عمر علي شريف
شغلت ارجاء كوردستان وخلال عقود واحقاب عدة خلت، اهتماماً ملفتاً من لدن الرحالة والباحثين الأجانب الذين زاروا بلادنا لدوافع ومقاصد شتى فدونوا عنها حصيلة مذكراتهم وبحوثهم واستنتاجهم التي ضمتها مؤلفاتهم المختلفة التي تعد اليوم مراجع علمية وتأريخية واركيولوجية قيمة عن وطننا. ويعد الباحث والرحالة المستر كلوديوس جيمس ريج،
المقيم البريطاني في العراق خلال الفترة 1808- 1821، أحد ألمع الرحالة والباحثين والمستشرقين الذين زاروا وتفقدوا كوردستان، فكتب عنها من ناحيته بمنتهى الصدق والأمانة، ولاسيما خلال رحلته الشهيرة عام 1820 (أي قبل وفاته بعام واحد) والتي زار خلالها ربوع امارتي بابان في كوردستان الجنوبية، واردلان في كوردستان الشرقية، فخرج عنهما بذكريات وانطباعات جديدة للغاية. وها نحن ندون هنا، وبقدر ما يسمح به المجال، جوانب مختارة من تفاصيل رحلته تلك الى حدود الأمارة البابانية في ذلك العام.
لقد غادر المستر ريج تصحبه زوجته وبطانة ضخمة من موظفي ومستخدمي وحراس المقيمية البريطانية في بغداد، مقر عملهم في شهر نيسان 1820 قاصدين السليمانية بناء على دعوة الأمير الباباني محمود باشا، كان الغرض المعلن من سفرهم هو للترفيه والسياحة، لكن معلومات اخرى تفيد أن تردي العلاقات بين داود باشا (والي بغداد) والمستر ريج وسعي الأول للتدخل في شؤون الثاني، كان السبب الحقيقي للرحلة.
سلك ريج واصحابه طريق دلي عباس- كفري- طوزخورماتو- طاوق- ليلان- جمجمال حتى بلغوا مشارف مدينة السليمانية عاصمة الأمارة البابانية، حيث اقاموا في سرجنار لبعض الوقت، لغرض الراحة والأستجمام فقوبلوا هناك بأستقبال حافل من قبل اركان الأمارة البابانية وبضمنهم الأمير الباباني نفسه. وفي 10 آيار صحب عثمان بك شقيق الأمير ضيوفه الى داخل مدينة السليمانية في موكب رسمي بهيج كانت تعلوه الأعلام وتصحبه أصوات الطبول والموسيقى الصادحة.
واجمالاً لقي ريج واصحابه أبهى اشكال الضيافة الكوردية الأصيلة من لدن الأمير الباباني واسرته الحاكمة ووزرائه وسائر وجهاء السليمانية، طيلة اقامتهم هناك لأكثر من 3 أشهر وعلى مرحلتين، دامت الأولى الى منتصف تموز حيث سافروا بعده صوب كوردستان الشرقية (ضمن حدود امارة اردلان) باحثين عن طقس أبرد، ليعودوا في اواسط ايلول الى السليمانية ثانية فمكثوا فيها لغاية 21 تشرين الأول.
كانت اقامة ريج في السليمانية أخصب فترات رحلته وامتعها بالنسبة اليه، وقد تسنت له خلالها فرصة الأطلاع التام على السليمانية وجوارها ودراسة بيئتها وتأريخها وحضارتها وعمرانها وظروفها السياسية والاقتصادية والأجتماعية.
قدر ريج عدد سكان مدينة السليمانية آنذاك بعشرة آلاف نسمة وعدد بيوتها ب2144 بيتاً بضمنها 130 بيتاً لليهود و9 للمسيحيين والكلدان الذين كانوا يمتلكون كنيسة خاصة بهم و5 للأرمن، هذا فضلاً عن 5 خانات و5 حمامات الى جانب عدد من المساجد والمباني الخاصة بدار الأمارة نفسها.
والواضح ان الطابع شبه المستقل الذي تمتعت به الأمارة كان متزعزعاً ومتأرجحاً بفعل تدخلات الترك والفرس في شؤون الأسرة الحاكمة ومكائدهم ودسائسهم المغرضة التي اسهمت كثيراً في خلق التناحر والتباغض بين آل بابان وبالشكل الذي فرض جواً قاتماً على السليمانية. وبغض النظر عن ذلك الواقع الذي اشار اليه ريج، فأنه اورد وصفاً رائعاً للغاية للبلاط الباباني ومظاهر الحياة الأجتماعية السائدة في مدينة السليمانية بحفلات اعراسها ومراسيم مآتمها وفعالياتها الرياضية والترفيهية التي كادت تكون يومية كاللعب بالسيف والرماية بالبنادق وقتال طيور القبج والمصارعة والفروسية والدبكات الشعبية الراقصة وغيرها.
