ارسل القنصل البريطاني رسالة وطردا فيه مجموعة من الوثائق الارشيفية تتعلق بالاحوال العامة في بعض المقاطعات التابعة للدولة العثمانية. هذه الوثائق القليلة الاستعمال هي من المصادر المهمة جداً، اذ تعد في بعض الاحيان المصدر المعلوماتي الوحيد الذي يتناول وصفا لمناطق او احداث معينة حدثت في هذه المناطق، فهي لا تقدم شرحا لما جرى من احداث فقط وانما تطعي وصفا للمشاعر التي انتابت الناس الذين عاشوا مناطق بغداد والبصرة وحيفا وطرابلس وحلب خلال السنوات الغامضة للقرن الاخير من الحكم العثماني.
ومن جميع هذه الوثائق التي ارسلها القنصل البريطاني عن المناطق الناطقة باللغة العربية
تكتسب الوثائق عن بلاد وادي الرافدين: بغداد والبصرة والموصل، اهمية خاصة، فهي تقدم وصفا دقيقا وشرحا مسهبا والسبب وراء ذلك بسيط: ان بلاد وادي الرافدين ذات اهمية سياسية وتجارية خاصة، كونها معبرا الى الهند من ناحية، كما ان للبريطانيين اهتمامات خاصة في بغداد والبصرة من ناحية اخرى.
ونجد في هذه الوثائق ، وثيقة واحدة تلخص لنا موضوعا معينا بذكاء شديد يغنينا عن البحث عنه في بقية الوثائق، ومن امثلة هذه الوثائق الوثيقة المكتوبة عن ولاية الموصل، التي كتبها نائب القنصل اتش. اي. وكي يانغ ، ومؤرخة في كانون الثاني من عام 1909، وتتميز هذه الوثيقة باعطاء وصف دقيق للموصل من ناحية خلال تلك المدة، كما انها تمتاز بذكاء شديد في تحليل الحوادث من ناحية اخرى، مما يتيح المجال للباحث بكشف الغموض عن تلك المدة الزمنية. ومما يتيح المجال للباحث بكشف الغموض عن تلك المدة الزمنية. ومما يضيف بعدا اخر لاهميتها، انها كتبت في فترة انقالية: بعد حزيران 1908 وقبل نيسان 1909، وكانت السلطة المحلية انذاك تمر في حالة صدمة واخذت الشخصيات المهمة بالابتعاد عن هذه السلطة والتصرف بناء على مصالحها بما يشبه الحكم الذاتي لانفسهم بعيدا عن السلطة الرسمية. ومن امثال هذه التصرفات، وقبل ارسال هذه الوثائق بمدة وجيزة ، ثم التخطيط لقتل الشيخ سعيد، شيخ السلمانية، في الموصل عندما كان في زيارة لها. لقد تم اغتياله مع عدد من المرافقين الكرد له في احد الشوارع. ويعطي نائب القنصل البريطاني وصفا دقيقا للالية التي جرت فيها عملية الاغتيال وكالاتي: لقد تم اعداد خطة للهجوم (على الشيخ سعيد) من قبل المجلس في احد بيوت هذه الشخصيات المحلية قبل ليلة الاغتيال. وانيطت مهمة الاغتيال ب ابو جاسم وهو اسم يطلق على الفتوة (بلطجي) بعد ان وعدوه، بدون شك، بحلة (ملابس) جديدة او عدة ليرات لتجشمه عناء المشقة، ولا حاجة للقول ان علماء المنطقة، والشخصيات المهمة لم يخرجوا من بيوتهم ذلك اليوم، وعندما انتهى الامر اطلوا برؤوسهم، وبحراسة اشخاص، في زيارة للوالي، او ربما مكتب البريد وعليهم امارات متصنعة بانهم اسفون لما حصل واعلنوا امام الناس بانهم جاهلون تماما بما حدث، وان هذا عمل لا يمكن تبريره واثار مشاعر الناس بصورة قوية، والحقيقة ان مشاعر هؤلاء الناس الذين يتكلمون معهم لا يمكن ان تثار الا اذا اثاروها هم انفسهم. ومما يضيف اهمية مضافة لهذه الوثائق انها كتبت عن ولاية اظهرت بريطانيا والملك فيصل عزمهما على ضمها للعراق بين السنوات 1922 – 1925.
