د. عروبة جميل محمود
عرفت مدينة #الموصل# بنشاطها الاجتماعي متنوع التوجهات، ما أعطى صورة ايجابية عن طبيعة الحياة الاجتماعية من خلال سلوكيات أهاليها وأخلاقهم وتوجهاتهم الثقافية والفكرية والعادات والاعراف الاجتماعية التي عرفوا بها، وما تبعها من فعاليات مؤطرة في هذا الجانب.
العادات والعلاقات الاجتماعية
امتاز المجتمع الموصلي بعادات وتقاليد اجتماعية حرص عليها، لانها تعبر عن شخصيته. واتسمت العائلة الموصلية عموما بكثرة انجاب الاولاد، ويعد الزوج المحور الاساس في العائلة الموصلية، فهو رب الاسرة سواء كان متزوجا بامرأة واحدة او بأكثر، فضلا عن وجوب بقاء ابنائه المتزوجين من الذكور مع بناته غير المتزوجات او الارامل ضمن نطاق البيت الواحد.
اما سياق البيت الموصلي، فان الاب او الجد يعد المرجع الاعلى للاشراف على نشاطات الاسرة المتعلقة بالجوانب الاقتصادية او السيطرة الاجتماعية الاخلاقية، وهو بذات الوقت يمتلك حق التصرف بشؤون اسرته بما يتلاءم في الحفاظ عليها، ولذلك كان افراد الاسرة جميعهم يطيعون توجهات الاب وينفذون اوامره دون مناقشة، لادراكهم لمكانته ورجاحة عقله وحسن تدبيره في تسيير امور الاسرة.
اما مكانة الابناء ودورهم في الاسرة فانهم يشكلون العناصر الفاعلة في مساعدة الاب اقتصاديا، يعملون في مختلف النشاطات الاقتصادية، لتوفير الامكانيات المادية للعائلة، وبعد زواجهم تبقى مكانتهم في الاسرة وحسب السياق السابق باستثناء سلطاتهم على زوجاتهم، في حين تبقى البنات الأخريات في داخل الاسرة تحت سيطرة الاب والاخوة. ويمكن القول ان هذا النظام العائلي الموصلي المنظم ينبع من طبيعة الموصلي التي تميل الى حسن العيش من خلال الاخلاقيات التي تسهم في اشاعة اجواء الاطمئنان والارتياح في داخل الاسرة
الموصلية، ولذلك نلاحظ الطاعة العمياء للفتاة لزوجها بعد مغادرة وصاية الاب عليها، وهكذا تواصلت الاسر الموصلية ضمن هذا المنهج الاجتماعي القويم.
وفيما يتعلق بالعادات والتقاليد الخاصة بأحوال الشخصية كالزواج ومتعلقاته، وولادات الاطفال والختان وغيرها من المناسبات، فانها ترسم صورة لواقع المجتمع الموصلي آنذاك. فعلى مستوى مراسيم الزواج، فان الموصليين كانوا يتعمدون اظهار الفرح والسرور بهذه المناسبة وذلك عن طريق اشاعة الاغاني والاهازيج والدبكات الاجتماعية، فضلا عما يرافق زف العروس الى عريسها من مظاهر اطلاق الصيحات (الهوسات) التي تجري برفقة عزف الفرق الموسيقية واعتمد السياق الاجتماعي في المجتمع الموصلي أصولاً متعارفاً عليها في مراسيم الزواج وخاصة ما يتعلق بتحديد مقدار المهر المتفق عليه بين ذوي العريس والعروسة والمحدد بالمقدم الذي يشمل اثاث العروسة كله الذي يتوجب على العريس اعداده، فضلا عن تقديم الحلي الذهبية لها التي يجري الاتفاق عليها، وبعدها يقرر هذا الاتفاق من خلال اشهار عقد الزواج، والزفاف الذي تسبقه ليلة تعرف في الاوساط الاجتماعية الموصلية بليلة الحنة. وعادة يزف الاقارب والاصدقاء العريس الى عروسته ما بعد صلاة العشاء ويسير الجمع وهم يرددون الاهزوجة الشعبية التي ما زالت تردد في بعض فئات المجتمع الموصلي ومنها:
يا جمّال الحك بان إلنا
(تردد مرتين)
لو هلهلتي يا ام ثوب ادعم
والهلهولة ال ويلاد العم
اش حدو الغريب اليحكم
رايح دمو مطلوب النا
يا جمال الحك بان إلنا
نسحك راس الما يطيع النا
ويلاحظ في مضمون هذه الاهزوجة التي ترافق الزواج عند أهالي الموصل، انها تشير الى كونها عرفا اجتماعيا يعود الى فترات تاريخية طويلة، ومنها الفترة العثمانية عندما كانت وسائل النقل تقتصر على الجمال بوصفها من أرفع وسائل النقل والوجاهة الاجتماعية، ولذلك اتخذه الموصليون منطلقا لاهازيجهم، وكذلك لارتباطه بمجال النشاط الاقتصادي، اذ كانت أنشطة الموصل التجارية في فترات الحكم العثماني تعتمد في وسائط النقل التجارية في الطرق البرية على الجمال وغيرها.
