حقيقةُ الإسلامِ السياسيِّ بينَ الحلِّ والمشكلة …
رئيسُ التَّحرير – مجلة الحوار*
في جرْدةِ حسابٍ بسيطةٍ للسّنواتِ العشرِ الماضية، وبنظرةٍ موضوعيَّةٍ سريعةٍ على المشهدِ العالميِّ، يستنتجُ المُراقبُ أنَّ العالمَ الإسلاميَّ قد شكّلَ السّاحةَ الرئيسةَ للصّراعِ والقتل، بلْ مصدراً لتصديرِ الأزماتِ والعنفِ إلى دولِ الجوار، فإلى قلبِ أوربا وعواصمِها.
على نطاقٍ أضيقَ، شكّلتْ دولُ شمال أفريقيا وشرقِ المتوسّط، فضلاً عن اليمن، بؤرةً للصّراع الأهليّ العنيف، خاصّةً خلالَ الأعوامِ السّبع المنصرمة، أيّ طوال فترةِ انتفاضاتِ الرّبيع العربيّ.
الطابعُ العامُ لهذا الصراعِ هوَ سياسيٌّ تحتَ ستار التّمسُّكِ بالعقيدةِ الإسلاميّة، فجهاديٌّ سلفيّ، إلى أنّ تمظهرَ في صيغةِ صراعٍ عسكريٍّ واسع ومتبادل مع سلطتي دمشقَ وبغداد، فضلاً عن غيرها من حكومات الدّول الإسلاميّة. هوَ في الجوهرِ صراعٌ سلطويٌّ مشحونٌ بأبعادٍ سياسيّةٍ مذهبيّة، مُحمَّل بكلِّ سلبياتِ التّاريخ، بلْ امتدادٌ له، حيثُ لم ينقطعْ هذا الصراعُ في العالمِ الإسلاميّ، بل ظلّ مستمرّاً طوال التّاريخ ومحتدماً في بعضِ الأوقات حبّاً للهيمنة وطلباً للاستفرادِ بالحكم، فالادّعاءِ بمشروعيته.
لماذا إذنْ كلُّ هذا القتلِ؟! لماذا أخذَ هذا الصراعُ بُعداً لا إنسانيّاً متوحّشاً؟ لماذا دمّرت أنظمةُ الحكمِ بلدانَها وشرّدتْ شعوبَها؟ هل هو صراعٌ مرتبطٌ عضويَّاً بالإسلام والمجتمعات الإسلاميَّة؟! هل حقّاً أنّه صراعٌ مستدامٌ وامتدادٌ لصراعاتٍ موغلةٍ في القِدم، تعشّعشَ في تُربةِ الشّرقِ الأوسطِ منذُ غابرِ الأزمان؟ أمْ أنَّه مفروضٌ على المنطقةِ لظروفٍ خارجةٍ عن إرادةِ شعوبِها؟ جملةٌ من الأسئلة الثّقيلة تتبادرُ للذّهنِ، دونَ توفِّر إمكانيَّةِ الإجابةِ عليها ببساطةٍ ويسر.
إنّ تفسيرَ هذهِ الظاهرة -المأساةِ على أساسِ نظريةِ المؤامرةِ ودورِ الدوائرِ الاستخباراتيَّة، سواءٌ المحليَّة منها أمْ الغربية، ما هي إلَّا عمليَّةٌ تبسيطيَّةُ وتهرُّبٌ من الواقع، بلْ حتّى هروبٌ من المسؤوليَّة. فثمَّةَ حقيقةٌ موضوعيَّة تكمنُ في أنَّ لهذهِ الدوائرِ والجهاتِ دوراً وتأثيراً في تنامي الظَّاهرة وتوجيهِ مسارِها، لكنْ لا ينبغي تضخيمُ هذا الدور والفعّاليّة المُسبقةُ التخطيط لجعلها أساس وجذر المشكلة. كما أنَّه من السّذاجة أيضاً نفي أنَّ ظاهرةَ العنفِ المرتبط بالمجتمعاتِ الإسلاميَّة والمنبثق عنها، لا تمتلكُ جذوراً ووشائجَ عقائديَّةٍ ومعتقديَّه مرتبطةً بالإسلامِ نفسهِ، نصوصاً وممارساتٍ.