وتلقي هذه الوثائق الضوء على الصورة الاجتماعية والسياسية للموصل في هذه المدة. وتستغرق الرحلة من الاسكندرونة الى الموصل خمسة عشر يوما، في الظروف المناخية الجيدة، وبالطبع تكون الرحلة اطول بواسطة العربات التي ترجها الحمير. اما قوافل الجمال فتستغرق حوالي ستة اسابيع اعتمادا على فصول السنة. اما السفر من الخليج العربي الى الموصل فيستغرق نفس المدة تقريبا ومن ضمنها السفر لمدة اربعة ايام بواسطة القوارب البخارية من البصرة الى بغداد، ومن هناك يتم السفر برا بالعربات. ويتم تقسيم الرحلة الى (8-12) مرحلة. المقترب للمدينة من الشمال طويل جدا واكثر المحاور المباشرة الى المدينة هو محور سامسون – دياريكر (19 مرحلة)، وتستغرق الرحلة من دياربكر الى الموصل بالقوارب بين (4-10) ايام اعتمادا على حالة النهر. وعلى كل حال ففي اي اتجاه تسلكه للذهاب الى المدينة، تعد مدينة الموصل من المدن التي يصعب الوصول لها مقارنة بباقي المدن الكبيرة التابعة للدولة العثمانية، وهذا هو اول عائق يقف بوجه تطور المدينة.
الصيف في المدينة حار ويستمر من نهاية نيسان ولغاية منتصف او نهاية شهر تشرين الاول، تصل درجة الحرارة في الظل احيانا 120 درجة فهرنهايت، ومما يزيد من حرارة المدينة ان الحيطان مبنية بالجص، وتمتص هذه الحيطان الحرارة في النهار وتطلقها مرة ثانية في الليل جاعلة من ساعات الليل الاولى كأية ساعات من النهار فيما يخص درجات الحرارة العالية.
وقرأ كاتب هذه الوثيقة درجة الحرارة في احد ايام شهر اب فوجدها 111 درجة فهرنهايت في الظل. وقد زار المسيو ثفينو Thevenot هذه المدينة عام 1664 وكتب ما يأتي: بعد ساعتين من شروق الشمس، لم يعد ممكنا الخروج من البيت، حتى الساعة التي يتم فيها النوم. وتكون الجدران ملتهبة الى الحد الذي ترتفع فيه حرارة الجسم حتى القدم وكأنه حديد ملتهب. وكطريقة للبرهنة على ان الغرف حارة، فان الدجاج يترك في غرف مقفلة للتبييض في شهر آب من دون اية وسائل صناعية للتدفئة.
اما في الشتاء فان فارق درجة الحرارة مختلف كثيرا، فالشتاء في هذه السنة لطيف ويتخلله في بعض الاحيان انخفاض نسبي لدرجة الحرارة، فنرى الصقيع، لكن قبل ثلاث سنوات تجمد نهر دجلة وماتت اشجار النخيل والبرتقال والزيتون والليمون. وشهري نيسان وتشرين الاول، لطيفان في الموصل ويشبهان بعضهما بشكل لايمكن ان يشابهه اي مكان آخر. ومجيء شهر تشرين الثاني بعد ستة اشهر من الحر اللاهب ما يميز هذه المنطقة، مما استحق ان تسمى بام الربيعين. وفي غياب اطباء اوربيين، يصعب اعطاء تقييم للحالة الصحية ولا تبالغ في القول ان الحالة هنا هي اسوء بكثير مما عليه الحال في اية ادارة اخرى سابقة للمنطقة، ولا يفعل مجلس البلدية شيئا مطلقا – والحقيقة ان السكان يعلنون دائما ان الامور كانت افضل قبل استحداث نظام مجلس البلديات ، عندما كانت كل محلة في المدينة تأخذ على عاتقها الاهتمام بمحلتها، ولايوجد في المدينة نظام للوقاية الصحية والزربال ترمى في الشوارع، حتى جثث الحيوانات تترك في امكنتها وتداس بالاقدام. ان لكل دار بئر والماء في كل مكان غير عذب، لذا يجلب ماء الشرب بواسطة قرب جلدية محمولة على الحمير او البغال من النهر. وان اكثر الامراض شيوعا هي التيفوئيد والملاريا والسل. وخمنت البعثة البريطانية في المنطقة ان عدد المصابين بامراض تتعلق بالسل هو 80 % من السكان. واشارت نفس البعثة ان 10 % من السكان يعانون انواعا مختلفة من امراض العيون. وبالتأكيد ان عدد الافراد الذين نراهم في الشوارع يوميا والذين فقدوا البصر كليا او جزئيا هو عدد مرعب ، ويبدوا مرض حبة الموصل (دنابل) والمنتشرة انواع منه في بغداد، عاما وشائعا ونتائجه اللاحقة غالبا ما تكون مدمرة لافراد هذا المجتمع.
