لماذا سايكس – بيكو باقية وتترسخ؟! …
د.آزاد أحمد علي
مجلة (الحوار) ، العدد /69 / ،خريف 2016
على الرغم من التفاؤل وزخم الفعاليات التي أدانت اتفاقية سايكس – بيكو، بمناسبة مرور مائة عام على توقيعها، وبصرف النظر عن كل الدراسات الاستشرافية والتوقعات التي رجحت على أن خارطة المنطقة مقبلة على التغيير الحتمي، فإن حقيقة ودرجة هذه المتغيرات مازالت موضوعا خلافيا قابلا للسجال وخاضعا للتقييم. فالطبيعة المفتاحية والرمزية لإتفاقية سايكس – بيكو تكمن في أنها أسست للنظام الكولونيالي في الشرق الأوسط، وبالتالي مهدت لتشكيل دول جديدة، وهيأت الأرضية لتثبيت نظام إقليمي، سياسي وإجتماعي مازال قائما. ليس من السهل تغيير هذا النظام الإقليمي القائم منذ حوالي قرن، لأنه مرتبط جدليا بالنظام العالمي، متأثرا برسوخه أو بمتطلبات تغييره. إن هذه الورقة تحاول إستعراض جملة من الأراء التي تستشرف مستقبل المنطقة، وتحدد أهم الحوافز التي تفضي إلى إحتمالات التغيير، وفي مقدمتها واقع العراق الذ يعد مفتاحا لتغيير المنطقة، فكلما إزداد درجة ضعف حكومتها المركزية زادت معها إحتمالات تفكك العراق وبالتالي إنتقال هذا التغيير إلى دول الجوار، وصولا إلى تصدع النظام الإقليمي. مع ذلك ترجح هذه الورقة إستمرارية بقاء النظام الإقليمي على حاله في الأمد القريب، نظرا لعدم توافر شروط ومقدمات التغيير الجذري، والتي تتلخص: إضطراب شديد في النظام الإقليمي، رغبة وتوافق دولي على تغييره كمدخل لحل مجموعة من أزمات ومعضلات الشرق الأوسط السياسية والاقتصادية المتفاقمة، فضلا عن توافر محركات التغيير الداخلية المزعزعة لخارطة المنطقة القديمة، ومن أهمها، بروز قوة كوردستانية سياسية وعسكرية قادرة على تفعيل عملية التغيير وحمايته، وكذلك رغبة فعالة من العرب السنة في كل من العراق وسورية، للقبول والمساهمة في التغيير الجذري للخارطة السياسية، بدءا بنواة الشرق الأوسط التي يسكنونها ومازالت تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلامية (داعش). مقدمات التغيير الضرورية لم تتوافر بعد، كما أن أهم شروط الإستمرارية التي يستمد النظام الإقليمي منه عوامل البقاء والثبات مازالت قائمة. لكن من الصعوبة عودة الإقليم إلى ما كان عليه قبل إنتفاضات الربيع العربي، وأن الأفكار والحلول من نوع الفيدرالية والكونفدرالية، باتت مخرجاً من الأزمة ويتزايد درجة تفهمها وقبولها، فالسيناريو المتوقع أن السقف العالي للتغيير مازال ينحصر داخل الحدود القديمة لدول المنطقة. من المرحج أن يتركز التغيير السياسي القادم على طبيعة الأنظمة الحاكمة، ولا تهدف إلى تغيير بنية الدول القائمة أو إزالتها تماما.
*العراق: البداية والنهاية
بمناسبة مرور قرن كامل على توقيع اتفاقية سايكس بيكو في 16 أيار م1916، شهدت مناطق عديدة من كوردستان والمهجر نشاطات مكثفة للتذكير بهذه الاتفاقية والتنديد بها، كانت أكثرها زخما ما جرى يوم السبت 14-05-2016 في مدينة كولن الألمانية ، أخذ التنديد بهذه الاتفاقية طابعا رمزيا، إذ ان الإتفاقية مهدت لتقسيم منطقة الشرق الأوسط عموما وبلاد الكورد خصوصا بطريقة حادة، لم تأخذ بعين الإعتبار أي محددات وضوابط قومية أو إجتماعية، ولم تراعي التقسيمات الإدراية وعلاقات الجوار التي كانت تسود المنطقة منذ حقب طويلة، كما أسست للنظام الكولونيالي الذي ساد منطقة الشرق الأوسط ما بين الحربين العالميتين.