الظَّاهرةُ الجهاديَّةُ قديمةٌ ومتجذِّرةٌ في المجتمعاتِ الإسلاميَّة، كما أنَّ التيارَ الجهاديَّ السلفيَّ وُلِدَ من رحمِ الفعّالياتِ التّنظيميَّة للإسلامِ السياسيِّ في العصرِ الحديث، ومن المفارقاتِ أن يشكّلَ تيارُ الإسلامِ السياسيِّ – الدّعويِّ أباً شرعيّاً لهذهِ المنظّمات الجهاديَّة، وبالتّالي مُنتجةً لما انشطرَ عنها من تياراتِ العنف المُتوحِّش، كداعشَ على سبيلِ المثالِ لا الحصْر. كما أنَّ هذا العنفَ بطريقةٍ ما، هوَ أحدُ نتائجِ أزمةِ الحُكم وإدارةِ المجتمعاتِ في العالم العربيّ.
أمَّا في المجتمعاتِ الكورديَّة فالإسلامُ السياسيُّ لم ينتشرْ ويتجذَّر لعدَّةِ أسبابٍ، أبرزُها هوَ أنَّ هذا التيار مستعارٌ وناشئٌ تحتَ تأثيرِ السلطاتِ الحاكمةِ لكُوردستان، خاصَّةً في كوردستان العراقِ وتركيا، فضلاً عن الظّروفِ الخاصّة في إيران، فبالتالي تتكشّفُ بسرعةٍ أهدافُها المكمَّلة للتياراتِ القوميَّةِ الشوفينيَّةِ المعاديَّةِ للكورد.
من جانبٍ آخرَ شكَّلتِ الحركةُ الإصلاحيَّة الدينيَّةُ في كوردستان جزءاً ملاصقاً، بلْ الوجهَ الآخرَ لحركةِ التحرُّر القوميِّ، التي قاومتْ ظلمَ واستبدادَ الحكّامِ من أبناءِ الشعوبِ المجاورة، هذا الحكمُ المتلحِّف تاريخيَّاً بغطاءِ ومشروعيَّةِ الإسلام، كظاهرةِ الخلافة العثمانيَّة نموذجاً، لذلك فكلّ ما هوَ تحرُّريٌّ قوميٌّ كوردستانيٌّ باتَ متداخلاً مع ما هوَ إسلاميّ إصلاحيّ نهضويّ، وكونُ المجتمعاتِ الكوردستانيَّة كانت محكومةً من قِبل الطغاةِ المسلمين في المقامِ الأوّل، وانسجاماً مع الفكر الصّوفي الكورديّ المسالم، فإنّ فكرةَ الجهاد ضدَّهم استُبعدتْ أساساً عن أيِّ نشاطٍ سياسيّ، ممّا انتفت مشروعيّةُ وشرعيَّةُ ممارسةِ العنف ضدّ سلطاتِ الجوار الحاكمةِ بهدفِ تحقيقِ أهدافٍ سياسيَّة، التي هي في خطّها العام مطالبٌ قوميَّةٌ اجتماعيَّةٌ وليستْ دينيَّة. هذا الموقفُ قد تطوَّر بدورهِ ليترسَّخ كنهجٍ، من ثمَّ ارتقى ليتحوَّلَ إلى ثقافةٍ مسالمةٍ خاصَّةٍ بالمجتمعاتِ الكورديَّة. تتلخّصُ هذه الثقافةُ الكورديَّة في عدمِ ممارسةِ العنف إلّا ضمنَ حدودٍ ضيّقةٍ جدّاً، كالدفاعِ عن النفس. إذ أنَّ الثّقافةَ الكورديَّة تحملُ الكثيرَ من الجوانبِ السلميَّةِ على الرَّغم من الترويجِ الاستشراقيِّ بعكسِ ذلك، خاصّةً عندما يردُ تحتَ بندِ تصنيفِ الكوردِ كمقاتلينَ أشدّاءَ، ذوات أطباعٍ جبليَّة.