المدينة مبنية على منحدرين لارض مرتفعة كافية لتحجز رؤية المدينة كصورة كلية من اكثر اطرافها – وهذا الشكل للمدينة بالذات اكسبها اسما عربيا اخر: الحدباء، والمدينة مسورة بجدران جديدة نسبيا وليس في هذه الجدران ما يميزها في فن العمارة، ولكنها بنيت لصد غارات الاعراب.
يوجد لهذه الجدران (الاسوار) : سبعة ابواب تؤدي للمدينة وتغلق عند غروب الشمس. وهذه الابواب لا تشكل شيئا من حيث القوة والبهاء اذا ما قورنت مع ابواب مدينة ديار بكر، وحتى مدينة الموصل نفسها فهي لا تمثل اي مظهر عمراني متميز، الجوامع فيها فقيرة التأثيث والشوارع غير منتظمة وضيقة لا تفضي في اية اجراء منها الى مناظر خلابة. ويتمكن المرء ان يقطع المدينة بواسطة ستة اتجاهات من دون ان يجد اي اثر للفن او حتى المهارة في البناء . صحيح ان بيوت البيكات كبيرة وتحتوي على ايوانات كبيرة، لكن واجهات هذه البيوت جدران عالية بدون شبابيك، وابواب المدخل ذات فردة واحدة ومشبوكة بالاسلاك الحديدية بكثافة. ان كل دار من هذه الدور بالحقيقة هي عبارة عن قلعة حصينة. وان مجرد ستة اشخاص مسلحين يستطيعون بكل سهولة حمايتها من اللصوص او اعداء البيك. وعلى سبيل المثال كان نائب القنصل البريطاني يسكن في العام الماضي احدى هذه البيوت، والمدخل عبارة عن حلقات متعددة من الممرات، وكان علنيا اختيار ليس اقل من خمسة ابواب الى ان نصل لمكان جلوس الزوار، وهو بحاة مفتوحة. ان الحاجة لا تزال تدعو الى انشاء هذه التحصينات في هذه الدور، لان الاثرياء يحتفضون باموالهم مخبئة فيها – في مدينة تحدث فيها جريمة قتل او سرقة كل تسعة ايام على اقل تقدير.
المدينة مقسمة الى ست وثلاثين محلة، كل محلة لها تقاليدها الخاصة وعاداتها وحتى الاختلاف نوعا ما في اللهجة. ويسكن افراد العائلة الواحدة (اي الذين ينتمون الى جد واحد) عادة في نفس المحلة، وفي بعض الاحيان تجد شوارعا كاملة تسكن على جانبيها عوائل تربطهم روابط النسب، وتكون المشاعر بين المحلات المختلفة عادة ودية او متسمة بالكراهية، لقيام شجار بين المحلات المختلفة، فيقوم (50-60) شخصا من كل محلة بالاشتراك بمثل هذاالشجار، وفي هذه الشجارات تستخدم القامات والسكاكين والاسلحة النارية وحتى الاحجار. وفي العام الماضي حدث شجار مثل هذا وقتل فيه شخص واحد، وجرح عدة اشخاص. ان الثارات الشخصية والكراهية بين العوائل عادية ولكنها لا تؤدي في اغلب الاحيان الى شجار علني واضح الاسباب وبصورة مباشرة. وفي الصيف الماضي كاد ان يحدث شجار في احد بيوت المستشارين الا ان اهل الدار احسوا بذلك واستعد الجميع لحالة من الانذار للدفاع عن الدار والمجتمعين فيه وتم افشال محاولة الهجوم عليهم.