وفي مقابل فعالية زف العروس، فان العروسة هي الاخرى تحظى باحترام اجتماعي في مراسيم الزفاف، اذ حرص الموصليون على حرمتها من خلال غطائها الذي يبدأ من رأسها الى قدميها، وفي ذلك مؤشر على مقدار تمسك أهالي الموصل بعفاف المرأة لان اللون الابيض الذي تتوشح به العروسة كان يدل على نقاء شرفها وعفتها، وتجدر الاشارة الى ان جدة العروسة او عمتها تصطحبها الى دار زوجها وهناك تباين نسبي في مسألة ملابس العروس بين منطقة واخرى التابعة للموصل في العهد العثماني، فاذا كان أهل المدينة يتخذون الملابس البيضاء للعروسة في زفافها فان ذلك لا يتنافى مع ارتداء العرائس في المناطق التي يقطنها الاكراد باللون الاحمر، وعلى العموم فان ملابس العروسة لا تستخدم اكثر من أيام معدودة حيث يتم الاحتفاظ بها ذكرى لتاريخ الزواج.
وفيما يتعلق بمراسيم زواج النصارى الموصليين، فتبدأ المراسيم باصطحاب العروسة الى الكنيسة بوصفها المكان المقدس لعقد القران وتكون العروسة عادة مغطاة برداء ذو الوان زاهية، اذ يغطي رأسها فضلا عن وجهها، ويسبق ذلك انتظار العريس لها في الكنيسة ذاتها. وعند حضور العروسين والاهالي والاقرباء تبدأ المراسيم الدينية لعقد القران والتي يطلق عليه اسم (البوراخ)، اذ يشرع الكاهن بالصلاة، ثم يبارك العروسين اللذين يوضع على رأسيهما اكليل الورد معلنا بذلك الانتهاء من عقد القران في وسط مظاهر البهجة والسرور، اذ يخرج العروسان مع المدعوين الى بيت الزوجية الجديد، وفي غضون ذلك–أي في اثناء سير العروسين-فان اهالي المحلة يعربون عن فرحهم بالتهاني والزغاريد اشهارا لهذا الزواج.
اما في مراسيم ختان الاطفال، فقد كان الموصليون يحتفلون بختان الاطفال، اذ تقام بهذه المناسبة حفلة خاصة في بيت والد الطفل المختون وحسب القدرة المادية لرب العائلة، ولكن في كل الاحوال كانت تعبيرا عن فعالية اجتماعية يحرص الموصليون على اظهارها، وتبدأ مراسيم هذه الحفلة بختان الاطفال في الساعات الاولى من النهار وذلك تجاوزا للحالات التي قد تحصل جراء تأخير عملية الختان وانسجاما مع دعوة رب الاسرة لضيوفه بحضور وجبة فطور صباحية. وبعد ختان الطفل بالتهليل والتكبيرات كان للعالم الديني دور في هذا المجال اذ يتولى تلقين الاذان في اذن الطفل اليمنى والاقامة بالاذن اليسرى ويصاحب ذلك توزيع الصدقات على فقراء المحلة ويحتفي الموصليون بولادة اطفالهم، وخصوصا ولادة الطفل الذكر، اذ يشرع والد الطفل باقامة وليمة لأهالي المحلة، فضلا عن اعطاء الصدقات والهدايا للمحتاجين والفقراء وبعدها يسمى الطفل بالاسماء المحببة لدى أهالي الموصل، ويأخذ المولود الى احد علماء الموصل وذلك ليكبر في اذنه ثلاث تكبيرات ثم يقول اسم الطفل، ولعل هذه المراسيم التي تعتمد روح الدين الاسلامي لها علاقة في تنشئة هذا الطفل منذ ولادته على سماع كلمات من الدين الاسلامي لانه ولد على الفطرة، ولهذا السبب فان الآباء يؤكدون على دور علماء الدين بالتكبير في اذان ابنائهم بعد الولادة. وتبدأ بعدها مرحلة جديدة في حياة المولود في مجال تحصيله الديني من خلال دراسته في المدارس والتي كانت تعرف في العهد العثماني باسم (الكتاتيب)، وتجدر الاشارة الى حرص العوائل الموصلية بتشجيع ابنائهم على قراءة القرآن الكريم وختمه فعندما ينتهي الطفل ختم القرآن الكريم، أي حفظه عن ظهر قلب، تقام وليمة كبرى يدعى اليها الاهالي اعلانا المكانة الدينية التي وصل اليها الطفل بعد ختمه القرآن الكريم.
