محمد خضير
لا نرى في أعمال الفنان #إسماعيل خيّاط# (السليمانية 1944) أجزاءَ من منظر كلّي، بل نرى منظراً كلّياً وقد تجزأ الى ذرّات ودقائق. هكذا يرى فنّان الطبيعة الجبلية، المناظرَ في ذرّة، جُزيئةٍ طبيعية أو بشريّة: صخرة، طائر، كفّ بشريّة، قناع مصنوع من بقايا ورقية.
الأجزاء المتناقضة، الذرّات السابحة في عالمها، تندرج من الكِبَر إلى الصِغَر، ومن الخشونة الى النعومة، ومن الانطفاء الى التوهج اللونيّ، فيما هي تغادر أجسامَها العضوية الكاملة، وتتّحد من جديد في كلّيات مُذرّاة، وهيآت مثالية، ورؤى متصاغرة إلى ما لا نهاية تحت مستوى النظر، أو خلف قناع وهميّ (القناع الذي نرتديه حين الانتقال إلى_ خان العالم_ كما كتبتُ مرّة في: حدائق الوجوه).
أليست هذه صورة العالم الذَّرّي الدقيق، كما يراها فنّان من عالم المادة الكبير؟
قد لا يعيش فنّان سنواته كلَّها فوق الأرض، يلمح ما يلمحه راعي غنم، أو متسلّق جبال يلمح ما يلمحه طائر محلّق فوق الذرى الشاهقة، او منقِّب/ مفتِّت للصخور والمنحدرات الجبلية.. وغيرها من أعمال التعرية والتجوية (الحفر وتفتيت الصخور) بأكفّ بشرية (كناية عن المقاساة والمعاناة النفسية والجسدية).. فقد يلجأ فنان الذّرات إلى أبعد من هذه العمليات الحفرية والتجريدية (تجريد السطوح من مظاهرها المرئية)، إلى عملية التصوير/ التصوّر بمقاييس ذرّية، غير مرئية، عبر المحاكاة العميقة لصيرورة الأشياء ونمو الكائنات، في عالمها البِكر ومستقبلها غير المحدود. إنّه عمل الحفّار الحقيقي عن جوهر الأشياء والمخلوقات جميعها، وقد توحّدت في ذاته.
في هذا العالم الأركيولوجي_ ما قبل الخلق والتصيير/ التشبيه الإنساني، ينمو مفهوم خاصّ للفنّ، هو مفهوم الفنّ الذَّرّي، الذي ينازع الوجودَ العياني على ممتلكاته/ مرئياته الزمانية والمكانية. ففي هذا النوع من التصوير بحثٌ عن أبعاد غير بصرية_ غير سطحية_ غير وصفية. أمّا ما يوضع قيدَ التداول الفنيّ، فهو إحساسُ ما قبل التشكّل والتصيير بمقاييس الرؤية المشهدية الكاملة، أو البناء العضوي للأجسام والهيئات والصور.. إحساسٌ بالأشياء قبل تفتّتها إلى ذرّات كونية (ذات وصفٍ فيزيقي). ومثل هذا الإحساس/ الإدراك القبليّ، يستبق الوجودَ، حيث تعيش الأشكال التي سيُظهِرها الرسمُ في حالتها الذَّرية/ كينونتِها الخليقية، غير القابلة للوصف أو التحديد (بخطّ ولون وشكل).
هل نستطيع مقابلة هذا الوجود الذَّريّ بسرديّةٍ قصصية ما، كتلك السردية الأركيولوجية في نصّ سومريّ قديم، كقصة الخليقة البابلية مثلاً؛ أو بنصّ قرآني عن عالم البرزخ؟ أنجرؤ على تحميل العالم البدئي، ونصوّر أبعاده وتحولات مخلوقاته الميكروية، في عمل معاصر؟
نعم، باستطاعتنا خلق سرديّةٍ موازية (تصويرية وكتابية) للحفر الذَّريّ في عالم ما قبل/ ما بعد تكوُّن الأشياء والمخلوقات، أي استعادة ذلك العالم المجزَّأ إلى ذرّات (صخرة، طائر، كفّ بشرية، قناع) في أعمال فنية، استناداً إلى محاولات إسماعيل خيّاط في بناء تصوّر فريد من نوعه بين مسرودات البصَر والإحساس المادي. أما قصصياً، فقد نقابل ذلك التصوّر التشكيلي، بما فعله بورخس في كتابه (المخلوقات الوهمية) مثلاً، وقبله القزويني في كتابه (عجائب المخلوقات). لكنّ الأثر الأقوى تقابلاً مع لوحات إسماعيل خيّاط، قد نعثر عليه في أحلامنا، حيث تعيش مخلوقات في حالتها الذَّرية؛ وكنتُ يوماً أتتبّع هذا الأثرَ في كتابي (أحلام باصورا) صدر عن دار الجمل 2016 حتى تمكّنتُ من تأليف قطعةٍ منه بعنوان (طبعة الكفّ). إنّ الشخصيّات التي تتناول هذا الأثر وتحبك قصّتَه قدِمَت من عالم الأحلام الذَّريّ، كما قد يوجد أيضاً في عملٍ تصويريّ/ تكوينيّ من عالم الفنّان إسماعيل خيّاط.
عن صفحته في (الفيسبوك).[1]