في هذه المدينة لا تستطيع الحصول على احصائية دقيقة عن اي شيء. لقد قاوم السكان هناك اية محاولة لتسجيل النساء لدى دوائر النفوس وكذلك الاطفال ايضا. لكن يبلغ عدد سكان المدينة تخمينا حوالي (مائة الف)، ومن هؤلاء تسعة اعشار من المسلمين والبقية مسيحيون ويهود. واللغة المتداولة عدا محلة الاكراد البالغين (3000) نسمة، هي اللغة العربية. ويمكن القول انه لايوجد بين الغالبية المسلمة اية طبقة مثقفة. وحتى بين افراد العوائل العريقة النسب، لايوجد الا القليل ممن يحسنون التركية. وعلى حد علمي، لايوجد في كل المدينة سوى مواطن مسلم واحد يحسن لغة اوربية واحدة، هو داود جلبي ويعمل فتوة لدى مستشاريه الالمان. هذا الرجل هو الوحيد ايضا الذي زار اوروبا من اهل الموصل كلها، فلم يذهب اهل الموصل ابع من اسطنبول في كل حياتهم، والقليل منهم وحتى الطبقة الراقية من ذهب الى الحج. وحتى بغداد او حلب، وهما مدينتان قريبتان نسبيا من الموصل (مسيرة ثمانية وعشرة ايام لكل منهما) معروفتان لدى اهل الموصل من خلال الاستماع الى الذين زاروا المدينتين. وبما انني على صلات طيبة مع العوائل الراقية المسلمة بدون استثناء، اتيحت لي عدة فرص لدراسة عادات وتقاليد هذه العوائل عن كثب خلال الاشهر العشرة الماضية، فعائلة الجليلي، على سبيل المثال، لا تزور المواطنين الاخرين في بيوتهم الا نادرا، وهم قلما يتركون المنزل: ويجلس كبار هذه العائلة بعد الفطور وبعد الغداء وبعد العشاء، في الايوان المخصص للضيوف وتستقبل الزوار القادمين لاداء التحية. اما الاوقات الاخرى فيصرفها الرجال بين حريمهم. وليس في بيوت الموصل حدائق ولا تدل على تصميم فيه روح. هكذا هي معيشة تسعة اعشار البيكات الموصليون خلال السنة تتخلها زيارة او زيارتين لاحدى القرى المجاورة، حيث يمتلكون مزارع هناك، والقليل جدا من هؤلاء الموصليين البيكات يكترثون للنشاط الرياضي، وليس لديهم اي اهتمام اخر غير الحريم (النساء). ويقال ان اكثرهم يشربون المسكرات بصورة كثيرة جدا، وما عدا عائلة الجليلي، فان الاغلبية محبين للمال وطماعين، الى جانب كونهم بخلاء. في بيوتهم يرتدون الملابس التقليدية، ولكن بدأوا مؤخرا بارتداء الملابس الاوروبية في مناسبات قليلة. وفي غرف الضيوف في بيوتهم والمفتوحة الى السماء شيء من الابهة بوجود الخدم المرتدين لملابس شعبية جميلة، ولكن بقية الغرف على العموم متواضعة وكئيبة ونادرا ما تحتوي على سجاد جميل او قطعة اثاث جيدة تبعث على البهجة في النفس.
ومن المحتمل ان مجتمع الموصل هو اكثر مجتمعات الدولة العثمانية كآبة، وان الانطباع الذي يتولد لدى الناظر لهذا المجتمع هو انه قد اميت وانه جيل من المرضى ومحبي الذات. انه جيل لا يستطيع عمل شيء وحاجته قليلة – هذا حال الاغلبية الذين يقضون الايام، يوما بعد يوم، والاشهر، شهر بعد شهر، بلا عمل وبلا هويات وبلا اهداف. والشيوخ في هذا المجتمع لاهم له سوى الجلوس في الدور بينما الاصغر سنا يقشبون على البقية وهم جالسون على عتبة دورهم، ومن المحتمل انه لا يوجد مكان آخر مثل هذا ليس فيه حركة في كل اجزاء الامبراطورية العثمانية. لقد احتل الاتراك الموصل عام 1638، وعلى الرغم من ان سكانها اليوم ضعيفي الحيوية والذكاء كما كانوا قبل ثلاثة قرون مضت، فان هذه المدينة لا تزال نفسها منذ زمن الاحتلال وحتى الان، وتحكم من قبل العلماء (علماء الدين) والبيكات. ان المدينة ، بناء على النظرة المحافظة لاهلها – لا تقبل اي جديد يأتيها من الخارج، وقد تم مؤخرا ادخال السكين والشوكة، ولكني اخبرت من مصادر موثوقة بانه لا توجد عائلة مسلمة في كل مدينة الموصل تستعمل الشوكة والسكين عند الطعام الاعند تناول الطعام بوجود شخصيات مهمة يتصادف وجودها على المائدة.
