عبد المنهم الغلامي
مؤرخ راحل
أعلن الجنرال (فانشو) قائد الفرقة الهندية الثانية عشرة في تبليغاته التي ألقيت على أهل #الموصل# بعد أن احتلها اثر إعلان الهدنة: (إن حكومة بريطانيا لا تتحزب إلى دين من الأديان وإنها تساوي بين أبناء الوطن على اختلاف مللهم ونحلهم في الحقوق ولكن الواقع قد كذب هذه المزاعم واظهر زيفها حيث تبين منذ اللحظة الأولى
بان رجال الاحتلال بعيدون كل البعد عن مساواة ابناء الوطن بالحقوق. فلقد تحزبوا الى فئة دون اخرى في كثير من الحالات.. من ذلك مثلا انهم اسندوا الوظائف الكثيرة والمهمة منها على الاخص الى فئات معينة واطلقوا لهم الحرية الكاملة فيما يعملون الى درجة وصل معها بعض هؤلاء الموظفين من قصار النظر الى استعمال الخشونة مع ارباب المصالح، وكثيرا ما كانوا يبقونهم بانتظار تمشية مصالحهم مدة طويلة ثم يطردونهم بكل عنف ورعونة.
وكان رجال الاحتلال يأملون من وراء ذلك استفزاز الاهالي وايغار صدورهم على اولئك الموظفين والتصدي الى القيام بحركة ضدهم وضد سائر الأقليات ليظهروه امام الرأي العام العالمي بالوحشية والاعتداء، ولكن الوطنيين الأحرار والمفكرين من أبناء البلد فوتوا عليهم هذه الفرصة وحذروا الناس من القيام بحركة من شأنها الإضرار بالمصلحة الوطنية ولا يستفيد منها غير الأجنبي الماكر الذي يعمل بكل الوسائل والأساليب لإيقاع الفتنة وبذر الشقاق بين أبناء البلد الواحد عملا بقاعدة – فرق تسد – التي كان قد اتخذها أساسا لسياسته في جميع البلدان والممالك التي أخضعها لحكمه، كما كان عقلاء إخواننا المسيحيين ينصحون الموظفين من أبناء طائفتهم ألا يفسحوا المجال للأجنبي ليلعب لعبته في إحداث الوقيعة بينهم وبين أبناء البلد الآخرين الذين عاشوا وإياهم قرونا طويلة بأمان وصفاء.
وهكذا خاب قال المستمر في هذا المجال ولم يحدث ما يكدر الصفو لوم يوفق الى ايجاد جو تسوده الفرقة كما كان قد اوجده في الهند اثناء حكمه الطويل لها حيث أزهقت الأرواح بين مختلف الطوائف الهندية وخاصة بين المسلمين والهندوس.
لقد كانت أعمال الانكليز وتصرفاتهم في الموصل وعيث جنودهم فيها وسوء إدارتهم وأحكامهم الجائرة التي كانوا يصدرونها وتعديات شرطتهم وعجرفة المترجمين واكثر الموظفين ومعاملة الفراشين القاسية على ابواب الدوائر الحكومية للمراجعين، وقول الانكليز انفسهم للشتم والاهانة بلاد (فول) وبلاد (فكن) وغير ذلك من الكلمات البذيئة، وصرفهم الاموال الكثيرة في طرق الرذيلة وافساد الاخلاق والتصدي الى احداث الفتنة والشقاق بين طبقات السكان، والغاء المجلس البلدي وتسليط المستر (داس) الهندي على البلدية، واخذهم المضبطة المشؤومة من بعض وجوه البلد في طلب الحماية البريطانية كل هذا وغيره كان قد كون انقلابا تدريجيا في الافكار وتطورا في الشعور والإحساسات فاخذ الكثيرون يعلنون سخطهم من تلك الافعال ويتذمرون مما اصابهم من ويلات الاحتلال وشرعوا يفكرون في كيفية الخلاص من ذلك المأزق. وقد استفاد العاملون في (جمعية العلم السرية) من هذا التذمر ومن انقلاب الافكار فنهضوا الاذكاء الشعور وانعاش الروح الوطنية والعمل ضد الغاصب المحتل الذي جر الرزايا على البلاد والتخلص من سيطرته مهما كان الثمن.
