ازهر العبيدي
كان لمدينة #الموصل# القديمة في القرون الماضية سور يحميها من هجمات الأعداء وغزوات البدو والسراق، وكانت له عدة أبواب لدخول وخروج السكان والقادمين من الخارج. لكن الحكومة العثمانية هدمت معظم أجزاء السور سنة 1915م، وهدمت بلدية الموصل أجزاء أخرى في الأربعينيات. وبقيت الآن أجزاء من السور في مناطق متفرقة من المدينة ينبغي الاهتمام بها وكشف المخفي منها وترميمه،
وإقامة عدد من الأبواب المشابهة للصور المتيسرة عنها لتكون في المستقبل معلماً سياحياً جميلاً يستهوي السياح الأجانب.
إنّ أول سور بني للموصل باللبن والطين سنة 80ﮪ/669م في زمن سعيد بن عبد الملك في عهد الخلافة الأموية، ثم أمر هارون الرشيد بهدم هذا السور بعد حركة الموصل سنة 177ﮪ/793م. وأعيد بناؤه في عهد شرف الدولة العقيلي سنة 474ﮪ/1081م. وكان هذا السور الذي سمّي بالسور العقيلي ينتهي شمالاً عند الموقع الحالي للجسر الخامس، وتسمى الأرض الواقعة شماله ب(أرض البقج) أي أرض البساتين والحدائق مفردها (بقجة). وكان أهالي الموصل يتخذونها أماكن للسفرات والنزهة في فصل الربيع، ويتخذها الجيش ميداناً للتدريب في الأماكن المفتوحة شمال هذه البساتين.
وفي عهد عماد الدين زنكي تم إحكام بناء السور بالجص والحجارة بشكل جيد، وكان يحيط به خندق عميق وله تسعة أبواب هي: الباب العمادي، باب الجصاصين، باب الميدان، باب كنده، الباب الغربي، باب العراق، باب القصابين، باب المشرعة، باب الجسر. وكان آخر من جدد السور واحكم صيانته هو الوالي العثماني بكر باشا بن إسماعيل بن يونس الموصلي سنة 1040ﮪ/1630م، وأصبح له ثلاثة عشر باباً.
وفي هذا البحث المتواضع سأحاول الطواف في الأماكن التي كان السور يمر منها في السابق، وأشير إلى ما تبقى منه في هذه الأماكن من بقايا قائمة لحد الآن. وسأبدأ الجولة من آثار (باشطابيا) وهي كلمة تركية تعني التل الكبير أو الطابية العالية، وتقع في النهاية الشمالية الشرقية من السور، وكانت موقعاً عسكرياً للقائد الموصلي حسين باشا الجليلي والي الموصل عندما هاجم (نادر شاه) الفارسي مدينة الموصل سنة 1156ﮪ/1743م. لكنّ هذه القلعة تهدمت بمرور الزمن لعدم صيانتها على الرغم من التوصيات العديدة والدراسات التي أعدت حول ترميمها، وإقامة نصب كبير يحكي مأثرة صمود هذه المدينة البطولي بوجه الغزاة.
أول باب في السور يقع تحت هذه القلعة وله طريق سرّي يؤدي إلى النهر، كان المدافعون يستخدمونه ليلاً لجلب الماء من النهر، ولهذا سمّي ب(باب السرّ) وسمّي كذلك ب(باب عين كبريت) لوجود عين كبريت قربه شمال القلعة.
يمتد السور من قلعة باشطابيا محاذياً لضفة النهر الغربية ويمر بمرقد الإمام يحيى بن القاسم، ثم بآثار قصر (قره سراي) أي السراي الأسود اللذين يعودان بتاريخهما إلى عهد بدر الدين لؤلؤ حاكم الموصل. وبقيت هذه الأقسام من السور حتى باب الجسر سالمة في معظم أجزائها، لكنّ قيام بعض الناس برمي الفضلات ومخلفات البناء في النهر شوّه منظر السور وغطى على أقسام منه. وكنتُ قد اقترحت في أوقات عديدة مد طريق كورنيش جديد تحت السور من باب الجسر أو الجوسق جنوباً حتى حاوي الكنيسة شمالاً، وهذا المشروع السياحي سوف يظهر جمالية سور الموصل القديمة ويمنع تشويه معالمه فضلاً عن تخفيف الازدحام وسط المدينة القديمة. أو على الأقل تجميل ضفة النهر وتسوية الأتربة التي تغطي أجزاء السور.
يقع باب المشرعة بعد الجسر الخامس بقليل وهو الذي جددته بلدية الموصل سنة 1982م، وسمّي هذا الباب بأسماء عدة منها (باب شط المكاوي) لكونه يؤدي إلى محلة المكاوي القريبة منه، و(باب شط الحصى) لوجود الحصى على حافة النهر. وكان الأهلون وسقاة الماء يستخدمونه لجلب الماء من النهر، وتقوم النسوة بغسل وتنظيف الملابس وأدوات الطبخ على حافة النهر قبل إنشاء مشاريع الماء. وقرب الباب يقع جامع الشهوان أو شيخ الشط وفي داخله المدرسة الكمالية وهي من المدارس الدينية القديمة المشهورة في المدينة.
