هل كان #جلادت بدرخان# مفكراً؟…
#صالح بوزان#
مجلة الحوار – جدل – العدد /71/ – السنة 25 – 2018
في الوقت الذي انتهت فيه انتفاضة آغري (1927-1930) وانتفاضة ديرسم (1937- 1939) تراجيدياً دخل الكرد في كردستان تركيا سباتهم الطويل. ويبدو أن جلادت بدرخان وصل إلى قناعة بانتهاء دوره السياسي الكردي. فالوضع السياسي والاجتماعي لم يعودا مهيئين له لمتابعة العمل على هذا الصعيد. أصبحت الظروف متناقضة مع الطموح الكردي للحرية محلياً وإقليمياً ودولياً. كما أن البنية السياسية والاجتماعية لكردستان سوريا لم تكن هي الأخرى مؤهلة للعمل السياسي الكردي. من ناحية أخرى لا مجال في كردستان سوريا للقيام بانتفاضات على الشكل الذي حدث في الأجزاء الأخرى من كردستان. وبات هذا المناضل أمام خيارين؛ إما ترك السياسة والاهتمام بشأنه الخاص، كما يفعل الكثيرون من الساسة في هذه الحالة، أو اختيار طريق آخر يستطيع فيها خدمة شعبه. ويبدو أنه لم يطل التفكير. فسرعان ما حدد هدفه في اللغة الكردية وتراثها.
في العودة إلى سيرة جلادت بدرخان (ويكيببيديا) نجد أنه ولد في استنبول (26-04-1893) م?ن سلالة العائلة البدرخانية التي ظهر فيها أمراء جزيرة بوتان. كان والده «أمين» رجلا ثرياً ووطنياً ومحباً للشعر. اتخذ من الشاعر الكردي المعروف عبد القادر كيوي استاذاً لأولاده يعلمهم الكردية و??????أصولها. كان يجمع حولهم أستاذة في الفن والتراث الكردي الشفهي وفي التاريخ من كبار الموسيقيين والمطربين والعلماء من سائر أرجاء كردستان ليكون ذلك بداية طريق أولاده إلى العلم، إضافة إلى حرصه الشديد على تعليم أولاده اللغات.
كان جلادت خريج دراسات عليا في المانيا. يتقن الكردية والتركية والألمانية والعربية والفارسية والفرنسية والانكليزية والروسية (يوكيبيديا). هذه السيرة تدل على علاقة وثيقة ليس باللغة الكردية وتراثها فحسب، بل بعدة لغات أجنبية، يستطيع من خلالها الاطلاع على فكر وثقافات أهم الشعوب ذات الحضارات العريقة على الصعيدين القديم والحديث. ومن المؤكد أن هذه ميزة كانت نادرة وقلما توفرت في شخص كردي في زمنه، وربما الآن أيضاً.
من خلال الاطلاع على مؤلفاته نجد أن أغلبها محصورة باللغة الكردية وآدابها وببعض الكتابات الشعرية وترجماتها. هناك مسرحية وحيدة كتبها بعنوان «هيفي». مقصد الكلام أن جلادت لم يكتب شيئاً في الفكر عامة والفكر القومي خاصة. ولا نجد له دراسات ثقافية أو ترجمات فكرية هامة سوى ترجمة بعض الأشعار الفارسية.
أشهر ما قام به جلادت هو كتابه في «قواعد اللهجة الكرمانجية» وثورته في الانتقال من الحروف العربية إلى الحروف اللاتينية. كانت بوابة عمل جلادت مجلة « هاوار». هذه المجلة التي أصبحت اليوم ثروة في الثقافة الكردية. ومع ذلك فقد كانت متواضعة في انطلاقتها وفقيرة. بل ممكن تسميتها بلغة اليوم «نشرة» مقارنة بالمجلات العربية التي كانت تصدر حينئذ في سوريا تحت الانتداب الفرنسي. في الأعداد الأولى من المجلة نجده يكتب هو بالذات أكثر موادها. كان قراء المجلة كتابها في الأغلب. زد على ذلك أن الأعداد التي كانت ترسل خارج سوريا معدودة. وربما لم تصل أغلبها إلى الجهات المرسلة إليها. وبالتالي لا نستطيع القول إنه حقق نجاحاً على هذا الصعيد.