ان نظرة المسلمين للنصارى واليهود الذين يشكلون عشر السكان في مثل نظرة السيد الى عبده، طالما ان هذا العبد محتفظ بادبه. واي تظاهر من قبل تلك الاقلية بالمساواة سوف يسحق بعنف. ويلاحظ في الازقة ان هذه الاقلية تفسح المجال لمرور المسلم وان كان طفلا صغيرا وقبل عدة ايام فقط شاهد كاتب هذه الوثيقة اثنين من اليهود يتنزهون في حديقة، وصادف ان مر مسلم عمره لايزيد عن ثماني سنوات قلما شاهدهما قام برفع حجر من الارض ورماه بقوة عليهما ثم جاء طفل وفعل الشيء ذاته كأنه يرمي الحجر على كلب او طير، انحنى اليهوديان لتجنب الاحجار ولم يقوما باي رد فعل اخر ضد الطفلين.
وفي وقت ليس بالبعيد، تجادلت امراة مسلمة مع بائع ادوية حول سعر دواء بيع لها في المركز البريطاني في الموصل، وقالت المرأة للرجل بعد نقاش طويل انه سوف يندم على ذلك. وفي اليوم التالي وبينما كان هذا الرجل يمر عبر السوق المكتض بالناس، تقدم من خلفه شخص آخر وطعنه طعنة كادت تقتله – اختفى الشخص وسط الزحام ولم يتدخل احد من الموجودين حول الجريمة . ومن البديهي – كما يحدث في كل مرة – لم تكن هنالك ادلة لادانة المرأة ولم يعرف الجاني.
وقبل عدة سنوات، كان من سوء حظ احد افراد عائلة يعقوبية بارز في الموصل بجرح مشاعر عائلة مسلمة قوية. وبعد مدة ليست طويلة تم مباغتة هذا اليعقوبي في الشارع حيث تم سحبه الى ساحة صغيرة وضرب هناك بقسوة وتوفي بعد فترة متأثرا بجراحه. ان مثل هذه الحوادث كثيرة ويمكن ان تتكرر، ولكننا نكتفي بالامثلة الثلاثة اعلاه لندلل على شكل العلاقة القائمة بين الناس في الموصل.
هناك مظهر اخر يدعو الى الاستغراب في الموصل، وهو نظرة المسلمين الى الاديان الاخرى. فعلى الرغم من اعتزاز هؤلاء بالدين الاسلامي، الا انهم لا يلتزمون بتعاليمه اذ ان اقل من 55 قد ذهبوا للحج، ويبدو عليهم عدم الاكتراث ايضا للشعائر الاخرى. وان اولئك الذين يدعون او يتظاهرون بالورع الديني سوف لن يترددوا بالاستيلاء على اموال الوقف المخصصة لبناء وادامة المقابر. وعلى سبيل المثال يوجد شخص يدعى الصابونجي، وهو مشهور باعتداءاته على اموال الوقف ولا احد يستطيع وقفه عند حده. كما ان ذبح الشيخ سعيد، وهو من ناحية النسب يعود الى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، انما تدل على عدم احترام اهل الموصل للدين والى كل ما يتصل بهذا الدين – عدم الاحترام الذي لا تقبله الاعراف والتقاليد، وهذه الافعال الشنيعة المتناقضة مع مبادئ الدين لا تكشف عن قسوة اولئك المتشدقين بالمظاهر الدينية دون الالتزام بالجوهر فحسب، بل يكشف عن سلالة من البشر لا يرجى منها الا خير قليل ولا نستطيع ايقافها عن الشر الا بالقوة وتعطينا الاضطرابات الاخيرة فكرة واضحة عن الاساليب التقليدية التي يستعملها البيكات وعلماء الدين المحليين في التلاعب على الحكومة. وقد تم اعداد خطة للهجوم على الشيخ سعيد في احد البيوتات الكبيرة في الموصل في مجلس ضم هؤلاء العلماء والبيكات وتم استقدام (ابو جاسم) او من هو على شاكلته لتنفيذ الخطة. ولقد وعد المجلس (ابو جاسم) بحلة (ثياب) جديدة او عدة ليرات جزاء على عمله. وغني عن القول ان هؤلاء العلماء والبيكات لم يخرجوا من بيوتهم يوم تنفيذ العملية. وعندما انتهى الامر خرج هؤلاء بحراسة شخصية لزيارة الوالي – او