ما مضى أمس وقلنا قد مضى
شغله إلا اشتغلنا في غد
ولما شعر الانكليز باستياء أكثرية الشعب من سوء إدارتهم وإعمالهم وأحسوا بنمو الروح الوطنية وتحققوا ان في البلد اناسا لم يغمضوا جفونهم على القذى، وان هناك حركة خفية تعمل ضدهم وسعوا نطاق (جاسوسيتهم) فاعدوا لهم جيشا لجيا من الجواسيس الذي لم يخل من بعض العلماء والمشايخ ومن اغلب الموظفين خاصة منهم بعض المعلمين ومديري المدارس، وكان فيه أيضا من الكبراء والوجهاء والشبان على اختلاف الأديان والمذاهب وكان مزيجا ما بين حضري وبدوي، كردي وعربي، ارمني وأشوري، تركي وفارسي، يزيدي وباجواني من رجال ونساء الى غير ذلك من سائر طبقات الناس وقد نشر هؤلاء الجواسيس في المدن والقرى والسهول والجبال، وتغلغلوا في كل مكان وخالطوا الصغير والكبير لتنسم الاخبار ونقلها إلى أسيادهم.
وكان البعض من هؤلاء الجواسيس يلازمون المجالس التي اعتاد فريق من الناس اقامتها في دورهم باسم الصداقة والود لصحاب المجلس، وبعضهم كان يرابط على ابواب دور الجماعة التي تظن فيها الروح الوطنية بالمناوبة ليلا ونهارا، ومنهم من كان يتزيا بزي الشحاذين فيستجدي الناس، ومنهم من كان يسب الانكليز ويندد بمساوئ حكمهم ازاء مخاطبيه ليستدرجهم الى الكلام ويوقعهم في شركاه، ومنهم كانوا يدخلون السجن بصفة مسجونين لكشف أسرار السجناء السياسيين واستطلاع خفاياهم، وهم أشكال شتى وألوان مختلفة ما بين اسود واسمر وابيض.
فكان البعض منهم يدخلونه بالرفس والركل والضرب المبرح فيتحمل الأذى في سبيل مهمته وأحيانا يستغيث ويصرخ متعمدا لإبعاد كل شبهة حوله، فما كان يمكث احدهم اليوم او اليومين، والأسبوع او الأسبوعين إلا ويخرجونه ويأتون بغيره على ذلك النمط وتلك الأشكال.
فكان والحالة هذه يخيل للمرء أن نفسه أيضاً قد صارت جاسوسا عليه وأصبح القريب لا يأمن قريبه والصديق لا يثق بصديقه.
ولا أعدو الواقع اذا قلت بان الحالة وصلت ببعض ضعفاء النفوس وهم ليسوا من صنف الجواسيس إذا مثلوا أمام احد رؤساء الجاسوسية من الحكام الانكليز او غيرهم كانوا يلفقون الإخبار على الأهالي ويشون حتى بأقرب المقربين إليهم لتأمين أغراضهم ونزواتهم، كما كان بعض وجوه البلد لا يتورعون من تشجيع رجال الانكليز على استعمال الشدة مع كل متلبس بالروح الوطنية.
كان نظام الجاسوسية ذا فصول شتى، فكان البعض مربوطا بالحاكم السياسي نفسه أو بسكرتيره او بحاكم البلد او بمشاوره او كان مسجلا في دائرة الاستخبارات الانكليزية او بدائرة الشرطة مترددا على مستر (سميث) او عبد الغني الهندي او ممن قبل من المعلمين ومديري المدارس لمراجعة دائرة المعارف في أوقات خاصة. وأما بالنسبة الى الجواسيس المشتغلين في الخارج فكانت اتصالاتهم تجري على الأكثر مع الحكام السياسيين في الأقضية.
ولقد بلغ من حرص هؤلاء العملاء على التشكيل بالوطنيين الأحرار والكيد لهم في كل ما لديهم من وسائل وسبل مبلغا لا حدود له من ذلك مثلا (م.ب) كان يحرر المناشير ضد حكومة الاحتلال وبلصقها على الجدران ثم يعود اليها في وقت اخر فيأخذها ويذهب بها الى اسياده على انها من صنع المشتغلين في الحركة الوطنية وعندئذ تجري التحقيقات الواسعة وعمليات تجري بيوت من يقع الاختيار عليهم من الوطنيين واستكتابهم لمعرفة خطوطهم وتوقيفهم وزجهم في السجن، غير ان الامر ما لبث ان انكشف على حقيقته وتبين لدى دوائر الاستخبارات بان للمستر (سميث) الانكليزي نفسه ظلما فيه فما وسع رجال سلطة الاحتلال الا وان ينقلوا (سميثهم) من الموصل الى بلد آخر وان يدعوا (م.ب) في السجن ليقضي فيه ثلاث سنوات ثم ليعود الى قواعده في دائرة الشرطة بعد بضع سنوات من فيلم الحكم الشاذ المزدوج في العراق.