كان الشعب الكردي في سوريا عندئذ شعباً أمياً، وربما لم يكن هناك موظف كردي إلا ما ندر. كانت الأمية شبه شاملة على صعيد اللغة الكردية. كان بعض رجال الدين الكرد يتقنون القراءة والكتابة باللغة العربية وشيئاً من الكردية بالحروف العربية.
لم يحقق كتابه في قواعد اللغة الكردية وألف باء الكردية اللاتينية ما كان يأمل منهما. فلم يتجاوز الذين انتقلوا إلى الحروف اللاتينية عدد أصابع اليد في سوريا حتى أواخر الستينيات من القرن الماضي. الملفت للانتباه، عندما تشكل فيما بعد أول حزب كردي سوري أواخر خمسينيات القرن الماضي لم يكن هناك من يتقن اللغة الكردية قراءة وكتابة غير الدكتور نور الدين ظاظا (هو الذي كتب برنامج الحزب باللغة الكردية حسب الحروف اللاتينية على ما أعتقد) وجكرخوين وأوصمان صبري وقدري جان. الدواوين الثلاثة الأولى لجكرخون طبعت بالحروف العربية التي لا تخضع كثيراً للقواعد والاملاء. ويجب أن نقرّ بحقيقة أخرى وهي أن جكرخوين وأوصمان صبري كانا شبه أميين ثقافياً. عند قراءة سيرتهما لا نكتشف أنهما قرآ شيئاً من الثقافة والأدب سوى بعض الشعراء الكرد الكلاسيكيين. لا توجد أية معلومة تدل على انهما اطلعا على الأدب العربي. وبالتالي لم يتأثرا بهذا الأدب الذي كان ينفض عن كاهله الديباجات الكلاسيكية. فمنذ أربعينيات القرن الماضي قام كل من نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي بثورة الحداثة في الشعر العربي. ووضع نجيب محفوظ بدايات الرواية العربية. فلا نجد أن جكرخوين وجلادت وأوصمان صبري وقدري جان قد تأثروا بهذه الحداثة. مما يعني أنهم لم يطلعوا عليها. كما أننا لا نجد أية مؤشرات بأن جكرخوين وأصمان صبري وقدري جان اطلعوا على الثقافات الأجنبية. ويبدو أنهم لم يكونوا يتقنون اللغة العربية كما يجب حتى تكون مصدراً لهم للاطلاع على الثقافة العربية أو الأجنبية من خلال الترجمات. كان جكرخوين في دواوينه الأولى يقلد ملي الجزيري وخاني وفقي طيران. وتعتبر دواوينه الثلاث الأولى أفضل دواوينه. لكن شعره في هذه الدواوين لا يختلف عن الشعر الكردي الكلاسيكي. بينما في شعر قدري جان نلاحظ بعض ملامح الحداثة.
أعود إلى السؤال الرئيسي: لماذا ترك جلادت السياسة واتجه نحو اللغة الكردية وتراثها؟ ماذا كان يخطر في ذهنه أواخر ثلاثينيات القرن الماضي عندما وجه جلّ اهتمامه هذه الوجهة؟ كان بإمكانه أن يكتب الكثير باللغة التركية أو الألمانية التي يتقنهما أكاديمياً، وربما العربية أيضاً، ويحقق شهرة شخصية أكبر ومعجبين أكثر، وريما مكسباً مالياً أيضاً؟ فلماذا اختار هذا الطريق؟
قد لا يهم كثيراً لو سرد أحد ممن عاصره أو سمع من أحد معاصريه أنه أجاب بالذات على هذا السؤال بكذا وكذا. وقد لا يهم أيضاً ما يقول الأديب أو المفكر عن نفسه. فهناك نقاد اكتشفوا حقائق في السيرة الأدبية والفكرية لبعض المشاهير تناقضت مع مما قالوا هم عن أنفسهم. *
من ناحية أخرى، نعلم أن الكتابة بالنسبة للكاتب هي شكل من أشكال التعبير عن وجوده. فمسألة الوجود الانساني يتجاوز الشعور القومي. لأنها مسألة كينونية. العامل الذاتي في الكتابة ليس مجرد عامل ذاتي بحت. إنما هو موقف من الحياة ومن الوجود ومن الكون. فقضايا المجتمع البشري هي غالباً فوق المسائل القومية. لأن القومية جزء من القضايا البشرية وليس العكس. لماذا اهتم هذا المناضل السياسي بمسألة لم تثر اهتمام أغلب الكرد السوريين حينذئذ؟