ربما دائرة البريد وعليهم امارات الاستنكار لما حدث من جريمة. يقول هؤلاء المتنفذون ان مشاعر الرعية قد تحركت بعنف ازاء هذه الجريمة البشعة. ولكنهم يدركون في اعماقهم ان مشاعر الرعية لا تتحرك الا اذا هم ارادوا ان تتحرك. ان الولاة المتعاقبين يعرفون هذه الحقيقة ويتصرفون على اساسها. لكن على كل حال، يقال ان الحكومة لم تهان بمثل هذا الشكل الذي اهينت فيه يوم 16 كانون الثاني الماضي. اما في ما يخص الطبقات الدنيا من المسلمين في الموصل فيمكن وصفهم بالجهلة والقساة. وانا اعتقد انه لايوجد في كل اجزاء الدولة العثمانية اكثر من هؤلاء ويحكم العلماء والرجال البارزين هؤلاء مثل قطيع من الماعز ويعطوهم بين الحين والاخر امثلة على التجبر والقوة الغاشمة التي يتمتعون بها، لهذا فان الحكومة المركزية لا تجد صعوبة في تركيز وادامة سلطتها في المنطقة. والمجتمع الموصلي مجتمع عاطل وسهل الانقياد، وهم يعملون حوالي ثلاثة ايام من ايام الاسبوع السبعة ويقضون باقي الايام في القشب على الناس في المقاهي او تجدهم يشمون الهواء متكئين على سور المدينة. وهم كأي عاطلين تجد الرجال منهم على استعداد دائم لتنفيذ الاعمال الشريرة، وخصوصا اذا تضمنت السلب والنهب، دون خوف من النتائج او العواقب الوخيمة. لكن هذا لايعني ان هؤلاء يرمون انفسهم بالتهلكة كيفما اتفق وانما يعتمدون على حساب دقيق وذكي لقوة الطرفين المتخاصمين، كما يحسبون بعناية مقدار الاضرار المحتملة التي قد تصيبهم لاحقا. واذا كان الوقت الحاضر دقيقا وحرجا (بسبب مقتل الشيخ سعيد)، فان ذلك كان بسبب توالي ثلاثة ولاة ضعاف ولاية الموصل في السنوات الخمس الماضية. ويحتمل ان عدد السكان المسيحيين لايزيد عن تسعة الاف نسمة وهم يتوزعون على الطوائف التالية: الكاثوليك الكلدان والكاثوليك السريان واليعاقبة وعدد من الارمن والببروتستانت والارثوذوكس. ان اهم طائفة من هؤلاء في مدينة الموصل هي طائفة الكاثوليك الكلدان، وهم نساطرة في الاصل وانشقوا عن الكنيسة القديمة واعترفوا بسيادة البابا قبل مائتي سنة تقريبا. والرئيس الروحي للكاثوليك الكلدان في ايران وتركيا هو نيافة البطريارك عمانوئيل الذي يقيم في الموصل، وعدد هؤلاء يربو على ثلاثة الاف نسمة ولديهم سبع كنائس وواحد وعشرين قسا واربع مدارس يدرس فيها ثلاثمائة وخمسين طالبا، اما بقية الطلاب من هذه الطائفة فيدرسون في مدرسة بعثة الدومنيكان. اما عدد الكاثوليك السريان فيبلغ حوالي (2500) نسمة، وهم في الاصل يعاقبة انفصلوا عن الكنيسة تحت التأثير الفرنسي ليعترفوا بعد ذلك بسلطة البابا في روما ويقيم رئيسهم الديني في مدينة حلب. ولديهم في الموصل رئيس اساقفة وثلاث كنائس وخمسة عشر قسا وثلاث مدارس. لقد استقرت بعثة الكاثوليك الرومان منذ القرن السابع عشر في هذه المنطقة وتم ادامتها باستمرار منذ ذلك الوقت ولحد الان، وهي الان بادارة ثلاثة عشر ابا دومنيكانيا وعدد من الاخوات المسيحيات. ولدى هؤلاء كنيسة منظمة ومدارس رائعة تقوم بتدريس الف طالب مجانا. يمثل نياقة البابا في بلاد الرافدين بعثة برئاسة المسيو دروري الذي يقيم في مدينة الموصل، ومصروفات البعثة في الاصل كانت على حساب سيدة فرنسية قبل قرنين اشترطت ان يكون ممثل البعثة للبابا فرنسيا دائما وتم مماشاة ذلك التقليد منذ ذلك الحين.