ويستمر السور جنوباً تتخلله فتحات استخدمها سكان المناطق القريبة للخروج إلى النهر لغرض السباحة وقيادة الزوارق أو لرمي الأوساخ أو لجلب الماء، منها الفتحة القريبة من باب القلعة المسماة محلياً ب(باب شط الجومي) وتؤدي هذه الفتحة إلى مسجد شط الجومة في محلة القلعة.
وفي المكان المنخفض النازل من محلة الميدان قرب الجسر الحديدي (نينوى) يقع (باب القلعة) الذي كان يؤدي إلى القلعة العثمانية (إيج قلعة) أو القلعة الداخلية التي كانت قائمة في مكان بلدية الموصل القديمة وموقف السيارات الحالي. وكانت مقراً للوالي العثماني ومجلس المدينة، ويحيطها سور وخندق من المياه. واستخدم هذا الباب من السكان لرسو الزوارق والأكلاك ولتفريغ البضائع والأخشاب القادمة من تركيا أو شمال العراق في سوق الخشابين القريب منه.
ويقع (باب الجسر) أي الجسر الخشبي العثماني القديم مقابل فتحة سوق الملاحين الحالية، إذ لم يكن الجسر الحديدي مقاماً في ذلك الوقت. وكان الباب محاطاً بعدد كبير من الأبنية القديمة مثل مقهى الثوب، والخانات التي يؤمها المسافرون والقادمون إلى المدينة من الخارج مع أحمالهم وبضاعتهم. وكان هذا الباب ممراً لقوافل التجارة والجمال والأغنام التي تصل إلى المدينة يومياً من الشمال والشرق، وتقف عنده الأكلاك والعبارات والزوارق لتفرغ حمولتها من الفواكه والحبوب القادمة من تركيا وشمال العراق. وقد رفع باب الجسر والأبنية المجاورة له بعد إنشاء الجسرين البريطاني والملك غازي ومن بعدهما شارع الكورنيش الحالي، وبقيت القناطر المتممة للجسر الخشبي في الساحل الأيسر حتى بداية الستينيات.
هدمت أجزاء السور الذي يترك ضفة النهر ويتجه إلى الغرب من باب الجسر، فيحيط بعدد كبير من الخانات والأسواق، ويخترقه (باب الطوب) في الساحة الحالية التي تلتقي فيها أسواق الملاحين والعطارين والقصابين القديم والصوافة والتي يشغلها الآن باعة الخضراوات المتجولون. وكان يسمى بباب القصابين لكونه يربط بين سوق القصابين القديم والمجزرة القديمة (المسلخ) خارج السور حيث كانت تنحر فيه الذبائح، ثم سمي في فترة لاحقة ب(باب الطوب) لوجود مدفعين في واجهته. ويقع جامع باب الطوب خارج الباب.
يستمر السور المهدم حالياً إلى بناية السراي و(باب السراي) الذي فتحه والي الموصل سليمان باشا الجليلي سنة 1190ﮪ/ 1776م، ويقع السراي الذي استخدم مقراً للوالي داخل الباب الذي فتح في السور للخروج من السراي إلى خارج المدينة مباشرة قريباً من مكان سينما الملك غازي القديمة. ثم يتجه باتجاه السور الذي رممته بلدية الموصل ويقع الآن خلف عمارة الشواف وساحة وقوف السيارات الحالية في باب الطوب، وهذا الجزء من السور ما زال قائماً ويمتد بين البيوت نحو محلة التنتنة في باب لكش. وعلى الرغم من أن المجلس البلدي قد منع الهدم والبناء ضمن مسافة (6) أمتار من جانبي السور، فإن تجاوزات حصلت من قبل البعض وأدت إلى فقدان أجزاء أخرى مثل برج الثلمة الذي سيأتي وصفه لاحقاً.
ينتهي السور القائم حالياً بين البيوت في الجهة الغربية من زقاق التنتنة، حيث كان (باب لكش) يقع في المكان الذي أمام جامع بلال الحبشي الحالي. وكان مخفر باب لكش في مكان الجامع المذكور، وجامع باب لكش على ربوة خارج الباب. سمّي الباب بهذا الاسم بسبب بيع القش خارجه وتلفظ باللهجة البدوية (الكش).
يمر السور بعد باب لكش بين بيوت محلة الشيخ محمد وحتى منطقة (الثلمي) وهي ثلمة في السور حدثت أثناء حصار نادر شاه للموصل وبناها الموصليون ليلاً. وكان الأهالي يخرجون منها في الظروف الطبيعية مع حيواناتهم للرعي خارج المدينة يومياً. وفي صدر الزقاق المهمل بجوار مديرية الرقابة المالية يوجد جزء ظاهر من السور وبرج أسطواني من أبراجه الأربعة عشر ، وقد أزيل جزء كبير من البرج حديثاً. وأجد من الضروري تجميل هذه المنطقة بإزالة الأبنية القديمة منها، وتسييجها وجعلها مشهداً لزيارة الناس والسائحين في المستقبل.