لم أجد في كتابات من كتب عن جلادت جواباً شافياً لهذه المسألة. فأغلب هذه الكتابات تدخل في باب السيرة، قام بها كتاب كرد أقل شأناً على صعيد الثقافة والفكر من جلادت. مقصد القول أن جلادت لم يتعرض لدراسة نقدية أكاديمية من قبل كاتب كردي ممكن اعتباره نداً له. ربما هناك اجماع أن جلادت عرف أهمية جريدته وكتابه في قواعد اللغة ومسألة الحروف اللاتينية للأجيال القادمة. وهذا الكلام نستطيع التأكد من صحته اليوم. لم يكتب كردي كتاباً يتعلق بقواعد اللغة الكردي يتجاوز كتاب جلادت حتى اليوم. كما أن مجلة «هوار» تعتبر الأساس لمن يريد أن يكتب بكردية صافية في الأدب والسياسة والفكر. هل كان جلادت حينها يفكر بالمستقبل؟ أقصد بمستقبل الأمة ولغتها وأدبها؟ هل كان يريد أن يضع الجيل الكردي الشاب على أرضية أكثر رسوخاً في النضال من أجل أمته؟ هذه الأسئلة مازالت بدون أجوبة.
لا أعتقد أن ثمة كاتب يكتب عن سابق إصرار من أجل المستقبل. فالكاتب ابن بيئته وعصره، ويحمل ثقافة مجتمعه. هو لا يستطيع ان يحدد هوية المستقبل لكي يكتب من أجله. وليس بإمكانه أن يحدد مسبقاً الطريق إلى المستقبل المنشود. كل الادعاءات على هذا الصعيد تخالف الحقيقة. فالأفكار والكتب التي تبقى حية مع الزمن لا تعني أبداً أن الكاتب كان يعرف أنها ستبقى كذلك. بل هو تناول قضايا معاصرة له، وصاغ أفكاره حولها بتلك التجريدية التي تتمحور على جوهر القضايا. وعندما تبقى أفكاره حية عبر الزمن فإن ذلك يعني أن جوهر المسألة التي تناولها في كتاباته مازالت مستمرة ولو بعد قرون. هذا ما نلاحظه في الأدب والفكر الإغريقي واليوناني القديم. فعقدة أوديب مازالت حية في ذهن البشرية. والمواضيع التي تناولها شكسبير في مسرحياته التراجيدية مازالت مواضيع تعاني منها النفس البشرية. هناك ثمة كتب لم تثر اهتمام الناس في زمنها. وفيما بعد أصبحت تلك الكتب من أهم مصادر الفكر الاجتماعي والسياسي. أذكر على سبيل المثال «الجمهورية « لأفلاطون (427 ق.م – 347 ق.م )، وكتاب «الأمير» لمكيافللي (1469- 1527)، والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو(1712-1778).هل هناك مثقف في العالم لم يقرأ هذه الكتب؟ لا أعتقد ذلك.
في كتابات جلادت بدرخان لا يوجد فكر نظري قومي. فهو لم يعرّف لنا القومية الكردية. بمعنى ما هي أسس القومية الكردية وعناصر تكوينها تاريخياً. لاشك أننا لم نجد هذا المنحى لأي مثقف كردي بعده أيضاً. فلم يضع أحدهم أسساً لنظرية قومية كردية. كل ما نقرأه هو مجرد سير تاريخية لزعماء كرد ولانتفاضات كردية وشعارات ناضل تحت لوائها المناضلون الكرد. عندما نتناول قضايا الشعوب التي تتجاور الكرد، نجد لديهم مفكرين نظّروا لقوميتهم، بغض النظر إذا كانت آراءهم صحيحة أو ملفقة. لو تناولنا القومية العربية على سبيل المثال، نجد أن كل الساسة والمثقفون العرب يعتمدون حتى الآن على آراء زكي الأرسوزي (1899 – 1968) وميشيل عفلق(1910-1989) في التنظير للفكر القومي العربي. حاول بعض المفكرين العرب تجديد هذه النظرية على ضوء الفكر الماركسي مثل الياس مرقص (1927 –1991) وياسين الحافظ (1930.- 1978) . لكنهما لم يستطيعا تجاوز الأرسوزسي وعفلق. كل ما قاما به هو توليف نظرية عفلق مع المنطلقات الماركسية في المسألة القومية. في النتيجة قدم المفكرون العرب للشباب نظرية قومية ما ليثقفوهم بها ويربطوهم بالقضايا المعاصرة لأمتهم.
