مرسومه الحامل للرقم 49 الذي منع من خلاله المواطنين الكرد في عفرين من بيع أملاكهم لبعضهم إلا بعد الاستحصال على مجموعة موافقات أمينة، وفُهمت نوايا النظام في منع الكرد من بيع أراضيهم إلى بعضهم ومحاولة إجبارهم على بيعها للغرباء من باقي المناطق، لزرعهم في المنطقة، وهو ذات الأمر الذي يتوافق عليه النظام التركي وجماعة الإخوان المسلمين السورية، التي حاولت غير مرة شراء الأراضي في عفرين، ويمكن أن يذكر هنا مجلس التعاون الاستراتيجي الذي شكل بين النظامين التركي و السوري في أعوام التنسيق المشترك ضد المكون الكردي قبل العام 2011.
ولكن ما لم يدركه كثيرون، كيف أن أطرافاً كردية محسوبة على الحركة الوطنية الكردية في سوريا، لم ترغب في رؤية كل تلك الحقائق، وباتت تتعامل مع الإدارة الذاتية وكأنها دولة قائمة وينبغي أن يكون لها معارضة تقف في وجهها وتعترض على سياساتها، ورغم أنها أي «الإدارة الذاتية» في عفرين، قد كانت على قدر كبير من الاستفراد بالقرارات و إدارة المنطقة، بيد أن ذلك لم يكن ليبرر لكثيرين معادتها، وإنما كان يستوجب عليهم أن يتكاتفوا معها في سبيل تثبيتها، و التي تعني فيما تعنيه تثبيت حقوق الشعب الكردي، فيما تبقى قضايا الديمقراطية و حقوق الإنسان قضايا ثانوية يمكن العمل على تحسينها لاحقاً عقب تثبيت الإدارة الذاتية دستورياً في سوريا جديدة لامركزية، أما مزاحمتها قبل نجاحها في إثبات ذاتها، فلم يكن يفهم منها إلا أنها خدمة مجانية أو مدفوعة الثمن للأعداء المتربصين من كل حدب وصوب.
غداة إعلانها في التاسع و العشرين من يناير العام 2014، «الإدارة الذاتية في مقاطعة عفرين» حمل المسمى الجديد الكثير من الضبابية مع جهل الغالبية الساحقة من الأهالي في عفرين لما يجري، (فهم أي جماعة حزب الاتحاد الديمقراطي و حركة المجتمع الديمقراطي و أخيراً الإدارة الذاتية في تصور الكثيرين من الكرد السوريين كانوا موالين للنظام السوري، أو بالأحرى يعملون لحسابه، وفق الاعتقاد السائد حينها، وبالتالي فإن أي خطوة تعلن هي في العقلية الجمعية للكرد صادرة حكماً بموافقة النظام السوري وعلمه، وبالتالي روج كثيرون إلى ضرورة تجنب العمل معهم لأنهم لا يمتلكون مشروع سياسي واضح، وهدفهم الأساس خدمة النظام السوري و إدارة المناطق الكردية أمنياً لحين انتهاء النظام من تصفية معارضيه في المناطق الداخلية)، هذا كان التصور العام المهيمن على غالبية أبناء الشعب الكردي فيما يتعلق بمشروع الإدارة الذاتية والجهات التي تقوم عليه، فحتى (وحدات حماية الشعب لم تكن سوى جزءاً من قوات رديفة للنظام السوري وتعمل بشكل طمني لخدمته)، وهي إحدى التصورات التي سعت جهات حزبية كردية ووسائل إعلامية معارضة للنظام تثبيتها في تفكير الشعب الكردي والسوري.
وبالعودة إلى مجريات السنوات الثمانية، ساهم حدثان اساسيان في قلب التصورات السابقة وتبديل وجه الإدارة الذاتية ووحدات حماية الشعب من مجرد أدوات تخدم النظام السوري، إلى قوى كردية سورية تسعى حقاً للاستحواذ على حقوق شعبها، دون أن يكون لديها مشكلة في التعاون مع أي طرف سوري في سبيل تحقيق ذلك (سوآءاً أكان من الموالين للنظام السوري او المعارضين له)، وهو ما تميزت به عن جماعات كردية أخرى اختارت الالتحاق بصفوف المعارضة ووضع كلها بيضها في سلته.. وهذان الحدثان كانا هجومي تنظيم داعش الإرهابي على (شنكال وكوباني).