يمتد السور من هذا المكان نحو محلة الباب الجديد ماراً بين البيوت وخلف محلة الاشمطة، ثم يحيط بحمام باب الجديد ويظهر خلف جامع البشير الحالي تاركاً الجامع خارج السور. وفي حافة شارع الفاروق اليمنى كان ينتصب الباب الجديد الذي بناه أبو الفضائل علي العمري سنة 1138/1725م بدلاً من باب العراق. وعبر شارع الفاروق يستمر السور الظاهر حالياً تحت محلة البدن، وينعطف عند المدرسة العراقية القديمة باتجاه الشمال الغربي نحو محلة باب البيض.
في منعطف السور وعند ساحة الصديق يوجد برج آخر للسور على شكل مستطيل وليس أسطوانياً كما عهدنا، في حين يستمر السور تحت محلة البدن التي تعني تسميتها بدن السور أي جسمه، ومن الغريب أن البدن أطلق على هذه المحلة فقط دون جميع المحلات التي يمر بها بدن السور !! وفي أعلى الطريق النازل من البدن يوجد جزء كامل من أعلى السور وفيه مزاغل الرماة وما زال قائماً لحد اليوم.
وفي مدخل الشارع الحالي المؤدي إلى محلة باب البيض كان ينتصب (باب البيض) الذي جاءت تسميته من بيع البيض خارجه، وسمي قديماً ب(باب كندة) ، وتشاهد حجارة السور الكبيرة بوضوح على الجانب الأيسر من مكان الباب. أما باقي أجزاء السور الذي يتجه نحو الغرب من هذا المكان فإنه مرمم بحجارة تختلف عن حجارة السور البيضوية والمستطيلة الكبيرة الحجم.
وينعطف السور ثانية عند برج أو (قلعة العكس) نحو الشمال متجهاً إلى باب سنجار، وينخفض السور تدريجياً بعد البرج ويختفي تماماً عند شارع نينوى وباب سنجار ويظهر عند البارودخانة.
في موقع التقاطع الحالي لباب سنجار كان (باب سنجار) المؤدي إلى بلدة سنجار، وسمّي في العهد الأتابكي ب(باب الميدان) لوجوده غرب ميدان تدريب الجيش. وبتعقيب مسار السور المهدم نمر بسوق البورصة والإعدادية المركزية حتى (البارودخانة) التي هي من بقايا السور القديم، وكانت تستخدم مكاناً لصنع البارود في العهد العثماني، وبجانبها بقايا من السور بحجارته الكبيرة وفي المكان الذي تشغله حالياً محطة وقود ابن الأثير كان يقع (الباب العمادي) الذي سمّي نسبة إلى عماد الدين زنكي حاكم الموصل، وكان يسمى كذلك ب(باب الجصاصين) لأنه يؤدي إلى أكوار الجص خارج المدينة. وآخر باب في السور كان يسمّى (باب الحرية) يقع على الشارع المجاور لباشطابيا، وعرف ب(باب الوباء) عندما اجتاح الطاعون مدينة الموصل قديماً فأغلق خوفاً من المرض، ثم أعيد فتحه بعد سقوط السلطان عبد الحميد وتحرر الأتراك سنة 1908م.
وفي الأخير أتمنى أن يأتي اليوم الذي يعاد فيه كشف سور الموصل القديمة دون عوائق تحجب النظر، وتقام أبواب مشابهة للصور المتيسرة في باب لكش وباب الجديد وباب البيض لتكون معالم حضارية بارزة تحكي قصة هذه المدينة العربية العريقة.
المصادر والمراجع
1. أحمد الصوفي، تاريخ بلدية مدينة الموصل، ج1، مطبعة الجمهور، الموصل، 1970.
2. سعيد الديوه جي، تاريخ الموصل، ج1، مطبوعات المجمع العلمي، الموصل، 1982.
3. سعيد الديوه جي، تاريخ الموصل، ج2، مطبعة دار الكتب – جامعة الموصل، الموصل، 2001.
4. سعيد الديوه جي، بحث في تراث الموصل، مطبعة دار الكتب –جامعة الموصل، الموصل، 1982.
5. قصي حسين آل فرج، محلة باب الطوب، مكتب عمر، الموصل، 2000.
6. أزهر العبيدي، جادة باب لكش، ط1، مكتب الصباح، الموصل، 1999.
المصطلحات
1. المشرعة: كلمة مشتقة من الشريعة وهي مكان رسوّ الأكلاك والزوارق قديماً.
2. الجومة: قيل أنها صرة مخلفات المرأة النفساء التي يرسلها أهلها لترمى في النهر من هذه الفتحة، وكانت تلك عادة شعبية من معتقدات أناس ذلك الزمان. وتعني الجومة باللهجة الموصلية النول الذي يستخدم في النسيج أيضاً.[1]