لكننا على الصعيد الكردي لا نجد مثل هذا المسعى. هناك بعض المثقفين الكرد»؟» يريدون أن يجعلوا من ملا مصطفى البرزاني ونجله مسعود البرزاني (وهما لم يدرسا دراسات جامعية) منظرين للقومية الكردية تحت مصطلح مصطنع «البرزانيزم». لكن هذا التوجه لا علاقة له بالنظرية القومية. هو مجرد محاولات سطحية لإملاء الفراغ الموجود. وبالرغم من أن عبد الله أوجلان يختلف عن كل الزعماء الكرد باهتماماته الفكرية وغزارة نتاجه، فإننا لا نجد عنده تصوراً واضحاً على هذا الصعيد. أغلب الاعتقاد أن أوجلان سياسي أكثر مما هو مفكر. وما كتبه ويكتبه خاضع لمتطلبات المرحلة النضالية لحزبه، والسعي لوضع خلفية فكرية لشعارات المرحلة النضالية. وهذا هو السبب، باعتقادي، في سهولة تغيير آرائه الفكرية ومواقفه السياسية.
ربما في الفلسفة وعلم النفس نجد جزءاً أهم من الجواب على سؤالنا حول جلادت بدرخان.
هناك نوع من البشر لا يقبلون الاستسلام مهما تعرضوا للهزيمة والانكسارات. ففي كل هزيمة يحاولون البحث عن وسيلة أخرى للمقاومة ورفض ما يريده العدو. هؤلاء يريدون إيصال رسالة واضحة للعدو أن انتصاره ناقص ومؤقت. فالانتصار العسكري لا تعني القضاء على قضايا الشعوب. وليس للمقاومة شكل واحد. فالتمرد، رغم القناعة أنه لن يحقق شيئاً أحياناً، يدل على مسألة حساسة، وهي أن القضية لم تمت. هذا ما يدركه كل مفكر. قرأنا كثيراً أقوالاً ذات مدلول عميق لمناضلين أما جلاديه. عندما قالوا للجلاد: «بإمكانك قتلي، ولكن ليس بإمكانك قتل أفكاري». هذه حقيقة تاريخية. وهي ترعب الطغاة في العصر الحديث. ولهذا وجدنا كل الطغاة المعاصرين منذ النصف الثاني من القرن الماضي وحتى الآن يسعون بشتى الوسائل السيطرة على العقول المفكرة.
لا شك أن جلادت كان يعرف عن عمق سيرة عائلته التي حكمت إمارة بوطان لمدة طويلة ومن ثم اقتلعت من ديارها. هو أمير وابن أمير. والامارات الكردية، كما نعلم، كانت إمارات عشائرية واقطاعية في الأغلب. وبالتالي كانت سلطة العائلة ومصلحة العشيرة هي التي تحدد أهداف الأمراء الكرد عبر التاريخ. كان لهذا العامل الدور الأول في الانتفاضات والثورات الكردية. ومازال مستمراً حتى العصر الحديث. فجذوره باقية في مخيلة كل زعيم كردي بهذا الشكل أو ذات (تحولت مصلحة العشيرة لدى بعض الزعماء الكرد إلى مصلحة الحزب). نتج عن هذه الحقيقة خاصيتان رافقتا التاريخ الكردي. الأولى عدم ارتقاء عقل أمراء الكرد من عقل سلطة العائلة والعشيرة إلى عقل الأمة والدولة. والثانية الخيانة للقضية بالتعامل مع العدو من أجل استلاب السلطة والزعامة لصالح العائلة والعشيرة. لم يثق زعماء العشائر الكردية بعضهم بعضاً. ولم يثقوا بالزعيم المنتفِض تحت الشعار القومي. فمن ناحية كان هؤلاء الزعماء منافسين للزعيم المنتفِض. ومن ناحية أخرى كان الزعيم المنتفِض لا يتجاوز في رؤيته السياسية حدود سلطته وزعامته. فهو يريد من بقية زعماء العشائر الخضوع له مثل أفراد عشيرته. وهذا ما كان لا يقبله زعماء العشائر الكردية الأخرى. وهكذا كانوا يتآمرون على بعضهم بعضاً، ولا سيما الاستنجاد بالعدو. كانت الخيانة شكلاً من أشكال التنافس على النفوذ لا أكثر. هذا الاستنتاج مازال فاعلاً حتى الآن في كردستان تركيا والعراق وسوريا. الزعيم الكردي يعلن الانتفاضة ومن ثم يسعى لإجبار بقية الزعماء على الوقوف معه. وإذا لم يقفوا معه يعتبرهم خونة، وإذا وقفوا مع العدو ضده يُعتبرون خونة حتماً.