ففي شنكال، هاجمت قوى التطرف الشعب الكردي بمكونه الايزيدي، ولربما لم يكن مفاجئاً انسحاب قوات كردية تابعة لإقليم كردستان العراق امام هول هجوم الجماعات المتطرفة، خاصة أن الجيش العراقي كان قد انسحب قبلهم، لكن المفاجئ كان في هبوب وحدات حماية الشعب لإنقاذ شنكال بما أمكنها حينها، عبر الإبقاء على طريق مع الجبل و المحاصرين عليه، رغم أن الوحدات ذاتها كانت تعاني من هجمات التنظيم المتطرف في مناطق من الحسكة، كما أن القوة العسكرية التي كانت يتمتع بها، اعتبرت ضئيلة مقارنة مع قوات أخرى انسحبت أمام التنظيم المتطرف في العراق وسوريا، إضافة إلى عدم وجود أي دعم دولي في إطار مكافحة الإرهاب كما جرى لاحقاً.. ليوجه تدخل الوحدات في إنفاذ الشنكاليين الصفعة الأولى إلى وجوه من أراد أن يري الكرد السوريين بأن هؤلاء (أي الوحدات الكردية) متعاملة لصالح النظام!، فما هو صالح الأخير في التوجه إلى شنكال… وهو ما أخرج «وحدات حماية الشعب» من إطار كونها قوة محلية لا يؤمن الكثيرون بها، إلى كونها قوة قومية هبت وأنفذت ربما عشرات الآلاف في شنكال.
لم تمض أشهر، حتى شن التنظيم المتطرف هجومه على مدينة كوباني، ليبرز أكثر وأكثر معاداة التنظيم المتطرف للكرد، وهو ما بات يوحي بالجهة التي تدعمه على الأقل في هجومه على المناطق الكردية السورية وهي هنا بكل تأكيد «تركيا»، العدو اللدود للكرد، والتي لا مشكلة لديها مع تلك التنظيمات فهي قادرة في الوقت المناسب لها على ضبط إيقاعها وضمها إلى كنفها كما حصل في العام 2016، عندما جرت مسرحية تسليم مناطق شمال حلب من جرابلس إلى الباب إلى مليشيات مدعومة من قبل الجيش التركي.
وبعد بسنوات، أضحى المشروع الكردي السوري أكثر وضوحاً، وباتت جهات سياسية أكثر تلتزم بها سواء من ضمن الإدارة الذاتية أو ما خارجها، يريدونها دولة لا مركزية، تدير فيها المكونات شؤونها، دون أن يكون للنظام المركزي في دمشق سطوة وامتياز حساب عدد الشهقات والزفرات التي يأخذها كل مواطن! … وبعد مرور أربعة سنوات من إعلانها، وتحديداً في خلال يناير العام 2018، كانت الأمور في عفرين تشابه كيان الدولة الكاملة، داخلياً هناك مؤسسات تدير كل شيء، الأمن والاقتصاد، الجمارك والتعليم و الرياضة، إدارة شؤون المواطنين، مشاريع تجارية ضخمة استثمرت فيها عشرات السنوات من الخبرة والكد والمال الذي جمعه الكرد في حلب، مؤسسات الإدارة الذاتية، الكومينات، كل الأمور تسير نحو الأفضل رغم المنغصات، كل شيء كان على ما يرام، باستثناء العلة الأساسية لدى الكرد وهي التحزب، فهي وإن كانت تضمحل ضمن مؤسسات الإدارة الذاتية مع انتساب الكثير من المواطنين إليها، كونها كانت توفر فرص عمل وبأجور مالية هي مضاعفة عما كان النظام السوري ذاته يتمكن من دفعها، إلا أن التحزب كان ظاهراً من خلال هيمنة صور وشعارات وخطابات تكرر ذاتها في كل مناسبة، ما ساهم في ترسيخ صورة استغلها الاحتلال التركي من خلال ترويج هيمنة حزب العمال الكردستاني أو جماعات موالية له على عفرين، و بالتالي تبرير غزو المنطقة كون الحزب موجود على لوائح سوداء في أمريكا وأوروبا، ورغم أن وجود الحزب ذاته على تلك اللوائح هو موضع خلاف بين المشرعين في تلك البلدان، وهو ما قد يعني إمكانية رفعها عن تلك اللوائح مستقبلاً، لكن عدم تقدير الإدارة الذاتية و الأطراف السياسية المشاركة فيه لخطورة المجازفة بمصير المنطقة، لقاء الارتباط مع حزب كردستاني قد يتفق معه عفريني ويختلف معه آخر، ساهم من كل بد في إسقاط تجربة الإدارة الذاتية نفسها، وإن كان العدو لا يلام في عدائه لخصمه، فإن المصيبة تكون عندما يساهم الشريك من حيث يدري أو لا يدري في دفع المنطقة إلى السقوط في هاوية وشرك الاحتلال!
