عبد الجبار الراوي
قبل تأليف الحكومة الوطنية العراقية، كان الضباط البريطانيون، من قوات الاحتلال، هم الذين يمارسون العمل التنفيذي والقضائي في مديرية الشرطة. ولما القت الحكومة العراقية، وعين مدير للشرطة في كل لواء، صدرت اوامر من وزارة الداخلية بان تكون السلطة التنفيذية والتحقيقية في ايدي المديرين العراقيين،
وان تنحصر وظائف الضباط البريطانيين بوظائف التفتيش التي تقتصر على كتابة التقارير التفتيشية وتقديم المشورة الى المدير العراقي الذي كان ملزما بان يتشاور مع المفتشين البريطانيين في الامور الادارية المهمة لان الوزارة اعطت مفتشي الشرطة البريطانيين حق تأييد مقترحات المدير، إلا ان هذا الأمر لم يتحقق بسهولة، لان ضباط التفتيش البريطانيين لم يهن عليهم التسليم بترك السلطات التي انتزعت منهم، فبقيت المجادلة والنزاع ينهم وبين مديري شرطة الالوية مدة طويلة، حتى استقر الأمر بخضوعهم للأمر الواقع، فكفوا عن التدخل باعمال المدير الفعلية، واقتصرت تدخلاتهم في تقديم المشورة وكتابة التقارير وتقديمها الى مفتش الشرطة العام في بغداد. ومع ذلك بقي التعامل معهم متعباً ومزعجا في كثير من الاحيان.
كان تحسين علي مدير شرطة لواء#الموصل# متشدداً وصلبا في استعمال صلاحياته التامة، ولم يكن يغير اهتماماً كبيراً للضباط البريطانيين ومفتشهم العام في معاونان، احدهما لبلدة الموصل، والآخر لقضاء الموصل. وكان (سارجنت جونسن) يسيطر على مركز شرطة الموصل، يعاونه رئيس العرفاء موسى، وكان معاون شرطة البلدة يسايره، كانت تشكيلات شرطة قضاء الموصل تتألف من مركز المعاون، وهيأة التحقيق في مركز مديرية الشرطة ببلدة الموصل، ويرأس شرطة كل قضاء من اقضية الموصل مفوض اقدم، ويرأس كل منطقة من مناطق القضاء مأمور مركز بدرجة مفوض، والمناطق هي:
- مركز تلكيف، ويتبعها مخفر اسقف ومخفر ناحية القوش، ومخفر باعذرة (مكان اقامة شيخ اليزيدية)، ومخفر عين صفني.
- مركز بعشيقة، ويتبعه مخفر معكوب، ومخفر قرقوش، ومخفر كلك حسن اغا.
- مركز حمام العليل، ويتبعه مخفر الشورة، ومخفر الشرقاط، ومخفر الثلجة.
وتشرف على التحقيق دائرة التحقيقات المؤلفة من رئيس مفوضين، ومفوضين اثنين في مركز القضاء. اما حدود القضاء، فتبدأ من الجادة التي تحيط بالموصل الى حدود لواء بغداد من جهة الجنوب، والى حدود قضاء تلعفر من جهة الغرب، والى حدود قضاء دهوك من جهة الشمال والشمال الشرقي.
في 14 شباط 1923 نقلت من معاونية شرطة لهجانة في الجزيرة الى معاونية شرطة قضاء الموصل. ومنذ ان وطئت قدماي الموصل، وباشرت وظيفتي، لم اعترف بوجود سلطة غير سلطة المدير، ولم اراجع المفتشين البريطانيين في اي واجب مهما كان شأنه، حرصا مني على دعم المدير الذي كنت اعتقد بوطنيته وسلامة موقفه من جهة، ولابرهن للبريطانيين، من جهة اخرى، اننا ضباط لا نقل عنهم كفاية، ولسنا محتاجين الى مشورتهم، لان مثل تلك المشورة، في نظري، تحد من الابداع والطموح، وتقلل من قدرة الفرد على التصرف بالامور عند وقوع الحوادث التي تجب معالجتها آنياً.
علمت ان ضابط التفتيش (كابتن سارجنت) الذي يعاونه (كابتن كابوت)، كتب تقريراً الى مفتش الشرطة العام، فيه انتقاد لدائرتي، فذهبت اليه، وقلت له: سمعت بكتابتك تقريراً فيه انتقاد لدائرتي! قال: نعم، قلت: اتدري ماذا ساكتب اذا سئلت؟ قال: ماذا ستكتب؟ قلت: ساكتب: اني اطلب مفتشا خاصا من بغداد يفتش دائرتي، ليلمس الاصلاحات والاعمال التي قمت بها بعد تسلمي وظيفتي، ويقارن بينها وبين دائرة المعاون الآخر، فاجابني: اني سابدل ما نويت كتابته، وصرف النظر عن تقريره، فدل على ان له نفسا لوامة.