اما اليعاقبة او ابناء الكنيسة السريانية القديمة، فلهم تاريخ متميز في المنطقة. وعلى الرغم من فقرهم، اداموا استقلاليتهم بقوة لمدة (ستة عشر) قرنا، ورفضوا التضحية بمعتقداتهم الدينية وحريتهم مقابل العروض السخية التي عرضتها عليهم كنيسة روما. وهذه العروض هي: دفع رواتب القساوسة والبرهبان والتعليم المجاني و(فتح المدارس) لاطفالهم وتقديم الحماية لهم ولمصالحهم بواسطة الحكومة الفرنسية. ويربو عدد هؤلاء في الموصل على ثلاثة الاف نسمة ولديهم اربع كنائس واربعة قساوسة وثلاث مدارس يدرس فيها حوالي مائتي طفل. اما بقية اطفال الطائفة فيدرسون في مدرسة البعثة البريطانية. واسست جمعية بعثة الكنيسة مدرسة هنا، يدرس فيها حوالي مائتي طالب من البروتستانت اليعاقبة وعدد قليل من المسلمين . ان احد اهم الاعمال التي تقوم بها هذه المدرسة هي تقديم الرعاية الصحية. ولم يصبح هذا الجانب من النشاط دائميا لحد الان وقد اثر غياب الطبيب المسؤول منذ خريف عام 1907 بالطبع على تطور هذا النشاط الطبي سلبا. وقبل سفر هذ الطبيب الى بريطانيا، استمر الفرع الطبي في المدرسة ولمدة سنتين متتاليتين بتقديم الخدمات الطبيبة واكتسب احترام وشكر جميع طبقات المجتمع الموصلي: لا يوجد مركز طبي اوربي في كل المدينة عدا هذا المركز، وان اقرب بعثة طبية اوربية تبعد مسيرة ستة عشرة يوما ذهابا وايابا – اي يتوجب على المرضى الذهاب الى بغداد، لذا فان الاهالي تلهفوا لعودة هذا الطبيب الانكليزي. اما الارمن فبلغ عددهم (اربعون) عائلة منهم (سبع وعشرون) عائلة بروتستانتية وسبع عوائل من الارثوذوكس، وللمجموعتين كنيستين منفصلتين، واسهمت جهود البعثتين الفرنسية والبريطانية في تطوير المسيحين، الا انه وعلى الرغم من هذا التطوير لايزال هؤلاء بحالة متخلفة، وربما سبب ذلك وعلى نحو جزئي انهم اقلية ضمن اغلبية مسيطرة عليهم من ناحية، ومن ناحية ثانية انهم ورثوا هذاالنقص في الشخصية من المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه. ان بيوتهم بائسة وظروف نسائهم ليست افضل من ظروف النساء المسلمات، ولا تتجرأ المرأة المسيحية على عبور الشارع بدون ان تغطي وجهها، وهؤلاء النسوة يتناولن الطعام لوحدهن، اي بمعزل عن ازواجهن ولايظهرن في الشوارع برفقة ازواجهن لان ذلك يعد عيبا في ذلك المجتمع.
وتلخيصا لما سبق نقول ان طباع المسيحيين والمسلمين اصبحت متشابهة الى حد بعيد، ان يتزوج الرجال المسيحيون عند سن الثلاثين او حوالي ذلك وتتزوج البنات المسيحيات بعمر (اثنتا عشر او ثلاث عشرة) سنة . وان المستوطنة اليهودية هي الاقدم في الموصل، ولها وجود منذ اسرهم في غابر الايام. وقبل حوالي سنة اقامت (جمعية الاليانس اليهودية) بعثة بادارة شخص مقتدر جدا هو المسيو موريس سيدي. وفي اول امر هذه البعثة جو بهت بمعارضة شديدة من الوالي السابق مصطفى بيك، لكن بعد ذلك ثم الاعتراف بهذه البعثة رسميا، وتقوم البعثة الان بعمل مهم في احدى محلات المدينة التي هي بحاجة ماسة الى هذا النوع من المساعدة ويعني قولنا هذا الكثير.
عن كتاب تاريخ الموصل 1984.[1]