بالتوازي مع هذه النشاطات، تصاعدت درجات الحماس في رجم الإتفاقية وتحميلها أكثر مما تتحمل من مسؤلية، حتى باتت أوساط سياسية كوردية عديدة تعلن أن نهاية هذه الاتفاقية حتمية، قد إنتهى مفعولها وسقطت أخلاقيا على أرض الواقع، وبالتالي استبشروا خيرا بتغيير الخارطة الكولونيالية وما تحت الكولونيالية التي أسست الإتفاقية لها، في ربط ميكانيكي بين الخلاص والتحرر وذكرى مئوية الإتفاقية. في مقدمة من أشار إلى هذه النهاية المعنوية والسياسية للإتفاقية، ضرورة إعادة رسم حدود دول المنطقة بما يتطابق مع مصالح وتطلعات شعوبها والبدء بمرحلة سياسية جديدة، هو السيد رئيس إقليم كوردستان العراق مسعود البارزاني في اكثر من مناسبة وموقع . فلماذا هذا الإصرار من جهة؟ ومن أين تستمد هذه الفعاليات والجماهير المنتفضة قوتها وإيمانها بالتغيير الحتمي؟!
في الواقع أن الحديث عن التغيير المرتقب الذي كان من المتوقع له أن يطال البنية السياسية للشرق الأوسط ليس بجديد، ولا هو حلم رومانسي كوردي فحسب، فقد ظهر أول ما ظهر على شكل قراءات علمية نخبوية، خاصة في إطار الدراسات الاستشرافية لبعض مراكز الأبحاث والجامعات، إلا أنها تزايدت، تكررت وتعمقت مضامينها مع كل منعطف جيوسياسي وحدث كبير على الصعيدين الإقليمي والعالمي، خاصة منذ تفكك الإتحاد السوفيتي السابق، بعد تغيير خارطة وحدود الدول في أوربا الشرقية، آسيا الوسطى والقوقاز، فضلا عن فعالية وقوة إعادة توحيد ألمانيا، وبالتالي تصدع النظام العالمي المنبثق من مؤتمر يالطا (1945م)، بعد الحرب العالمية الثانية.
لا يمكن الفصل بين مسألتي التقسيم والتكوين الحالي للشرق الأوسط وبين ظاهرة تكون الدولة العراقية كمحور وأساس لها، كانت أرض العراق ومازالت رقعة جيوسياسية معقدة، فقد كانت منطقة صراع عثماني – صفوي طوال عدة قرون، لدرجة أن الحكم العثماني لم يستقر فيها إلا لسنوات قليلة.
إثر التراكم الرأسمالي في أوربا الوسطى ومع تنامي القدرات العسكرية الألمانية، تحالفت ألمانيا مع السلطنة العثمانية لمواجهة التوسع الكولونيالي البريطاني – الفرنسي، معها بدأت مشاريع الهيمنة العسكرية والاقتصادية وإنفتحت بوابات الصراع على الشرق الأوسط أمام الدول الأوربية الرئيسية. إلى أن شكل مد خط سكة الحديد لقطار الشرق السريع، الذي ربط برلين مع استانبول، وصولا إلى بغداد أحد أبرز النقاط الجيوإستراتيجية في السياسات الأوربية عهدئذ، حيث أفسح الخط المجال لوصول القوات الأمانية إلى تركيا فالعراق بسهولة، خط الحديد هذا شكل منعطفا خطيرا في موقع العراق ضمن السياسات الدولية وقلبت الموازين الجيواستراتيجية، بحيث أصبح النفوذ الألماني قابللا للوصول إلى كوردستان فإيران وحتى منطقة الخليج، وهذا ما عملت بريطانيا على مقاومته بقوة، وثمة من يفترض أن أحد أهم عوامل وأسباب إشتعال الحرب العالمية الأولى وتسريعها هو قطار الشرق السريع. وما ان إشتعلت الحرب العالمية حتى قررت بريطانيا إحتلال العراق والسيطرة على منطقة الخليج وعلى نفطها، ومنع وصول الألمان الى العراق بأي ثمن.
لذلك جاءت إتفاقية سايكس – بيكو في جوهرها لتبرر الهجوم البريطاني على العراق، ولتؤسس لبداية المرحلة الكولونيالية في الشرق الأوسط، حيث انبثقت من ذلك النظام الكولونيالي الدول القائمة حاليا، وبالتالي الخارطة السياسية لعموم منطقة الشرق الأوسط.
إن إتفاقية سايكس – بيكو وربما فكرة تقسيم منطقة الشرق الأوسط قد ولدت من صلب خطة التحكم بالعراق وإستثمار نفطه، لدرجة أن بعض الآراء تحيل رسم الخطوط المستقيمة في الاتفاقية المذكورة إلى مسارات نقل النفط فقط، إذ أن الخطوط لم تأخذ بعين الاعتبار أي تقسيمات إدارية أو تباينات ثقافية: “هو إتفاق بين الدبلوماسيين البريطاني والفرنسي بتقسيم المنطقة طبقاً لخطوط مستقيمة بالقلم، لا تمت للحقائق الاجتماعية بصلة. وما لا يعرفه الكثيرون هو أن تخطيط الحدود هذا كان قائماً على تقسيم الموارد البترولية في هذه المنطقة الغنية بالذهب الأسود، وبالتالي جاء التقسيم بناءً على رغبة كل من فرنسا وبريطانيا في تنظيم أنابيب البترول لكل منهما، حيث تبدأ إحدى هذه الأنابيب من كركوك وينتهي طرفها في حيفا (بالنسبة لبريطانيا)، وطرفها الثاني في طرابلس اللبنانية (بالنسبة لفرنسا)، أي ينتهي في منطقة نفوذ كل منهما” .