المعتقدات والخرافات:
لكل مجتمع من المجتمعات الانسانية خرافاته واساطيره، لأن الخرافة او الاسطورة تنبع من تصور اجتماعي هدفه البحث عن الشعور بالأمان والاطمئنان، فالخرافة بوصفها وقاية يلجأ اليها المجتمع مما يتوقعه من ان تلحق به الاذى، اما حقيقتها فهي لا تعد ان تكون مجرد مخيلات متواضعة وساذجة ولكنها دخلت في الاعراف الاجتماعية ومنها المجتمع الموصلي. فللأهالي الموصل تصورات يعتقدون بصحتها فيما يتعلق بنظام الاشهر والايام، فعلى سبيل المثال يعقد الموصلي العزم على السفر بعد اثبات نيته بتنفيذ السفر يوم الخميس دون غيره من الايام الاخرى، كما كان أهالي الموصل يعتقدون بعدم جواز قص أظافرهم في يومي الاحد والاثنين كما انهم لا يستحمون في ايام الثلاثاء والاربعاء والجمعة، ولا تقدم المرأة الموصلية عمل الخير في ايام الاثنين والاربعاء والخميس، في حين يحرص الموصليون على ان تكون تفاصيل مقاسات ثيابهم في يوم الخميس لاعتقادهم بان التفصيل في اليوم التالي، وهو الجمعة، يؤدي إلى احتراق الثياب، او انها لا تأتي ضمن القياس المطلوب.
وفي مجال الخرافات الاجتماعية المتعلقة بسلوكيات المرأة فان الموصليين يرون ان المرأة بعد ولادتها مولودا ذكرا ينبغي عليها الذهاب الى الحمام في يوم الجمعة، وذلك لاعتقادهم بان هذا اليوم مبارك. اما اذا وضعت المرأة بنتا فيتوجب عليها الاغتسال في يوم السبت وفي حالة عدم انجاب المرأة جراء العقم فانها لا تيأس، اذ تبدأ بالبحث عن الطريق التي يمكن من خلالها حل مسألة الانجاب، وذلك بالذهاب عادة الى المراقد المقدسة او تقصد الملالي من خلال الرقية التي تعرف في الموصل ب (العزامات) على المرأة بهدف الانجاب، وعندما لا تجدي تلك الوسائل نفعا تلجأ المرأة الى غسل ملابس الوليد حديثا الذي لم يكمل الاربعين يوما من عمره وكذلك تلجأ المرأة العقيمة الى غسل رأس المرأة حديثة الولادة لعل يصيبها الانجاب، وفضلا عن ذلك فان المرأة العقيمة لا تيأس من محاولاتها في البحث عن الحلول لاقصى مدى ممكن، ومنها القيام بقطع سرة المولود حديثا على ظهر المرأة العقيمة لعله يحصل لها الانجاب.
وللموصليين اعتقادات فيما يتعلق بالطيور، فقد كانوا يتطيرون من مشاهدة الغراب كونه يمثل شؤما او يعقبه نذير شر بوفاة أحد افراد الاسرة، ولذلك كانوا يهرعون لدى سماعهم نعيق الغراب الى القول بكلمتي (سكين وملح) اما اذا حط غراب على احد المنازل فذلك يمثل البلاء والمصائب التي ستحل بأهل ذلك المنزل. وفي مقابل ذلك فقد كان لأهالي الموصل تصورات عن عراك العصافير في المنزل، فهي دلالة على امور ثلاثة اما بشرى بهطول الامطار او قدوم مسافر او تشاؤم لوقوع خطر محدق بالعائلة.
