د. عروبة جميل محمود
يتركز النشاط الاقتصادي لمدينة#الموصل# في أسواقها بوصفها مركزا تجاريا حيويا في هذا المجال، وكانت تقع عموما بالقرب من الجامع النوري، المعروف بالجامع الكبير وذلك قبل دخول العثمانيين إلى المدينة، وتعد الأسواق من المراكز التجارية الرئيسة في الموصل التي تجري بوساطتها العمليات التجارية من (بيع وشراء) بين تجار الجملة والمفرد، وذوي الحرف، والمستهلكين،
ومن المظاهر الحيوية التي اتسمت بها الموصل كثرة أسواقها التجارية. وأسواق الموصل في الغالب مغطاة (مسقفة) من الأعلى ويختص كل منها بسلعة معينة، فضلا عن تميزها بجمال عمرانها وكثرة حاجياتها.
ووفقا لمبدأ التخصص كان لكل نوع من أنواع التجارة، او الحرف سوقا باسمها، فمن سوق السراي يتفرع مجموعة من الأسواق في صنوف التجارة المختلفة، مثل سوق التحافية وسوق عمال الأحذية (القندرجية)، وسوق الخبازين وسوق السراجين وسوق الشكرجية وسوق القوطجية وسوق البلوريات وأواني الخزف ويوجد في السوق أيضا عدد من أدوات الخياطة، ومحلات لبيع الأقمشة المستوردة وغيرها، ويساعد هذا التخصص براعة ودقة الأشراف عليها، وإمكانية تسهيل مهمة الفرد المشتري الذي يستطيع ان ينتقي البضائع والسلع التي يحتاجها في وقت قصير لتقارب الدكاكين والمحلات التي تعرض البضاعة المتشابهة.
تميزت الموصل بكثرة أسواقها فارتبطت الخانات بوجود الأسواق التي تركزت بالقرب منها فَصُمّمَ كل جزء من الخان لكي يؤدي وظيفة تجارية معينة لها علاقة في تسهيل مهمة التجارة ومن يقوم بها، حيث ينطلق من الخان توزيع السلع والبضائع سواء المنتجة محليا أم المستوردة، إلى الأسواق الخاصة لبيع الجملة، ومن ثم تباع البضاعة لأصحاب الدكاكين الذين يقومون بالبيع بالمفرد إلى الناس.
كانت أسواق مدينة الموصل تزخر وتعج على الدوام بمختلف الأصناف من السلع والبضائع المحلية المستوردة من بريطانيا والهند، كانت الملابس القطنية تسهم بنسبة ثلاثة أرباع المواد المستوردة، فضلا عن المعادن والدهون والفرفوريات وزجاج النوافذ ومكائن أخرى للخياطة... الخ، ومن فرنسا فتمثلت في أقمشة الجوخ والحرير، والمخمل والبقم وهو خشب أحمر يستعمل في الصياغة والمشروبات الكحولية والجلود المدبوغة الجاهزة، وأخيرا من ألمانيا فتمثل بالسكر والقهوة وأصباغ الاثيلين والنحاس والصوف والكتان والحرير والبلوريات والمرايا وورق السكر وأنواع الأدوية والعقاقير. كما يوجد في الموصل أيضاً أسواق مكشوفة، مثل سوق علوة الحنطة وسوق الأغنام.
معظم مدينة أسواق الموصل تقع في وسط المدينة وتمتاز بالسعة والازدحام حتى ان مجموع عدد الدكاكين في أسواق الموصل بلغ في سنة 1912 ما يقارب (3062) دكان.
قام الرحالة الأوربيون بإعطاء تصوراتهم عن أسواق مدينة الموصل، ومنهم الرحالة الفرنسي فنشنسو بقوله :”وقد مررت أكثر من مرة بأسواق المدينة، فأخذني العجب من الأسعار البخسة التي تطلب لمختلف البضائع، وقد اشتريت أشياء كثيرة، فالشاة الواحدة تباع بأربعة شاهيات (التي تعادل أربع قطع بوليه رومانية..) وقد أعطونا حملا كبيرا من الفواكه بدرهم واحد أي باقجة واحدة لا غير.. أما أبقار الموصل فهي من جنس جيد جدا ولا يزيد سعر البقرة عن قطعتين من أبو شلبي وتساوي القطعة الواحدة من أبو شلبي Talevo واحد لا غير أما الخيول فحدث ولا حرج، فهي من مختلف الأجناس فهناك الخيول الفارسية والتركية، والخيول العربية الأصيلة. لقد رأيت أعدادا كبيرة جدا تباع بأربعة قروش أو خمسة”.