لقد بدأت الخطوات العملية لاحتلال وتقسيم المنطقة في خريف عام 1914 عندما هاجمت القوات البريطانية بقوامها البشري الهندي – الباكستاني والبلوشي بأعداد غفيرة البصرة، وجرت معارك طاحنة ذهب نتيجها عشرات الآلاف من القتلى، إلا أن استولت القوات البريطانية على بغداد: “دخلت القوات البريطانية بغداد في 11-30-1917 وهو حدث مهم بعد أربعة قرون من الحكم التركي، إنزعج بعض سكان بغداد وفرح بعضهم الآخر لقدومه. القائد البريطاني ستانلي مود ألقى خطابا على أهالي بغداد قال فيه: إن البريطانيين جاؤوا محررين لا فاتحين.”
لقد كانت العراق محورا للاهتمام الكولونيالي البريطاني – الفرنسي وهاجسا رئيسا لكي لاتصل إليها ألمانيا، خاصة بعد انجاز خط قطار الشرق السريع الذي يربط برلين باستانبول وصولا إلى بغداد! كما سبق ذكره ، وهذا يدل على أن الحرب والرغبة بتقسيم المنطقة جاءت قبل اتفاق سايكس بيكو بعدة سنوات. لكن حدود الدول في الشرق الأوسط لم تستقر إلا بعد سلسلة من الإتفاقيات، حيث “أن سايكس – بيكو لا يُقرأ منفصلاَ عن جملة الاتفاقات والمعاهدات التي أعقبته، من وعد بلفور إلى لوزان مروراً بسيفر وسان ريمو، وأن جملة الاتفاقات تلك، هي من أعطى المشرق والإقليم شكله وخرائطه، أنشأ دولاً لشعوب غير قائمة، أو غير مكتملة التشكل، وحرم شعوباً متأسسة، من حقها في الدولة وتقرير المصير، مثل الفلسطينيين والأكراد.” لذلك من المنطقي الحديث اليوم عن نهاية محتملة لسان ريمو في المقام الأول: “في مؤتمر سان ريمو في العام 1920 أعطت اتفاقية سايكس – بيكو، على سبيل المثال، الأراضي التي تشكل اليوم شمال العراق لفرنسا، وتوقعت نظاماً دولياً للأراضي المقدسة. ومنح مؤتمر سان ريمو عصبة الأمم موافقته على الحدود التي رسمتها فرنسا وبريطانيا في وقتٍ لاحق– تمّ تأسيس لبنان خلال فترة الانتداب الفرنسي على سوريا، وتمّ فصل شرق الأردن خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، ونشأ الانتداب البريطاني على العراق من ثلاث محافظات عثمانية وهي الموصل وبغداد والبصرة. قد تكون الإشارة إلى الانهيار المحتمل للنظام الإقليمي في الهلال الخصيب باسم نهاية سان ريمو أكثر دقة، إلا أنه لا جدوى من الدخول في جدلٍ دلالي.”
منذ الحرب العراقية – الايرانية واحتلال العراق للكويت وتداعيتها، باتت كل الدراسات والتوقعات تشير على أن النظام الذي تأسس إثر إحتلال بريطانيا لبغداد عام 1917م، وصولا إلى مؤتمر يالطا (1945)، سيتغير بدءا من العراق وعبره، وهذه الفكرة ترسخت بعد سقوط بغداد المدوي بيد قوات التحالف الدولي بقيادة الولاياة المتحدة الأمريكية عام 2003، ومع هذا الحدث بات الاستقرار الجيوسياسي في الشرق الأوسط يشهد متغيرات عميقة ويواجه مصاعب حقيقية، لذلك ليس من باب التنظير أن يعد العراق مفتاحا لتغيير المنطقة، فكلما إزداد درجة ضعف حكومتها المركزية زادت معها إحتمالات تفكك العراق وبالتالي إنتقال هذا التغيير إلى دول الجوار، وصولا إلى تصدع النظام الإقليمي، إلى أن تنتهي المنظومة السياسية والحدود التي أسست لها اتفاقيتي سايكس – بيكو وسان وريمو وغيرهما. يبدو أن العراق بهذا المعنى بات أحد أهم مفاتيح إلغاء النظامين ما قبل الكولونيالي، أي النظام الوريث للإمبراطوريات، وكذلك النظام ما تحت الكولونيالي المرتسم والمطبق على الأرض حتى وقتنا الراهن. إضافة إلى ان الحرب الأهلية السورية تساهم في زيادة دور العراق المرجح لعملية التفكيك، ومع ذلك يبقى البحث عن محددات التغير في الشرق الأوسط، مسارها والتحديات التي تواجهها ليست سهلة، أو بسيطة.