وفيما يتعلق بالاطفال فان لأهالي الموصل معتقدات خاصة، ومنها اذا تأخر الطفل عن النطق بما لا يتناسب مع عمره فان الام تلجأ الى وضع اناء صغير في قفص البلبل، وعندما يشرب البلبل من هذا الاناء، تأخذ الام بقية الماء لتسقيه ابنها بهدف مساعدته على النطق والكلام. وفي حالة عدم قدرة الطفل على المشي، فان الاسرة تتخذ اجراءً تعتقد بصحته، وهو الاقدام على وزن الطفل بما يعادل وزنه من الاحذية القديمة، على ان يكون توقيت ذلك عند اعلان التكبير للصلاة في يوم الجمعة.
وتشكل مشاهدة القطط وجها آخر لتصورات الموصليين فيما يتعلق بما يتوقعونه، فعندما تمسح القطة وجهها بأيديها فكان ذلك بشرى خير وكذلك هطول المطر او قدوم مسافر. اما مشاهدة الافعى فانها تعد احد الرموز التي يعتقد اهل الموصل بأهميتها، فهم لم يسمحوا بقتلها ما دامت في البيت، وعندما تشاهد في داخل البيت، يخاطبونها بصوت مرتفع ومسموع وبلهجة موصلية يا حية يا حية البيت لا تأذينا لا نأذيكي، انت ام البيت واحنا خطاركي وذلك لان أفعى البيت تكون بركة وخير لصالح أهل البيت.
ويعتقد أهالي الموصل بقدرة الانبياء والاولياء وعلماء الدين المدفونين في أضرحتهم، اذ كان اغلب الاهالي يقصدون تلك الاضرحة لاعتقادهم بمكانة اولئك الانبياء والاولياء استجابة طلباتهم، التي كانت تتراوح ما بين ايفاء الديون، ودفع الامراض والتوسعة في الرزق، وكانت أغلب تلك الزيارات والهبات والنذور تذهب لصالح ضريح النبي يونس وتنذر بعض النساء لصاحب الضريح في حالة تحقيق مرادها نذرا يسمى في العرف الموصلي ب (الستر).
كما شاعت بين أهالي الموصل الاساطير، وهي حكايات أساسها الوصف وهدفها الوعظ، ولعل نشاط الفكر الاسطوري والخرافي في الموصل ينبع من كونه احد مجالات التسلية الاجتماعية التي تثير الذهن وتنمي الخيال وتعطي التجارب، فهي اسطورة في الوصف ولكنها تشتمل على اهداف تربوية واجتماعية وعبرة لمن يريد ان يعتبر، ولهذا السبب جاءت بصيغة حكايات مستوحاة من الربط بين الظلمة والجان ومنها قصة القنطرة والجان، ويبدو ان هذه القنطرة الواقعة في (باب الجديد حاليا)، وفي احد الازقة الموصلية القديمة ما زالت هناك قنطرة تعرف ب (قنطرة الجان) اذ نقل الكثير من الموصليين عن أجدادهم حكايات واساطير عن هذه القنطرة اذ روى أحدهم عن جده انه بعد ادائه صلاة العشاء وفي اثناء عودته الى داره سلك طريق القنطرة المذكورة آنفا فانتابه شئ من الخوف والتوجس وخسر عقله بوجود الجان قريبا منه، فما كان منه الا ان عمد الى جدار القنطرة واحدث فيه شرخا بسيطا لاعتقاده بان ذلك كفيل بزوال خطر ايذاء الجان له.
وفي السياق نفسه كان الموصليون يتوجسون خيفة من الولوج في قنطرة القطانين الواقعة حاليا في (السرجخانة)، اذ رويت عنها روايات بانها مسكونة من عالم الجن وعلاقته بعالم الانس، فقد روت احد العجائز الموصلية حادثة عن هذه القنطرة عندما ذهبت في احد الايام لاستلام القطن، وكان ذلك في اذان صلاة الفجر، اذ لم تجد باب خان القطانين قد فتح بعد وعندها جلست قرب الباب، وفوجئت برجل يخرج من القنطرة متشحا بملابس بيضاء وحاملا بيده ابريقا خزفيا، جلس لأداء الوضوء استعدادا لأداء صلاة الفجر، وقرنت هذه العجوز رؤياها مع ما قاله جدها، ان الرجل الصوفي ابو المغيث الحسين الحلاج قد سكن هذه القنطرة، وهو من الصالحين ولذلك فان رؤيته تعد بركة.