لم يكن غالبية العفرينيين مدركين لحقيقة العدوان القادم، ولربما آمن كثيرون منهم أو أملوا أن لا تنهار تلك المؤسسات، وأن ما لاقاه الكرد خلال السنوات الثمان ووقوفهم في وجه إرهاب العالم، سيدفع مناصري قضايا الإنسان إلى دعمهم في مواجهة الغزو فيما لو تم، فالحل كان متوفراً في العقل الباطن للغالبية، في فرض حظر جوي على الشمال السوري، بما يسمح للقوات التي تحارب الإرهاب من الكرد والعرب وشركائهم في قسد بمواجهة الإرهاب التركي من جرابلس إلى عفرين!، لتساهم تلك التصورات في دفع العفرينيين مدنيين وعسكريين إلى رفض الغزو و التأكيد على مواجهته رغم فاتورته الكبيرة، التي استمرت مع استمرار القصف الجوي التركي، إلى أن خلقت ضعضعة في صفوف القوات الحامية لعفرين وساهمت في ترجيح الكفة العسكرية لصالح الغزاة من الإسلاميين و الأتراك، في مشهد لم يحدث سابقاً في المنطقة الكردية التي عاشت ثمان سنوات من الأمن، عندما كانت الحرب تقرع طبولها من بعيد وتطحن رحاها باقي المناطق السورية الواحدة تلوى الأخرى.
ورغم أن البعض قد يأخذ على حزب الاتحاد الديمقراطي تفرد بقرارات السلم و الحرب، وربما رهانه على مصير المنطقة الأصفى كردياً وإدخالها في معمعة السياسات العنصرية التركية، من خلال تقديم حجة احتلال الأخيرة لها، بيد أنه في كل الحالات لا يمكن إنكار أن القضية التي جاءت تركيا غازية ليست ديمقراطية للكرد أو عموم السوريين، بل هي قضية واحدة ليس لها ثان، وتتمثل في الرعب التركي من «الكردي السيد»، ذلك المارد الذي تخشى أن ينقل عدواه إلى قرابة 20 مليون كردي في كردستان الشمالية أو ما يمكن تسميتها بكردستان الملحقة بتركيا وفق اتفاقية القرن الماضي، وبالتالي فإن ما عقب احتلال عفرين من عمليات انتقام وعقاب جماعي شملت جرائم حرب وأخرى ضد الإنسانية كالتغيير الديموغرافي و التهجير العرقي، لم يكن مفاجئاً لمن أدرك حقيقة الغزو، لكن المصيبة تكمن فيمن تأمل خيراً من عدوه، وتصور أن القضية ستحل بوجوده راعياً للأمن التركي على المنطقة الكردية، وكأن الشيخ سعيد و السيد رضا كانا آبوجيين، وكان «عصمت اينونو» و»حسن خيري» ما يزالان حيين في مجلس النواب التركي ويقولان إن الكرد يريدون أن يكونوا جزءاً من تركيا!
وبالمحصلة… في عفرين، راهن الجميع على الجميع، راهنت الإدارة الذاتية على حلفائها الغربيين في تزويدها بالسلاح النوعي المضاد للطيران، فُخذلت… راهنت أطراف كردية على تعقل الاتحاد الديمقراطي وفصله لقضية عفرين عن قضايا أكبر من تحملها، عبر تسليمها الشأن السياسي لأطراف بعيدة عن حزب العمال الكردستاني، فُخذلت… راهنت أطراف كردية ترى في نفسها الند للاتحاد الديمقراطي والإدارة الذاتية، من خلال التأمل في السيطرة على إدارة المدينة على الأقل إدارياً عقب (تحرير) الأتراك لها من خصمهما الكُردي، فُخذلت ولم ينلها سوى سواد الوجه وإدارة أعمال ترحيل القمامة في بلديات المنطقة، بينما سلمت المدينة كعذراء مستباحة لوحوش لم تسلم من أنيابهم البشر أو الشجر أو حتى الحجر، فكل كردي (إرهابي وانفصالي) في عقلية الإخوان المسلمين وسلطانهم العثماني التركي، حتى تثبت براءته من كرديته![1]