ووفق تصور الرحالة الأوربيون، يتضح ان الموصل شهدت تطورا واضحا في المجال الاقتصادي، والاجتماعي، ولكنه في الوقت ذاته لم يوضح الرحالة مديات الإمكانيات الشرائية لأهالي مدينة الموصل آنذاك.
أما الرحالة وليم هود William Heude فقد وجد ما أثار إعجابه من تقديم تسهيلات لراحة التجار الوافدين إليها مما يدل على ما في هذا البلد من ثراء طائل وتجارة مزدهرة وثقة بين التجار، في حين يشير جون اشر، إلى ان أسواقها واسعة ومزدحمة في أغلب الأحيان وأصحاب الدكاكين اغلبهم مسيحيون ومعظمهم من الأرمن.
كانت الأسواق بمثابة مراكز تستقطب شرائح اجتماعية كثيرة من السكان فهناك الكثير من الأمور التي ترتبط بالحياة الاجتماعية يكون مصدرها السوق، على اعتبار ان الأسواق احد المراكز الحضرية في المدينة (الموصل)، فإنها تؤثر في نفوس الوافدين إليها من الأطراف فأما ان تغير جزءا من طبائعهم الاجتماعية او أنها تشجعهم على الهجرة من الريف إلى المدينة. وهذه الأسواق المتباينة لم يقتصر دورها في تلك المدن على الجانب الاقتصادي فحسب بل أنها شملت جوانب اجتماعية إذ اتصفت الدكاكين بوجودها في حيز مكاني واحد وأمام كل دكان مكان يشبه المصطبة يجلس عليه التاجر ومن سيتردد عليه من العملاء والأصدقاء.
ومن الأمثلة على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية في أسواق الموصل على سبيل المثال لا الحصر، سوق الصفارين، وكان يرتاد هذا السوق العرسان عند تجهيزهم قبل الزواج فضلا عن تزويد مربي الأغنام بما يحتاجونه من قدور وأواني لحفظ الحليب ومشتقاته، وسوق الحصران، الذي يزود الأهالي وذوي المصالح بما يحتاجونه من فرش لتجهيز البيوت.
أما القيصريات، فهي عبارة عن أسواق على هيئة أروقة تشتمل على عدد من الدكاكين والمخازن وأحيانا المساكن، وهي مسقفة بشكل دقيق تشبه الخانات وتغلق عليها أبواب حديدية وعموما وظيفتها تجارية لا تختلف عن وظيفة الخانات وتحتوي على العديد من المحلات التجارية الصغيرة وهي متخصصة في ببيع سلعة معينة او عدد من السلع ويتعامل أصحابها بتجارة الجملة ومن أهم قيصريات المدينة، قيصرية الكونجية، وقيصرية معاش عسكر، قيصرية الطمغة الكبيرة، قيصرية أيوب بك الجليلي، وقيصرية العبدالية، وأوقفت قسم من هذه القيصريات على المدارس والجوامع.
وتضمنت سجلات المحكمة الشرعية بالموصل توكيل الوكيل بالحصة الشايعة للموكل الأصيل، وأشارت إلى ذلك الوثيقة، إذ خولت السيدة (خدوجة بنت علي أفندي المفتي) الساكنة في محلة جامع جمشيد السيد أمين أفندي بن محمود أفندي توكيلاً لحق التصرف بممتلكاتها المتعددة والمتكونة من، دكاكين الوقف على جامع النبي يونس، والدكاكين الأخرى في سوق الميدان، فضلاً عن دكان واحد، والواقع بخان الصفارين، تصرفاً بالوكالة يعطي للوكيل السيد أمين أفندي بن محمود أفندي لتصفية متعلقات الديون المترتبة على السيدة خدوجة خاتون بنت علي أفندي، إذ أثبت السيدة خدوجة خاتون أمام المجلس الشرعي بأن السيدة هيبو بنت السيد حمو تطلبها مبلغ قدره (2500 غرش)، وبناءً على ذلك قام الوكيل بالحق الشرعي السيد أمين أفندي بن محمود أفندي ببيع بعض حصص المستحقات القانونية للسيدة خدوجة خاتون بهدف تسديد دينَها المذكور أعلاه إلى السيدة هيبو بنت السيد حمو، وحرر ذلك في المجلس الشرعي، وأُفهم عَلَناً وبإقرار مختار محلة جمشيد أمام محلة جامع جمشيد،وذلك في يوم السبت (6 محرم1310ﮪ/ 1893م).