اما التحري فكانت تقوم به عدة فرق في آن واحد، فرقة برئاسة المفوض (ع.ح) ومعه نائب المفوض (ص.ز) ويرأس هذه الفرقة برئاسة المفوض (م.ق.خ) ومعه نائب المفوض (ع) المعروف بالاقع وهو من اهالي السليمانية، وفرقة برئاسة المفوض (ن.ا) ومعه العريف (ع.ي) وفرقة برئاسة (م.ش) وكانت تبذل هذه الفرق – باستثناء فرقة محمد شريف كل ما في وسعها من جهد وامعان بالتحري ولكنها كانت تبوء في كل مرة بالخيبة فلم تتمكن من العثور على ما تتوقعه من مستمسكات بسبب يقظة رجال وشباب المنظمات الوطنية وحذرهم من الوقوع في شرك سلطة الاحتلال غير ان هذا لم يكن مانعا من الشك بهم وزج من يقع الاختيار عليه في غياهب السجن.
واما الاستكتاب، فكانت تقوم به لجنة الفت من: داود يوسفاني مشاور الحاكم السياسي وفتح الله سرسم عضو المجلس البلدي وسليم حسون مفتش المعارف واسعد العمري مدير الأوقاف ورؤوف المفتي احد اعضاء محكمة البداءة وعلي الجميل رئيس كتاب دائرة الأوقاف وانيس صيداوي اللبناني الكاتب في قلم الترجمة بدائرة الحاكم السياسي والمشرف على اصدار جريدة الموصل. وكان الاستكتاب يجري على الكيفية التالية: وهي ان تجتمع اللجنة المذكورة في الغرفة التي كانت قد خصصت لاجتماعات مجلس الادارة في دائرة الحاكم السياسي ويحضر امامها الشخص المراد استكتابه فيضعون امامه ورقة من المناشير ويأمرونه باستنساخها ثم يباشرون بمطابقتها على خطه.
اما السجناء السياسيون فان استكتابهم يجري مرتين، المرة الأولى داخل السجن تحت اشراف المدير وبعض موظفيه وذلك باخراج السجين الى غرفة الإدارة وإجلاسه على كرسي ووضع ورقة من المناشير امامه وامره بالكتابة مثلها، وفي المرة الثانية يخرجون السجناء من السجن تحت حراسة الحراس وقد ربطوا ايديهم بالسلسة الحديدية (الكلبجة) كل بمفرده وهم حفاة عراة الا من سروال مخرق وقميص ممزق، حاسري الرؤوس وقد استرسل شعرهم على وجوههم الى حد غير مألوف حتى يوصلونهم.
مقر اللجنة المذكورة ويجري استكتابهم على الطريقة مارة الذكر.
ومما تجب الاشارة اليه لطرافته إن رأي بعض أعضاء لجنة الاستكتاب كان قد استقر على وجود تشابه بعض حروف ورقة احد السجناء مع حروف احد المناشير فحمل الورقتين (فتح الله سرسم) ودخل بهما على الحاكم السياسي ومن ورائه ثلاثة من اعضاء اللجنة وبعد ان وضعها امامه اخذ بشير باصبعه الى الحروف المتشابهة بين الورقتين فما كان من الحاكم وهو اذ ذاك الميجر (نولدر) الا أن يستدعي بقية اعضاء اللجنة ويأمر باحضار السجين المذكور معهم وعندما وقفوا امامه وجه كلامه الى السجين قائلاً (يقولون – واشار بيده الى اعضاء اللجنة – ان هذا المنشور يشبه خطك) فرد عليه السجين بقوله (لا يسعني المعارضة وللحاكم ان يأمر بما يراه من صالح ادارته) ففكر الحاكم مليا ثم قال لأعضاء اللجنة (انتم تقولون كما يقول غيركم أن هذا الشخص هو رئيس المشاغبين فاذا كان ذلك صحيحا فليس من المعقول أن يكتب رئيس المشاغبين المناشير بخطه، يجوز ان تكون من صنعه وتدبيره) فوجموا!! ثم التفت إلى السجين وقال له (هذا ما يشبه خطك ولكنه من صنعك وتدبيرك اذهب إلى السجن).
والواقع أن السجين المذكور لم يحرر تلك المناشير بخط يده لا هو ولا سائر الموقوفين من إخوانه إنما كان للجمعية كتبة سريون من رجال ونساء لا تحوم الشبه حولهم ولا يعرفهم سوى عدد من الأعضاء لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة وإنا من جملة من يعرفهم واحدا واحداً.
مجلة المعرفة/ كانون الاول 1961.[1]