جاء مفتش الشرطة العام (كولونيل بريسكوت) المشهور بعجرفته وسلطته ونفوذه في بغداد، مفتشا للموصل، ولم اكن حاضراً إذ كنت مجازاً خارج لواء الموصل، فكتب عني في تقرير التفتيش النبذة الاتية: لم أجد معاون قضاء الموصل، عبد الجبار الراوي إذ كان مجازاً، ولم يكن لي وقت لتفتيش دائرته، ولكني غير راضٍ عنه. فلما جاء بعدها مدير الشرطة العام الحاج سليم، سألني: ماذا تقول فيما كتبه عنك المفتش العام؟ قلت: اقول انه غير راضٍ عني، لاني لا اتقرب الى ضباطه، واعاضد المدير العراقي، فلماذا صار غير راضٍ عني، ولم اكن حاضراً، وهو لم يفتش دائرتي؟
في بداية تأسيس الحكومة العراقية، كانت الطرق غير مأمونة، ولا سيما الطرق المتصلة بالحدود التركية، ولهذا كنت اشعر ان علينا واجباً مهماً يقتضي القيام به ليلاً ونهاراً لتكون الطرق مأمونة، ويكون السائرون فيها امنين على انفسهم وأموالهم وهذا لا يتم الا بتأليف دوريات خاصة، وبذل جهود كبيرة للقبض على المجرمين الذين يعيشون في الطرق فساداً، لأن خير عمل يقطع دابر الجرائم هو القبض على المجرمين وهم متلبسون بالجريمة، واعادة الاموال المسلوبة الى اصحابها. وذلك يتطلب بالضرورة اعداداً وتخطيطاً، كما يحتاج الى موظفين مثابرين للتعقيب والتحقيق وعلى قدر كبير من الكفاية والاخلاص للواجب.
كان اكثر الذين يقطعون الطرق ويعيشون فيها فساداً، يأتون من وراء حدودنا وعلى وجه التحديد من جهة (نصيبين). وكان هناك جماعتان مشهورتان بالسلب في طريق الموصل، هما: جماعة احمد الهواز، وجماعة بليبل. كانوا يقطعون المسافة من وراء الحدود العراقية التركية ليلاً، ويصلون الى منطقة (جبلة العطشانة) القريبة من الموصل، فيمكمثون فيها حتى المغيب، ثم يظهرون في الطريق العام، ويسلبون اي قافلة يصادفونها، ويستأفون الاموال والحيوانات، ويعودون ليلا، ولا يأتي الصباح إلا وهم في أمان خارج الحدود. ولقطع دابر هذه الاعمال والجرائم المخلة بالامن، اضطررنا الى استئجار سيارات اهلية، لانه لم توجد في ذلك الوقت لدى شرطة لواء الموصل سيارة، وقد نجحنا في تعقب هذه العصابة، فقد تعقبتهم بنفسي من القوة المخصصة بالسيارات، وادركناهم قبل ان يدخلوا الحدود التركية وباغتناهم بحيث لم يتمكنوا من الهرب او المقابلة لانهم لم يكونوا قد ادخلوا في حسابهم هذا التعقيب، فامسكنا اكثرهم. وهكذا تم القضاء على دابر الشقاوة وقطع الطرق في تلك المناطق المؤدية الى خارج الحدود.
اما طريق الموصل – بغداد، فقد حدثت فيه حادثة سلب وقتل مزعجة داخل حدود لواء بغداد. ولأجل ان لا تتكرر هذه الحادثة داخل حدود لوائنا، وضعنا خطة مدبرة: ركبنا في سيارات اجرة، وغيرنا ملابسنا، وحملنا السيارات اشياء تغري من يريد السلب في الطريق العام، حتى إذا وصلنا الى موقع (تلول الباج) بعد الشرقاط، خرج علينا مسلحون، واوقفوا السيارة ليسلبوها. فلما شاهدوا السلاح داخل السيارة، انهزموا، فتعقبناهم وامسكنا اثنين منهم فلم تحدث بعد ذلك اية حادثة سلب في هذا الطريق.
كانت تعقيباتنا وتفتيشاتنا ومتابعتها في هذه المنطقة الواسعة، تتم كلها على ظهور الخيل، وكنا نكافح في سبيل توطيد الأمن، لنثبت اننا رجال مقتدرون على ادارة الحكم الوطني من غير حاجة الى انتداب او حماية اجنبية، كان هذا شعورنا، وكان هذا هدفنا.