*النظام الإقليمي على المحك
النظام الإقليمي في الشرق الأوسط تعرض منذ أمد طويل للاهتزاز، وتشكلت مقدمات لزعزعة بنيتها الداخلية خلال عدة حروب، كما تم التنظير لإعادة تقسيمها على أسس سياسية وحسب تباينات محلية عديدة، فمنذ ثلاث عقود وحتى في ظل ثبات وجمود نظامي القطبين العالميين، تم الترويج لأراء وقراءات حول احتمالات تغيير خارطة الشرق الأوسط، من مدخل تفتتها: “وبات عنوان إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط أحد العناوين الرئيسية في الكثير من التقارير والمقالات الصحفية، والأبحاث العلمية، التي تنشرها كبريات الدوريات، ومراكز الأبحاث المعنية بشئون العلاقات الدولية، ومستقبل السياسة العالمية.”
من جانب آخر استخدمت مؤشرات التغيير وقابليتها لأغراض دعائية وسياسية، حيث كانت تربط غالبا بمفكرين وجهات بحثية إسرائيلية، ولم تكن تلك التهم متأتية من فراغ، فلقد نشرت في هذا السياق عدة أبحاث متضمنة سيناريوهات تقسيمية، تم التهويل لخطرها من جهة وأسطرتها من جهة أخرة، بدءا بخطة أودد يينون – 1982 أحد أبرز العاملين في القيادة الاسرائيلية. تلخصت خطة يينون بلبننة العالم الإسلامي كله . لاحقا نشر برنار لويس خارطة وتصور لمنطقة الشرق الأوسط منبثقة سياسيا ومترجمة التنوع الطائفي والقومي في المنطقة. استمرت السيناريوهات والتصورات في نفس الإتجاه وصولا إلى رأي موشي يعلون، مدير المخابرات العسكرية الاسرائيلية وآخر وزير دفاع فيها، إذ أكد أن خطة بلقنة الشرق الأوسط ممنهجة وتسير عمليا نحو التطبيق . ما هو ملاحظ أن القراءات الاستشرافية والافتراضات قد تكررت حول إحتمالات التغيير المرتبطة ميكانيكيا مع آليات التقسيم للدول القائمة، لكنها في الغالب إستندت بمنطقها الداخلي على خطاب مختصره: أن التباين في ثقافات المنطقة وتركيبة شعوبها والتضاد في مصالحهم ستؤدي إلى حتمية تحولها إلى دويلات صغيرة، دون تقديم مبررات كما في حالة الدروز، والحكم مسبقا على أن التباينات ما تحت القومية والطائفية ستولد ما يوازيها من دول مستقلة.
أحداث ما بعد سبتمبر 2001 وتراكم مجموع العوامل المحفزة للتغيير شجعت من جديد على ترجيح كفة إحتمالات تغيير خارطة المنطقة واعادة تشكيل بعض دولها، وبات هذا الرأي يرد في سياق البديهيات بعد نمو وتمدد تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) وإحتلاله لأجزاء واسعة من سورية والعراق، وإعلانه بصورة دعائية ورمزية نهاية سايكس –بيكو عام 2014.
بعد أن مرت ذكرى مئوية الاتفاقية وبعد أن باتت حركة داعش في إلغاء الحدود ضمن أرشيف فيديوهات الترويج الاعلامي، كما إقتربت قوات الدولتين المركزيتين في بغداد ودمشق من أطراف حصون داعش، مع جملة من المعطيات الأخرى، ترافقت مع عجز في تقديم مشاريع سياسية جديدة، وخطط عملية لحل معضلات الدول القائمة، جمود في المبادرات الدولية الفعالة، كل ذلك ساهم في إعادة صياغة وبلورة آراء مغايرة، لتعلن أن النظام الإقليمي ثقيل وراسخ، يحمي مصالح طبقات حاكمة متجذرة لدرجة أنه لن يتغير سريعا وأن المتغييرات كلها ستجري داخل الحدود القديمة، فضلا عن أن الدولتان اللتان تشكلان ركيزة النظام الإقليمي تعملان بروية للمحافظة على حدودهما الخارجي وكيانهما المركزي.