نفترضُ أنَّ الثّقافةَ الإسلاميَّة الكوردستانيَّةَ المسالمةَ تفاعلتْ لاحقاً مع الخصوصيَّةِ القوميَّةِ ومع التنوُّع في الثَّقافاتِ المحليَّة، حتَّى باتتْ قادرةً على استيعابِ وقبولِ طيفٍ دينيٍّ ومذهبيٍّ واسع، استمرَّ قائماً على الأرضِ لقرونٍ عديدةٍ في كوردستان. ترسّختْ حالةُ التعايشِ الدينيِّ بسبب البدايةِ المبكّرة للحركاتِ القوميَّة الكورديَّة في المنطقةِ، وبسببِ تداخُلها مع المفاهيمِ الدينيَّةِ الإسلاميَّةِ حولَ العدلِ والمساواة، إذ أنَّ أغلبَ قياداتِ الحركةِ التحرُّريَّة الكوردستانيَّة كانوا من رجالِ الدّينِ أو الطّبقةِ الثقافيَّة المتّصلةِ بهم (فقّه، ملا)، ولم يكونوا قادةً عسكريينَ. فثمَّةَ صيغةٌ من التطابقِ بينَ الحركةِ التحرُّريَّة الوطنيَّة – القوميَّة الكوردستانيَّة والتطلُّعاتِ الإصلاحيَّةِ الإسلاميَّة، اللذانِ كانا يهدفانِ إلى الإجابة على الأسئلةِ الملحَّة للنَّهضةِ والتحرُّر وتحقيقِ العدالة.
في المحصّلةِ بقاءُ كوردستان تحتَ سيطرةِ إمبراطورياتٍ دينيَّةٍ طوالَ الألفِ والأربعمائةِ السّنة الأخيرة، وانقسامها حوالي عام 1515م بينَ الصفويينَ والعثمانيينَ، شكَّلت مانعاً وصعوبةً على التّيار الإسلاميِّ المهيمنِ على قيادةِ وفكرِ الحركةِ التحرُّريَّة الكوردستانيَّة أن يعلنَ الجهادَ في وجهِ الحكَّامِ الذينَ هم بالأصل (خلفاء مسلمون)، ولم يكنْ مجدياً أن تدعوَ الحركةَ الكورديَّةَ إلى إنشاءِ (دولةٍ إسلاميَّة) أو (كوردستان إسلاميَّة) في الوقتِ الذي كانَ حكّامُ الدولِ المسيطرة على كوردستان يحكمونَ باسمِ الإسلام. فالكوردُ في الواقع كانوا قد جرَّبوا حكمَ المسلمينَ من أبناءِ شعوبِ الجوار كالعربِ أولاً، التّرك والفرسِ لاحقاً، ولم يكنْ قد ترسَّبَ في الذاكرةِ الكورديَّة من وقائعَ وممارساتِ نظمِ الحكمِ هذهِ سوى أوجه التمييزِ والاستعلاءِ والحروب. بناءً على ما سبقَ ولعواملَ فرعيَّةٍ أخرى، تأسّستِ الحركاتُ ذاتِ الطّابعِ الدينيِّ في كوردستانَ أواخرَ القرن التاسع، لتقاومَ العثمانيينَ وحكامَ إيران في المقامِ الأوّل، ولتُتَرجمَ أحلامَ(أفكار) رجالِ الدّينِ الكورد مثل أحمدي خاني وعبيد الله النّهري، سيّد رضا وغيرهم في التحرّر القوميّ أولاً، ولبناءِ كوردستانَ مستقلَّةٍ متحرِّرةٍ من سلطةِ الجوارِ في المحصّلة.