واود ان اذكر ان النجاح في القبض على المجرمين يتوقف على صدق الموظفين المباشرين واخلاصهم الذي يجب ان يقترن بحضور ضابط الشرطة بنفسه في محل وقوع الجريمة مهما كان نائباً، وان يباشر عمله، ويقيم في مراكزالشرطة ومخافرها، وان لا ينزل ضيفاً على مأمور المركز او آمر المخفر مهما كان السبب واذكر هنا حادثتين تؤيدان ما تقدم.
الحادثة الاولى: جريمة سلب مقترن بالقتل، حدثت في ليلة مقمرة في الموقع المسمى (الكند) بين القرش وتل اسقف، اذ قام مفوض المنطقة بالحتقيق، وارسل الاوراق التحقيقية مع خمسة متهمين، وظرف لطلقة مسدس وقطعة حديد من مسدس، ولما درست التحقيق ، ورأيت القطعتين اللتين وجدتا في محل الحادثة، لم أجد الدلائل الكافية لسوق المتهمين الى المحاكمة، فذهبت الى محل وقوع الجريمة، وشرعت في التحقيق عن نوع المسدس المستعمل في الجريمة، وعن الشخص الذي يحمل مثل ذلك المسدس في تلك المنطقة، فقادني ذلك الى معرفة المجرم الحقيقي، فسيق الى المحكمة، وحكم عليه بالاعدام، وافرج عن الخمسة المقبوض عليهم، لانهم كانوا قد اوقفوا لمجرد انهم كانوا مارين في تلك الطريق في تلك الليلة.
والحادثة الثانية: جريمة قتل حدثت في مرقد الشيخ عدي، واجرى مفوض المنطقة تحقيقاً، وارسل الاوراق باعتبار ان الجريمة كانت غامضة، فاخذت الأوراق، وذهبت الى مركز المفوض القائم بالتحقيق، ونمت في تلك الليلة على سطح مركز الشرطة، وبينما كنت راقداً على السطح، جاءني كاتب المركز سلمان، فقدم الي ورقتين منظمتين من رئيس عرفاء مخفر عين سفني الذي يتبع محل الحادثة، وفقا لنص المادة (105) و(105 أ) من قانون اصول المحاكمات الجزائية. وكانت تلك الورقتان كافيتين لاتهام الخادمين في مرقد الشيخ عدي، إلا ان المفوض مأمور المركز – مقابل فائدة – اخرج الورقتين المذكورتين من الاوراق التحقيقية واخفاهما. غير ان كاتب المركز سلمان عثر عليهما دون ان يشعر المفوض الذي لم يكتف باخفاء الورقتين من الاوراق التحقيقية وانما تستر على اخفاء قطع جثة القتيل، لان المجرمين كانوا قد مثلوا بجثة القتيل قطعا قطعاً ووضعوها في (كونية): كيس واخفوها في الجبل بين عين سفني والشيخ عدي. فكلفت رئيس العرفاء فتحي ان يذهب الى موقع الجريمة وجلب المتهمين من شيخ عدي، وفي منتصف الطريق توقف بهم، وخط لهم دائرة على الارض واوقفهم فيها، وحلفهم يمين اليزيدية، المسلم ينقطلي واليهودي يكفني والنصراني يدفني اذا أنا لم اتكلم الصحيح. فقالوا: إنهم قتلوه، وقطعوه، ووضعوه في (كونية): كيس واخفوه في رأس الجبل، فنظم رئيس العرفاء ورقة بافادتهم، ووقعها هو وأفراد الشرطة الذين كانوا معه وختار القرية، كما وقعها المتهمون، ثم سار بهم الى رأس الجبل، فوجدوا الجثة مقطعة داخل (الكونية): الكيس، فجلبها الى مركز الشرطة في عين سفني مع المتهمين بعد ان نظم بها ورقة مثل الورقة الاولى، وبهاتين الورقتين اصبحت الدلائل كافية لسوق المتهمين الى المحكمة. وقد نظمات قضية خاصة بحق المفوض مأمور مركز منطقة تلكيف، وسيق الى المحكمة وحكم عليه بالحبس مدة ستة أشهر وبغرامة (600 روبية)، وهكذا فان التحقيق في محل الجريمة من جهة، ونزول ضابط الشرطة في مركز الشرطة من جهة أخرى، قد سهلا اتصال افراد الشرطة الاخرين وغيرهم به، دون أن يكون ضيفاً في مساكن ضباط الشرطة ومفوضيها.
عن كتاب مذكرات عبد الجبار الراوي
بغداد - 1994.[1]