حتى تركيا المتضررة نظريا من اتفاقية سايكس – بيكو هي أول من تهدف وتؤكد المحافظة على الحدود الراهنة، وإن تعالت فيها آراء تريد أن تخفف من المعضلات التي انتجتها الحدود القديمة: “هذا النظام الذي نشهد اليوم انهياره، لكن كما أن هذه الحدود لم تكن وليدة لحظة واحدة وهذا النظام ليس حصيلة اتفاقية واحدة فان انهياره بكل تأكيد لن يكون كذلك وليد اللحظة ولن يكون دفعة واحدة… لهذا السبب لا بد من تخطي الحدود والتجاوز عن اصطلاحيتها وتجريدها من أي قيمة تحملها. بكلمات أخرى، بدلا من رسم حدود جديدة مكان تلك الحدود القديمة من الأولى أن نصب اهتمامنا على تطوير توجهات ورؤى جديدة تتجاوز الحدود واصطلاحيتها هذه التوجهات قد تكون حدود أكثر مرونة أو مساعي نحو الاندماج والتكامل بين الدول أو تشجيع وتبني التعاون المشترك.”
وعلى العكس من بعض الآراء السياسية التي تشير إلى أن إيران تسعى لتغيير خارطة المنطقة، عبر تعويم صيغة الفيدراليات الطائفية، فإن هدفها الحقيقي يكمن في المحافظة على الشكل الخارجي للدول الحالية وزيادة نفوذها داخل منظوماتها القديمة، سعيا للتحكم عن بعد بحكوماتها: “هوية النظام الإيراني الإيديولوجية تستقيم مع أية حالة تفتيتية… فالفيدرالية الطائفية السياسية، تحدد المسار الإيراني الفعلي في تقسيم المنطقة كلها، ومنها الأمة العربية انطلاقاً من العراق”
لاشك بلغ الدور الحاسم للقوى الدولية ذروته قبل مائة عام في مرحلة صعود الكولونيالية وضمور إمبراطوريات المنطقة، أما الآن فالمعادلة معكوسة، فعلى ما يبدو ثمة شبه إجماع على أن الدور الرئيس سيكون في صياغة سمات المنطقة للقوى الإقليمية الفاعلة وخاصة إيران وتركيا والسعودية.”القوى الإقليمية تلعب دوراً متعاظماً في تقرير مستقبل المنطقة، وأن اللاعبين “اللادولتيين”، باتو اليوم، قوى يحسب حسابها … ثم لا مستقبل لأي اتفاق للتقسيم من دون موافقة الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ناهيك عن تعاظم قدرات شعوب المنطقة ومجتمعاتها على المقاومة.”
بإختصار ودون الاسهاب في عرض الآراء، لا يمكن أن نتصور تغييرا جذريا في خارطة المنطقة بدون أن تواجه مقاومة من قبل القوتين الرئيستين في الشرق الأوسط ودعامتي إستقرارها تركيا وإيران، حتى وإن إختلفت مصالحها وتناقضت رؤيتهما للمشهد السياسي، ستظل كل من تركيا وإيران معترضتان من حيث المبدأ على أي تغيير يلامس الحدود الخارجية لدول المنطقة، لأنهما متفقتان على جزئية واحدة تكمن في التخوف من القوة الكوردستانية الصاعدة. وهما ليس في وارد القبول بنظام إقليمي جديد على حساب دورهما المركزيان، ونظرا لرغبتهما في تغيير بعض الأنظمة، كلا حسب مصالحه، فإنطلاقا من هذا الموقف المتناقض يتم إعادة إنتاج معضلات سياسية أكثر تعقيدا.
* نظام دولي محافظ
في علاقة جدلية ومركبة بين مستويات الوطني والاقليمي فالدولي، يبدو أن كل من العراق وسوريا كانا وسيظلان مفتاحي التغيير للنظام الإقليمي والسياسي القائم في الشرق الأوسط، ومن هنا نجد أن التريث والترقب والتردد هو عنوان رئيس لهذه المرحلة، وخاصة في بند تغيير أنظمة الحكم، ودور القوى الدولية العظمى فيه، كمدخل للتأسيس للمرحلة الجديدة. إن تغيير النظام الإقليمي المترسخ بعد الحربين العالميتين ضمن المشهد الراهن، يتطلب تغيير نظامي الحكم في دمشق وبغداد، كخطوة تمهيدية، والتي تمهد بدورها لتغيير بنيتهما الداخلية، فتنتقل إلى الجوار.