والواقع ان اعجاب ريج بمضيفيه الكورد بلغ حداً ملفتاً وهو يشيد بسجاياهم الطيبة وامانتهم وكرمهم المفرط وشهامتهم وشجاعتهم وبساطتهم ووفاء مرؤوسيهم برؤسائهم وقت الشدائد والنكبات. كما اشاد ايضاً بالمكانة الرفيعة والحرية الكبيرة اللتين حظيت بهما المرأة الكوردية بالقياس الى المرأة العربية والتركية والفارسية، ولم يفت ريج ايضاً الثناء على خلقها وعفتها وطهرها.
وبالقدر نفسه اشاد ريج بالحرية التي كان يتنعم بها الشباب الكورد في حضرة آبائهم وطابع الأنفتاح والبشر الذي كان يسود مجالس القوم وبضمنها مجلس الأمير الباباني نفسه.
وكان ريج دقيقاً بارعاً في وصف تفاصيل الحياة اليومية لسكان العاصمة البابانية وبعض مظاهر عمرانها المميزة ولاسيما حمامها الرئيسي الذي عده نموذجاً فريداً في نظافته وبنائه ومتفوقاً على غيره من حمامات الشام والقاهرة واسطنبول وسائر ارجاء الأمبراطورية العثمانية
وعلى العموم، عاش ريج واصحابه اياماً في ربوع السليمانية رغم المضايقات التي كانت تخلقها لهم الرياح الحارة الشديدة المسماة محلياً (رشه با- أي الرياح السوداء) ورغم الأوضاع الأليمة الناجمة عن استفحال مرض الجدري الذي أودى بحياة العديد من الأطفال وبضمنهم أحد ابناء الأمير الباباني نفسه وأبن شقيقه عثمان بك، وذلك رغم كل الأحتياطات والأجراءات التي أوصى باتخاذها ريج وزوجته في هذا المجال.
وبحسب قناعة المستر ريج، فقد كان مضيفه الأمير محمود باشا الباباني واحداً من أعظم الرجال الذين قابلهم طوال حياته، منوهاً بكرمه المفرط وسماحته الكبيرة وعقله الراجح وورعه البالغ وعطفه اللامحدود وواصفاً اياه بأنه رجل نادر المثال في الشرق كله بل وحتى في المجتمعات الراقية المتمدنة. وقد علل ريج سبب تعلق الأمير بالحكام الترك، رغم كل فظاظتهم وسلبياتهم تجاه حكم اسرته، بأحساسه الديني العميق.
كما حظي ريج واصحابه، اثناء سفرهم الى كوردستان الشرقية بحفاوة بالغة ايضاً من لدن امير الجاف كيخسرو بك الذي سبق لريج ان تعرف عليه في مدينة السليمانية، حيث هب هذا الأمير القبلي الكريم وأولاده وحاشيته لاستقبال هؤلاء الضيوف (ريج وجماعته) وهم يمرون بمضارب قبيلته الصيفية عند سهوب مريوان قرب بحيرة (زريبار) الخلابة قاصدين سنه (سنندج) وبانه، وقيل ايضاً ان ريج قد حصل في ضيافة كيخسرو بك على نسخة من كتاب (شرفنامة) للمؤرخ شرفخان البدليسي فكان ذلك مبعث سعادته الكبيرة.
واثناء عودتهم من السليمانية (في 21 -10- 1820 كما اسلفنا، اجتاز ريج واصحابه مضيق دربنديبازيان، ليواصلوا السير عبر منطقتي شوان وألتون كوبري (بردي) بأتجاه مدينة اربيل، ومنها الى أسكي كلك قاصدين مدينة الموصل التي قضوا فيها أشهر الشتاء، قبل ان يعودوا عن طريق نهر دجلة (بالكلك) الى بغداد في شهر آذار عام 1821.
بقي ذكره ان افضال الكورد وطيبتهم وشهامتهم، تركت اعظم الأثر في ذهن ريج الذي كتب عنهم بضمير حي وامانة وصدق واعداً بتخليد ذكراهم والأشادة بهم طوال العمر، لكن الأجل المحتوم لم يمهله ليحقَّق ذلك كما أراد، حيث توفى بعد عام واحد تقريباً من تلك الرحلة الشهيرة الخالدة، وشاءت قدرة الباري تعالى ان تكون نهايته بوباء الكوليرا في مدينة شيراز الأيرانية (يوم 4 تشرين الأول 1821) فدفن هناك.[1]