هل استنتج جلادت بدرخان هذه الحقيقة من سيرة أغلب الأمراء الكرد، ولا سيما أمراء عائلته؟
يبدو أنه فعلاً أدرك هذه الحقيقة. ففي كل الثورات الكردية ضد العثمانيين والفرس كان الأمراء الكرد الذين يقفون مع السلطان العثماني والشاه الفارسي ليسوا أقل من الذين يقفون إلى جانب الثورات الكردية. وهذا ما حدث خلال جمهورية آتاترك التي عاصرها جلادت.
في تاريخ الشعوب المعاصرة ثمة ساسة يرفضون الواقع بشعارات سياسية فارغة. وهذا ما لاحظناه بعد نكبة كركوك الأخيرة. لكن السياسي الواقعي والمفكر الجاد لا يجد الاعتراف بالحقيقة المرة استسلاماً. كل ما في الأمر هنا ما هي الخيارات الجديدة؟
سبق القول أن جلادت توصل إلى قناعة أن الوضع الكردي الاجتماعي والسياسي والثقافي غير مهيئ لأية انتفاضة كردية جديدة في كردستان تركيا نتيجة استمرار تلك العقلية الكردية التي عرقلت الانتقال من عقلية العشيرة والامارة إلى عقلية الأمة. والأهم من ذلك أن التخلف الثقافي الكردي وابتعاد النخب الكردية عن اللغة الأم وآدابها وتراثها كان العامل الأول في كل التراجيديا الكردية تاريخياً. لو عدنا إلى تاريخ الأمة الكردية بشيء من التمعن، نجد أن هذه الأمة تملك تراثاً (فلوكلور) شعبياً شفهياً غنياً. لكن الكرد لم يدونوا هذا التراث بلغتهم حتى النصف الثاني من القرن الماضي. ما نجد من كتابات قديمة هي عبارة عن بعض دواوين الشعر لا أكثر. نعلم أن التراث الكتابي يملك قوة احتياطية لنهضة الأمة في أية مرحلة، ويحفظها من الضياع والذوبان. ولهذا يعتبر الفرس أن كتاب «الشاهنامة» للفردوسي ((935–1020 هو أساس القومية الفارسية. كما يعتبرون الفردوسي نبي اللغة الفارسية وآدابها وتراثها. لقد كتب تاريخ أمته وبطولاتها ومجد أبطالها بأسلوب شعري شيق. كما نجد عند العرب تراثاً عريقاً من الشعر والنثر المدون. وأهمه القرآن الذي منع اللغة العربية من الضياع. فرغم أربعة قرون من الانحطاط الأدبي والثقافي العربي في عهد العثمانيين نهض العرب بمجرد الانعتاق من العثمانيين بالاعتماد على تراثهم الذي لم يندثر لكونه كان مدوناً ومنتشراً في المكاتب العالمية. كما أن التوراة حمى الشعب اليهودي من الانصهار الكامل رغم ما تعرض له من ويلات قلما تعرض له شعب آخر عبر التاريخ.