لكن ما تأكد أن النظام الدولي غير قادر على البت في هكذا عمليات تغيير كبرى، بسبب إضطراب العلاقة بين أطرافه، فضلا عن أنهم غير متوافقون على فكرة التغيير نفسها. إذ يبدو أن النظام الاقليمي البديل لم يتبلور وهو مترابط مع النظام الدولي الذي لم يترسخ ولم تتضح معالمه الأخيرة بعد، وما التقارب الأمريكي – الروسي إلا أحد مقدمات التفاهم على الإطار العام للنظام الدولي، أو هو في الواقع مسعى خجول لبناء ما يشبه نظام عالمي متعدد الأقطاب عبر التوافق الأولي على شكل ومستقبل الشرق الأوسط، وكذلك الحرب على الإرهاب.
هذا ويفترض أن يتم إعادة تشكيل النظام الاقليمي الجديد، عبر إحتمالين، الأول أن تبقى الحدود الخارجية للعراق ثابتة إنما يعاد رسم حدودها الداخلية سواء بصيغة كونفدرالية أم فدرالية، والاحتمال الآخر أن تنضم أجزاء من خارج العراق إلى دولها الثلاث المتشكلة (الكوردية، السنية، الشيعية) وهذا ما سينهي عمليا شكل الحدود الخارجية لدولتي العراق وسورية في الخطوة الأولى، بعد أكثر من ثمانين سنة على تثبيتها بالصيغة الحالية. هذا المدخل إن تحقق سيلامس إيران ويخصها قبل الولايات المتحدة الأمريكية، فإيران قد لا تكون تاريخيا معنية جوهريا بالنظام الذي أسس بعد الحرب العالمية الأولى، ولكنها تعترض على أن تبرز دولة كوردية على حدودها، وبدأت تعمل لوقف مسار تحررها وولادتها على أرض الواقع، لأن هذه الدولة ستؤثر على بنيتها الداخلية بالضرورة، على الرغم من أن الكثير من الآراء تتهمها بالتعاون مع القوى الدولية لإعادة رسم خارطة المنطقة لصالحها، خاصة من منظور قراءة المشهد السوري: “وكأن سيرغي لافروف ومحمد جواد ظريف مُنحا الدور الذي لعبه قبل مئة عام الفرنسي فرنسوا جورج بيكو والبريطاني مارك سايكس بين تشرين الثاني (نوفمبر) 1915 وأيار (مايو) 1916 عندما تقاسم بلداهما إرث الدول العثمانية المتهاوية في المشرق العربي.”
من جانب آخر تركيا منخرطة عمليا في وقف مسار أي تغيير تفسح المجال أمام أي مكاسب للكورد، خاصة على طول حدودها مع سورية، وما يزيد تعقيد المشهد الإقليمي أن كل من تركيا وإيران تسعيان وتلعبان أدوارا رئيسة لتغيير أنظمة المنطقة وإعادة ترتيب بيئتها السياسية لصالحهما، دون أن يصل هذا التغيير إلى كوردستان المقسمة بينهما، ومن هذا التناقض تتوالد العديد من المشكلات الإضافية، وبصرف النظر عن هذه النظرة المتخوفة فلا يمكن الفصل بين مسألة التغيير في الشرق الأوسط والملف الكوردستاني بأي شكل من الأشكال. في حين يظل دور القوى الأقليمية الأخرى ذات تأثير أقل، ولكن لا يمكن إهمالها خاصة الدور السعودي والإسرائيلي بعد تراجع الدور المصري.
حسب قراءتنا الأولية الراهنة فإن مصير الشرق الأوسط أحيل مرة أخرى بقوة إلى النظام الدولي، الذي لم يبت بأمره ولم يفصح عن نفسه بصيغة أكثر وضوحا مما هو عليه من عجز وترهل، النظام الدولي القائم إفتراضا مازال جامدا ويفتقد إلى الروح والفكر، يعاني من الجمود والتلكؤ، لدرجة يمكن توصيفه بأنه بات نظاما محافظا سلبيا، آخر ما يطلبه، أو قادر على تحقيقه هو تغيير البنية السياسية والدولتيه للشرق الأوسط.
يمكن الاعتماد بهذا الخصوص على عشرات الآراء التي تؤكد سلبية النظام الإقليمي إزاء سيرورة التغيير الإقليمية:”هذا هو الخطأ التحليلي النهائي لحجة “نهاية سايكس – بيكو”. الغرباء هم من قاموا برسم تلك الحدود. يبدو أن لا مصلحة لأي غريب بإعادة رسمها، أو بالاعتراف بإعادة رسمها، في الوقت الراهن. ولا شكّ أن الولايات المتحدة لا ترغب بذلك. قدمت الولايات المتحدة رعايتها لحكومة إقليم كردستان منذ نحو 25 سنة، إلا أنها لم تشجع الأكراد يوماً على إعلان استقلالهم. ولم يقترح أي زعيم روسي أو صيني أو أوروبي عقد مؤتمر دولي لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. قد تشهد الدول هذه تفككاً داخلياً. وقد تنشأ سلطات “أمر واقع” حاكمة. ولكن لا يبدو أن رياح التغيير ستطال الحدود الدولية بحدّ ذاتها. يشهد كل عمل في الشرق الأوسط تصاعداً هاماً، مع خوض مختلف الجماعات المحلية والإقليمية معارك من أجل السيطرة على هذه الدول ومع تقديم القوى الإقليمية المساعدة لحلفائها في هذه المعارك. ولكن يبدو أن هذه المعارك ستستمر، على الأقل رسمياً ومن حيث القانون الدولي، ضمن الحدود التي رسمها الفرنسيون والبريطانيون منذ نحو مئة عام. في الواقع، تعيش اتفاقية “سايكس – بيكو” طالما أن السلطة ضمن حدودها تتسم بالضعف.”