ويلاحظ فيما يتعلق بقنطرة القطانين مفارقة تاريخية وذلك لان الحسين الحلاج عاش في بغداد وصُلب، واحرق جسده، والقي في نهر دجلة، ولكن ارتباط اسمه (الحلاج) مع طبيعة عمل القطانين، كان مجرد اعتقاد لا اساس له من الصحة في هذه المنطقة من مدينة الموصل.
كما تنوعت مضامين الحكايات الموصلية بحسب الاهداف المتوخاة منها اذ تضمن بعضها اعطاء دروس في رحمة الله تبارك وتعالى، ومنها حكاية بعنوان (يا طخماغ دق ويا حبل اخنق)، التي مفادها، ان عجوز موصلية وحيدة في دارها تعتمد في حياتها المعاشية على صناعة الغزول التي تبيعها في السوق وفي أحد المرات قصدت النهر حاملة لغسل ملابسها، وبمعيتها طعام بسيط يتكون من الخبز وعدد من حبات العنب، وبعد الانتهاء من غسيل ثيابها بدأت تتناول غذاءها وفي تلك اللحظة انقض طائر (اللقلق) والتقط حبة عنب فامتعظت العجوز من اللقلق، فما كان من الاخير الا ان يعدها خيرا من حبة العنب، فقد منحها صينية وعصا موصيا اياها بانها اذا ما شعرت بالجوع، ان تضرب الصينية بالعصا ومرددة القول يا مباركة انفتحي، عندها سوف يظهر في الصينية انواع الاطعمة، وعند انتهاء الحاجة من الطعام، تردد العجوز القول يا مباركة انغلقي وبعد العودة الى بيتها، فكرت العجوز باقامة وليمة فاخرة للسلطان مع جميع عساكره، فاستغرب السلطان من دعوتها، ذلك لان شكلها وحالها لا ينبئ عن قدرتها على استضافة هذا العدد الكبير من الجند، ولذلك أمر جنده بجلب كميات كبيرة من الاطعمة يأخذها الجند معهم متوجهين الى المنطقة التي دعتهم اليها العجوز التي تعرف حاليا عند أهالي الموصل (بأرض الصينية) والكائنة عند قبر البنت، وعندما حضر السلطان مع جنده الى المكان المعين، جاءت العجوز بالصينية والعصا، فضربت الصينية بالعصا قائلة يا مباركة انفتحي عندها ظهرت انواع شتى من الاطعمة والاواني والملاعق الذهبية التي لم يرها السلطان، ولا جنده من قبل وبعد الانتهاء من تناول الطعام سرق أحد الجند ملعقة ذهبية، فعندما ضربت العجوز الصينية بالعصا قائلة يا مباركة انغلقي لم تنغلق الصينية فتوجهت الاخيرة الى السلطان قائلة، ان احد جنودك قد سرق ملعقة ذهبية، فما كان من السلطان الا ان يعلن العفو والامان لاجل استرداد الملعقة الذهبية المسروقة، وعندما أعيدت المعلقة انغلقت الصينية، ولكن السلطان سولت له نفسه سرقة الصينية والعصا من العجوز، ونجح في استبدالها بصينية مشابهة لها مع عصاتها، ووضعها في بيت العجوز، وعندما جاءت الأخيرة وضربت الصينية بالعصا لم تنفتح
الصينية، مما جعل العجوز تهرع الى اللقلق وأخبرته بالخبر، الا ان اللقلق يفاجأ بالحكاية. وتبدو العبرة واضحة في هذه الحكاية، اذ تعد درسا في ان يكون الانسان فطنا وذكيا عندما يتعامل مع الآخرين فلا تغره المظاهر، ولذلك فقد تضمنت الحكاية اقدام السلطان مع علو مكانته الاجتماعية ونفاذ احكامه وسطوته الى سرقة أموال الآخرين.
عن رسالة (الحياة الاجتماعية في الموصل 1834-1918).[1]