وماذا لدى الكرد؟
ليس لديهم سوى بعض الشعراء الذين لم يعرفهم أغلب الكرد سوى في العصر الحديث. مع الأخذ بعين الاعتبار أن المواضيع التي تعرضوا لها في شعرهم معدودة. سبق القول أن لدى الشعب الكردي أغنى فلكلور. لكن أغلبه اندثر. لماذا…؟ لأن مأساة الشعب الكردي الأعمق أن النخب الكردية عبر التاريخ لم تقم بتدوين التراث الشعبي الكردي. لم تدون بطولات هذا الشعب في انتفاضاته وثوراته. نقرأ في التاريخ أن الكرد قاوموا بشراسة الغزوات الاسلامية. والذاكرة الشعبية لدى كل الشعوب تحول هكذا مقاومة إلى أغاني وقصص ورسومات. أين ذلك في التراث الكردي؟ ألم يغنوا لبطولاتهم؟ ألم يرووا قصصاً عن شهدائهم؟ نعم فعلوا كل ذلك حتماً. ولكن لا أحد دون ذلك، وابتلعه النسيان. يجب الاقرار أن النخب الكردية خانت أمتها عبر التاريخ. وتسابقت في كتابة تاريخ وبطولات الشعوب الأخرى. تعمقت في لغاتها وآدابها وأنتجت لها أفضل الآداب. بينما سلموا لغتهم الأم إلى سجن النسيان بإرادتهم. وساعدوا الأعداء لكي ينقرض تراث أمتهم. أليس هذا العمل خيانة أكبر من خيانات الساسة والأمراء الكرد؟ ماذا يمكن أن تقدم للشبيبة الكردية اليوم من تراث تحيي فيها مشاعر القومية وتقوي انتماءها للأمة؟ أتقدم لها الشعارات السياسية التي هي غالباً مسألة مؤقتة؟ أم تزرع فيها ولاء العبودية لزعيم طارئ يقتات على مصائب الأمة الكردية؟
نعلم أن العنصر الأساسي لأية نظرية قومية حديثة هو اللغة والتراث والثقافة. فاللغة والتراث قوتان احتياطيتان تجعلان الفرد يرتبط غريزياً بقضايا شعبه. لا يمكن أن يكون هناك شخص يحب تراث شعبه ويحفظه ويرويه لأولاده وفي الوقت نفسه يقوم بخيانة أمته. الخائن هو من أعلن الطلاق من أمته.
بإمكاننا اليوم أن نتذكر جلادت بدرخان من هذه الزاوية، ونعتبره أكبر مفكر كردي في تاريخ الأمة الكردية الحديث. فأهم عنصر لضعف الحركة الكردية في كردستان تركيا ناتج عن ابتعاد الشعب الكردي عن اللغة الكردية وتراثها. أغلب كرد تركيا ليس لديهم شعور قومي تجاه لغتهم الأم. والأخطر من ذلك أن الأمهات الكرديات يعلمن أبناءهن اللغة التركية في المهد وليست اللغة الكردية. أليس هذا استلاب وغربة عن الشعور بالانتماء للأمة من الداخل. قلما نجد هذه الحالة لدى شعب آخر؟ هناك حقيقة سيكولوجية أن الأم تعلم ابنها لغتها من أجل أن يخاطبها الأبن بهذه اللغة. فتغني له، وتحكي له القصص الشعبية. وبالتالي يتربى الولد في حالة نفسية تتداخل فيها الانتماء لأمه ولأمته في الوقت نفسه عندما يكبر. فتصبح الأم هي الأمة والأمة هي الأم. من يستطيع التخلي عن أمه إلا العاق؟ تعليم اللغة منذ الطفولة يخلق احساساً خاصاً لدى الانسان. ولهذا نجد أن الذي يتعلم لغة أجنبية فيما بعد، لا يمكن أن يجد ذلك الاحساس في أية لغة أجنبية. ولهذا السبب سميت «اللغة الأم».