وتناولت سجلات المحكمة الشرعية بالموصل دعوى استحصال الحق الشرعي في الميراث وقانونيا تدعى قانون دعوى إزالة الشيوع، وظهر ذلك في الوثيقة، إذ أوكلت السيدة خدوجة بنت حافظ من ساكنات محلة باب المسجد السيد ابراهيم بن سيد ججو من سكنة باب المسجد توكيلاً قضائياً لفصل المخاصمة، وتحديد الحصص مع أخيها السيد عبد الله ابن حافظ، والمتعلق بحصصها الشرعية من أخيﮪا المتوفي السيد حاجي أيوب بن حافظ، والمشتملة على العقارات بصفة دكاكين تقع احداهنّ في سوق الصفارين، والثانية في سوق القزازين، والثالثة بالدكان المعروف باسم دكان بن الكرجية،والدكان الرابعة الواقعة في سوق (بائعي اللمبات) في سوق (سروج الاضاءة)، والخامسة بوصفه وقف في سوق القصابين، وإقررت الوكالة لغرض استحصال الحق الشرعي في الميراث وأثبت قانوناً في يوم الأربعاء 29 شوال / 1309 ﮪ / 1892 م.
الخانات
الخان : لفظة فارسية معربة عن كلمة (خانة) ومعناها البيت أو المكان. ويعد الخان المكان الخاص بإقامة واستراحة التجار وحفظ سلعهم وبضائعهم وتوفير السكن للمسافرين وحمايتهم، إذ كان المكان الأمثل لعمليات البيع والشراء التي تجري عن طريق المزايدات والمضاربات والاتفاقيات التجارية.
وقد ازدادت عدد الخانات في الموصل منذ السيطرة العثمانية عليها وذلك لنمو وتطور النشاط التجاري فيها إلى نهاية الحكم العثماني ويظهر ذلك من خلال مذكرات بعض الرحالة الذين زاروا المدينة، ويذكر تافرينية،”انه لم يكن في الموصل غير خانين حقيرين كانا مكتظين بالمسافرين عندما زار المدينة سنة 1574م.
أما الصديقي فيذكر أثناء زيارته لمدينة الموصل سنة 1726م أنه وجد الخانات الموجودة على الطرق قد أصابها الدمار نتيجة غارات البدو على القوافل التجارية، وان معظمها قد تحول إلى اصطبلات لخيول البدو، وعندما زار نيبور الموصل سنة 1766 م كان عدد خاناتها (15 خمسة عشر) خانا من ضمنها خمسة خانات صغيرة اما البقية فهي كبيرة واسعة، وفي القرن التاسع عشر يذكر دوبريه ان في المدينة (16 ستة عشر) خاناً وأشار إلى أنّ أهمها كان، خان العلوة وخان المفتي، مبينا بالوصف مشتملات كل من الخانين، إذ شمل كل خان (26 ستة وعشرون غرفة)، كانت تستخدم لإدامة النشاطات التجارية. وفي الوصف نفسه أشار الرحالة (هود) الذي زار الموصل في أوائل القرن التاسع عشر، إلى وجود (16 ستة عشر) خانا تستقبل المسافرين وتوفر الإمكانيات التجارية وسائل الراحة للتجار. وقد أشارت سالنامه ولاية الموصل لسنة 1325ﮪ / 1907م ان عدد الخانات وصل نحو (34 أربعة وثلاثون) خاناً، وفي سالنامه1330 ﮪ / 1912 م زاد عدد الخانات ليصل نحو (40) خاناً.