لا تتوقف الأراء عند هذا الحد، بل ثمة من يرى من أبناء الشرق الأوسط نفسها أن عملية التغيير ستهدد الأمن الشرق أوسطي والأوربي معا، والتغيير هو مصدر الإرهاب الرئيس: ” لذا فقد برز مؤخراً تفاهم كيري – لافروف، لرسم وادارة الصراع وتحديد طبيعته ومستقبله في هذه المنطقة..لأن هذا المشهد الأمني والسياسي لم يكن، ولم يعد مقبولاً من قبل الدول الغربية وروسيا.. وبما ان اعادة صياغة المنطقة جغرافياً يرتب مسؤوليات بالغة الصعوبة والتعقيد.. كان لا بد من العمل على ضبط وتيرة الايقاع الأمني ولجم انتشار الصراع المسلح او على الاقل احتوائه والحد من تفاقمه”
بل أن بعض الأصوات باتت تنتقد أوربا لأنها تهمل وتستخف بالتفكك الحاصل في الشرق الأوسط، وتدعوها لممارسة المزيد من التحفظ إزاء المتغيرات، لأنها لا تنقذ تركتها ونظامها الذي خطته بدءا بسايكس – بيكو، هذا النظام الذي يحمي أوربا من مخاطر تفكك الشرق الأوسط
إن ما أكد ويؤكد الطابع المحافظ للنظام العالمي، يتضح من عدم رغبته الصريحة في تغيير خريطة المنطقة، كما برزت وتمظهرت في عدم استعجال القوى العظمى وقلة حماسها لتغيير الأنظمة السياسية إبان مد الربيع العربي، وقد تلخصت عملية التحفظ في الموقف من بقاء نظام الحكم في دمشق، حيث كان سيشكل تغييره أحد أهم مفاتيح رسم مستقبل الشرق الأوسط، فالإصرار على بقاء النظام وتوافق القوى العظمى من أمريكا وروسيا إلى دول الاتحاد الأوربي، فالصين على ذلك، هو مؤشر على الرغبة في البقاء والمحافظة على مجمل النظام الاقليمي العجوز والمترهل، وعدم المساس بمرتكزات بقائها واستمراريتها.
*النتائج
في ظل هذا المشهد الراهن وفي استشراف بسيط لمشهد السنوات القليلة القادمة فمن غير المتوقع أن يتم تغيير جذري على خارطة المنطقة، وبالتالي على النظام الاقليمي الشرق أوسطي، للاعتبارات الأساسية التالية:
1)النظام العالمي الجديد لم يتبلور ولم يترسخ بعد، وهو في حالة من الإضطراب بحيث يصعب عليه الإتفاق على تغيير خارطة الشرق الأوسط الأكثر حساسية في العالم، فضلا عن عدم وجود حماس ورغبة لإجراء تغييرات جذرية، بل أن النظام الدولي الراهن متحفظ حتى على تغيير الأنظمة الإستبدادية، وما التجربة السورية إلا تأكيد وتصديق لذلك.
2)الدول العظمى: أمريكا، روسيا والاتحاد الأوربي، الصين غير متطلعة ولا مقتنعة بالتغيير، وإلا لحسمت أمر تغيير نظام الحكم في دمشق منذ عام 2012، حيث كان يعد تغييره مفتاحا لمجمل المتغيرات وإعداد الخارطة الجديدة للمنطقة.
3)إن أي تغيير جذري في الخارطة يقتضي بالضرورة التأسيس لنظام إقليمي جديد، مترافق على الأرجح مع ولادة دولة كوردستان، وستكون هذه الولادة على حساب كل من أنقرة، طهران، بغداد، ودمشق، وهذا ما لم ترجحه، ولم تقرره القوى العظمى بعد. فمصلحة الدول الأربعة مجتمعة أهم من التمسك بحق الكورد في الاستقلال.