للغة القومية دور متميز في سيرورة الوعي القومي وجذور نهضة الأمة. لقد تحول حزب العمال الكردستاني في سوريا وفيما بعد حزب الاتحاد الديمقراطي إلى حزبين جماهيريين بين كرد سوريا بسبب البيئة النفسية الموجودة. خصوصاً تمسك كرد سوريا بلغتهم الأم. وبالتالي كانت ثمة تربة خصبة للعمل السياسي من أجل القضية القومية الكردية تختلف عن الوضع في كردستان تركيا. حتى الشعارات القومية الطوباوية لهذا الحزب جذب آلاف الشباب الكرد السوريين واستشهدوا بكل بطولة من أجلها. كم يستغرب الكردي السوري اليوم عندما يجد شخصيات ونخب كردية سياسية وثقافية تقف بتشدد ضد اللغة الكردية وحقوق الشعب الكردي في تركيا أكثر من العنصريين الترك. ولعل أبرز الأمثلة الراهنة رئيس حزب آتاترك الحالي كمال كلجدار أغلو ورئيس وزراء تركيا الحالي بن علي يلدرم، والقائمة طويلة. هذه النماذج الكردية فقدت لغتها. ولم تتربى في حضن أم كردية تغني لهم الأغاني والقصص الشعبية باللغة الكردية. بينما في سوريا نجد حتى الكردي البعثي يرفض التعريب.
هذا ما أدركه جلادت بدرخان بعمق واستنتجه من تاريخ أمته وعائلته. لقد توصل هذا المفكر إلى استنتاج أن الأتراك ألحقوا به وبشعبه هزيمة عسكرية وسياسية، لأن الشعب الكردي في كردستان تركيا مرتبط بالتراث العثماني أكثر مما هو مرتبط بتراثه الكردي.
وللأسف ليس جلادت بدرخان وحده أدرك هذه الحقيقة. فالعدو هو الآخر أدركها قبل أن يدركها أغلب النخب السياسية والثقافية الكردية. قام أعداء الأمة الكردية بالحظر الشديد على لغتها وتراثها في كردستان تركيا وإيران وسوريا. أول عمل قامت به حكومة الاستقلال تجاه الكرد في سوريا منعت مجلة «هوار» من الصدور. وبقي الحظر الشديد على اللغة الكردية في كردستان سوريا حتى بدايات الثورة السورية 2011. ما قامت به الجمهورية التركية تجاه اللغة الكردية وسرقة تراثها يعتبر فاشية تتجاوز فاشية موسوليني بكثير. المسألة نفسها حدثت في كردستان إيران. أما عدم منع اللغة الكردية في كردستان العراق فيعود الفضل للاستعمار الانكليزي وليس للأنظمة الحاكمة في بغداد منذ عام 1920.
لا نستطيع القول اليوم أن كرد سوريا استفادوا من نهج جلادت العلمي كما يجب. فلو نلقي نظرة على الأحزاب الكردية السورية وعلى النخب الثقافية، نجد أغلبهم لا يتقنون اللغة الكردية قراءة وكتابة. والأسوأ على هذا الصعيد أن النخب السياسية بعيدة عن تراث اللغة الكردية، ولا يضعن اتقان اللغة الكردية شرطاً للهوية القومية في الممارسة. هم لا يعرفون جلادت بدرخان وأحمد خاني وملا جزيري وفقي تيران سوى بالاسم. حتى النخب الكردية الثقافية التي تتقن اللغة الكردية قراءة وكتابة نجد نتاجهم العربي هو الطاغي. والسبب أنهم يجدون في فضاء اللغة العربية ما لا يجدونه في دائرة اللغة الكردية الضيقة. وبذلك يحافظون على أن تبقى هذه الدائرة ضيقة.
هنا تكمن الخلفية الفكرية لجلادت بدرخان، ولكل ما قام به أواخر حياته. هذه الخلفية التي طرحت عليه سؤالاً كبيراً: من أين يجب القيام بنهضة الأمة؟ ما هو الحصن الحصين الذي لا يستطيع العدو اختراقه؟ كيف يمكن توسيع هذه الدائرة الضيقة للغة الكردية؟ وجاء كل نتاجه ليجاوب على هذا السؤال.
——————-
* ممكن العودة إلى كتاب الناقد إحسان عباس « بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشعره- بيروت 1969» لتجد الفارق بين سيرة هذا الشاعر وبين ما اكتشفه هذا الناقد من حيثيات حياة السياب من خلال شعره. لقد اخترق هذا الناقد خلفية شعر بدر شاكر السياب ليقدم لنا تناقضات حياته. مكن المقارنة بين دوستويفسكي في روايته الأخوة كرامازوف و دوستويفسكي في كتاب بيير كامو «الانسان المتمرد».[1]