ومن الجدير بالذكر أن أجور نزلاء تلك القوافل في الخانات كانت مناسبة بحيث لم تتجاوز (2 3) عانات يوميا لمبيت الشخص الواحد، فعلى سبيل المثال”ان سعر المبيت في غرفة في خان الحجيات لمدة سنة بلغ (150) قرشا وذلك في 14 ربيع الأول 1294ﮪ / 1877م، أما في ربيع الأول 1316ﮪ / 1898م فقد استأجر شخص (10 عشرة) غرف في خان الشط استخدم (9 تسعا) منها لخزن الصوف والأخيرة للسكن وكان إيجار كل غرفة يصل إلى قرشا واحداً.
ومما يلاحظ على أسماء خانات الموصل أنها ارتبطت بتسميات مختلفة، فكانت تسمى أما للدلالة على أسماء أشخاص قاموا بإنشائها مثل خان (المفتي) و (خان حمو القدو) و (خان الحاج حسين أغا) وخان الجاجية (الحاجيات)، أو للدلالة على شخص بارز يتواجد ويعمل في الخان مثل خان الباليوز (القنصل) أو خان (عبو التوتنجي)، او للدلالة لقرب بعض الخانات من أماكن أو مناطق معروفة لدى سكان الموصل مثل (خان الكمرك) و (خان الشط) لقربه من شاطئ دجلة أو لملاصقة الخانات بعضها البعض مثل خان الجفت (الزوج الصغير والكبير).
وتسمى الخانات أحيانا للدلالة على نوع نشاطها التجاري والخدمي مثل (خان النفط) و(خان التمر) و (خان السواد) و (خان اللبن) و (خان الغزل) و (خان النعل) و (خان الجلود)، كما سميت طائفة من الخانات على بعض الأصناف المهنية في الموصل مثل (خان الجبوقجية) (القلاوين)، و (خان الصقالين) و (خان شرعية الكلاكين)، و(خان العلوة) (سوق الحنطة)، فيما سميت بعض الخانات على أسماء الساكنين فيها مثل (خان التلعفرية) (الساكنين من أهل تلعفر). وأحيانا أُطلقت تسميات جديدة على بعض الخانات من خلال إجراءات اتبعتها الحكومة غيرت من معالم الخانات مثل خان المقصوص الذي قسم إلى نصفين جراء فتح شارع يمتد من باب الطوب إلى باب الجسر القديم.
كان للخانات الدور البارز في تقديم الخدمات العديدة للقوافل التجارية كالمبيت والسكن، فضلا عما يقدمه الخان للحيوانات من مأوى وعلف (53)، ويقوم تصميم الخان على شكل بناء واسع ذي مدخل واحد أو عدة مداخل تنتهي إلى ساحة وسطية (فضوة) غير مسقوفة يحيط بها بناء يتكون من طابقين وسرداب لحفظ بضائع أصحاب الدكاكين المجاورة وخصص الطابق الأول (الأراضي) كمرابط للحيوانات، وأماكن لخزن السلع والبضائع، أما الطابق الثاني (العلوي) فيستخدم لأغراض السكن والمبيت للتجار. واشتملت الخانات أحيانا محلات لبعض الحرف اليدوية والصناعات الخفيفة (المكانس القصبية والحصران).
وأشارت سجلات المحكمة الشرعية، إلى أن هناك العديد من الخانات كانت موقوفة من أجل البر والتقوى على الفقراء والمساكين وعلى خدمة حرم النبي محمد ، وعلى المساجد فعلى سبيل المثال لا الحصر في خاني (القلاوين) و (الجبوقجية) و(خان السواد)، ففي خان القلاوين، حيث أشار الحاج عبد الرحمن بن الحاج محمد الباجه جي انه وقف وحبس وخلد ما هو ملكه وبيده وتحت تصرفه، وذلك الموقوف هو سهمان وثمن السهم من أصل مائة سهم من (خان الشبخون) الواقع في سوق الجبوقجية، وشرط الواقف ان يصرف سهام هذا الخان على الفقراء والمساكين... كما وقف وحبس وخلد ما يملكه من سهامه البالغة خمسة أسهم إلا نصف السهم عن كل مائة سهم من (خان الشبخون)، وشرط الواقف أن يصرف ريعه على ذريته فإذا انقرضوا فيصرف نماء الوقف على حرمة حرم النبي محمد (ص).
المصدر : دراسات موصلية.[1]