4)إن النظام الإقليمي الذي أسست له إتفاقية سايكس – بيكو، ضربت في حينها مصالح تركيا وألمانيا، ولكن تركيا الراهنة تدافع عن الاتفاقية بهدف الحفاظ على مصالحها المستجدة والمتمثلة بالحفاظ على آخر الأقاليم غير التركية وهي كوردستان، في الوقت نفسه مصلحة إيران تقتضي أن لا تتزعزع الحدود الحالية.
5)ألمانيا، المتضررة من النظامين الإقليمي والدولي طوال القرن الماضي، لا تبدي طموحات سياسية واضحة في الشرق الأوسط، وهي ليست بصدد استرجاع نفوذها، ولا تفصح عن مستقبل علاقتها مع الإقليم عموما وكوردستان خصوصا. فبدون سياسة ألمانية جديدة وطموحة يصعب صياغة نظام دولي وإقليمي جديد.
6)سيظل قرار التغيير الرئيسي بيد واشطن للفترة القادمة، لكنها لا تفصح عن جوهر سياساتها إتجاه المنطقة، أو لم تتبلور بعد أهدافها الاستراتيجية. ربما تعاني من خلافات داخل أطراف الإدارة الأمريكية. كما أن روسيا مازالت مترددة في مساندة الكورد، ولم تقرر تماما أنها سترسخ موقع قدمها في كوردستان.
في الجانب الآخر، ثمة عوامل مؤثرة يجب أن تتوافر لترجيح عملية التغيير في المنطقة، وبالتالي تنهي النظام الإقليمي الكولونيالي وما تحت الكولونيالي اللذان تشكل اتفاقية سايكس – بيكو مفصلا وعنوانا لهما وهي:
1)توافق دولي على تغيير النظام الإقليمي الحالي، وإقتراح الإطار العام البديل في إقليم الشرق الأوسط على أقل تقدير. لأن مشكلات الإقليم بما فيه الحرب على الإرهاب تتطلب ذلك.
2)إنهاك قوة اللاعبين الرئيسين التقليدين الضابطين للنظام الإقليمي أي تركيا وإيران، وبلوغهما درجة من الضعف بحيث لن يتمكنا من مقاومة عملية التغيير على الأرض، ولن يخوضا حروبا من أجل وقف سيل التغيير. وبالتالي ينبغي التخلص من متراجحة التوازن الإقليمي المزمنة: إيران – تركيا.
3)إن الشرط الرئيس الذي قد يهيأ تغيير الخارطة، ويشكل المسار الرئيس له يكمن في عملية إستقلال كوردستان العراق أولا، وهذا يتطلب ويستلزم موقفا سياسيا كوردستانيا موحدا ومتحمسا لهكذا مسيرة إستقلالية، فضلا عن صعود إستثنائي للقوة السياسية والعسكرية في عموم كوردستان. بمعنى ضرورة تحقق وحدة قومية شبه شاملة تحت قيادة موحدة، وتوحيد الجيوش الحالية وخاصة في إقليم كوردستان العراق ومناطق غرب كوردستان وسورية، وزيادة مطردة في عددها وأسلحتها بحيث تكون قادرة على المساهمة في تغيير الحدود الحالية والمحافظة على الحدود الجديدة. هذا ما لا نتوقعه في المنظور القريب بسبب الخلافات الجوهرية بين القوى السياسية الكوردستانية، ونتيجة تردد، بل عدم وجود هكذا هدف لدى عدد من القوى الكوردستانية الرئيسة.
4)رغبة العرب السنة في تغيير النظام الإقليمي وأشكال الدول القائمة خاصة العراق وسورية، والتمهيد له بتشكيل أقليمن أو إقليم موحد في كل من سورية والعراق (فدرالي، كونفدرالي) على أنقاض (الدولة الاسلامية في العراق والشام)، ويكون محرك هذا المشروع البيئة الاجتماعية لسكان محافظتي الأنبار ودير الزور، والتوافق بين نخبها السياسية والقبائلية، حتى تعلن رغبتها الصريحة في إنهاء أو تحديد علاقاتها مع مركزي الحكم في بغداد ودمشق، وذلك بمباركة خليجية – اردنية لأنهما المعنيان جيوسياسيا بذلك.
5)توحد القيادة الفلسطينية وتنامي فعاليتها بحيث تدفع باتجاه حل الدولتين، أو الكونفدرالية مع الأردن.
6)إتفاق بين القوى العظمى والشركات الكبرى المنتجة للنفط والغاز حول آليات إستثمار الطاقة وخاصة الغاز، والتوافق على طرائق نقلها، بحيث تؤمن الخارطة الجديدة حسن تسويق النفط والغاز وتلبية متطلبات إيصالها بسهولة إلى الاتحاد الأوربي بأرخص الأثمان، دون المساس بمصالح روسيا الإتحادية.
****************
بالتعاون مع مركز رووداو للدراسات – أربيل، إقليم كوردستان العراق[1]