في الختام الإسلامُ السياسيُّ بات متّهماً اليومَ بتوليدهِ وإنتاجهِ لكلِّ هذا العنف، وسواءٌ أصحّت التّهمة أم لا، فإنّ المجتمعَ الكوردستانيَّ قد أثبت أنّه لا يتقبّلُ ولا يتبنّى الفكرَ الإسلاميَّ الجهاديَّ العنيف، فقابليَّةُ المجتمع الكورديِّ لتبنيَ الفكر الجهاديّ الإسلاميّ أقلُّ بكثيرٍ من مجتمعاتِ الجوارِ العربيّ والتركيّ، فالفارسيّ.
الإسلامُ السياسيُّ الّذي باتَ مشكلةَ العصرِ الأولى، لم يعُدْ قادراً على إيجادِ حلولٍ لمعضلةِ الحوكمةِ والسلطةِ في المجتمعاتِ الإسلاميَّة، كما لم يعدْ مناسباً للرّهانِ عليه في المجتمعات الكوردستانيَّة. فحتَّى لو لم يكنِ الإسلامُ السياسيُّ مشكلةً من منظورٍ عالميٍّ، فهوَ بالضرورةِ ليسَ حلّاً في المجتمعاتِ الكوردستانيَّة.
لذلك نفترضُ أنَّ الإسلامَ الاجتماعيَّ المسالمَ، المتمثّلَ بالطّرقِ الصوفيَّة، والتيَّاراتِ الأخرى التي لا تهدف الاستيلاء على الحكمِ بالقوَّة وتطبيق (الشّرع) بحذافيرهِ، أيّ الخطّ العام للإسلامِ الكورديِّ باتَ مناسباً لضبطِ إيقاعِ الحياةِ الروحيَّةِ في المجتمعِ الكوردستانيِّ والسوريِّ عموماً.
من هذا المنظورِ جاءتْ دعوتُنا لقراءة الجوانبِ الإيجابيَّة في الإسلامِ الصوفيِّ الروحانيِّ التنويريِّ، كأحدِ المحاولاتِ الجادّة لفهمِ الخصوصيَّة الكورديَّة والبحث عن إعادةِ اكتشافِها وتوظيفِها.
ما الملفُ الذي أعددناهُ في هذا العددِ من مجلّة الحوارِ إلّا خطوةٌ أوليّةٌ ومتواضِعةٌ لمقاربةِ فهمِ تياراتِ الإسلام السياسيِّ وفصلهِ عن الإسلام الاجتماعيِّ الروحانيِّ الكوردستانيِّ.
نأملُ من أصدقاءِ مجلّةِ الحوارِ وقرّائها الكِرام، تقديمَ الدَّعمِ الفكريِّ والمعرفيِّ والمساهمةَ في تعميقِ الدّراساتِ والأبحاثِ في هذا الحقلِ وغيرهِ من حقولِ المعرفةِ ذاتِ الصِّلةِ، خاصَّةً تلكَ التي تنشرُ القيمَ والمشتركاتِ الإنسانيَّة، ترسّخ خطّنا الذي بدأناهُ منذُ حوالي ربع قرنٍ، الخطّ والنهجَ المتمثّل بإعلاءِ شأنِ السلم والتعايشِ ونبذِ فكرِ وأيديولوجيا التطرُّف والتزمُّت، أيّ كانَ مصدرُه. نتعهَّدُ بمواصلةِ العملِ، حتَّى نؤسِّس معاً لكلّ ما هوَ إنسانيٌّ روحانيٌّ، عَبْر نشرِ ما يدعو للسّلمِ والتعايُشِ ويفكّكُ العنفَ، ولنساهمَ معاً في رفضِ كلِّ أشكالِ الاستغلالِ والهيمنةِ.[1]