جميل رشيد
تُعّدُّ القضيّة الكُرديّة بكُلِّ أبعادها وارتكاساتها، إحدى القضايا الهامّة في الشَّرق الأوسط، نظراً لأنَّ الشَّعب الكُرديّ جزء لا يتجزَّأ من تاريخ وثقافة المنطقة، وساهم إلى حَدٍّ كبير في صنع حضاراته المتعاقبة، على مَرِّ العصور، وتفاعل مع محيطه الجغرافيّ بفعّاليّة لا نظيرَ لها.
إنَّ التنصُّل من حَلِّ القضيّة الكُرديّة حلّاً عادلاً؛ يُبقي المنطقة في أتّون صراعات طويلة، لا طائل منها، ولا يزيد إلا من حِدَّة الانقسامات، ويجعل الكُرد ضحايا السِّياسات الاستعماريّة والصفقات الدّوليّة، والتي لم تتوقَّف منذ أن بدأ الاستعمار الغربيّ التدخُّل في المنطقة بداية القرن المنصرم.
بمناسبة قرب مرور المئويّة الأولى لاتّفاقيّة “لوزان” المشؤومة على الكُرد، إنَّه لَمِنَ المفيد التوقّف عند بعض المحطّات الرَّئيسيّة التي تلت توقيع الاتّفاقيّة، ومعرفة كيف انعكست على الكُرد وحاضرهم ومستقبلهم، وارتباطه بما يَتُمُّ في حاضرنا من تفاهمات مشتركة بين أعداء الكُرد على إعادة إحياء الاتّفاقيّة، وإن بصيغ وأسماء مغايرة، إلا أنَّ المضمون والجوهر هو نفسه؛ التنكُّر لحقوق الكُرد، ومحاربتهم في جميع أجزاء كردستان.
فإن كانت اتّفاقيّة “سيفر” قد أقرَّت بالحقوق القوميّة للشَّعب الكُرديّ على جغرافيّة وطنه كردستان، واعترفت بها ضمنيّاً الدول المنتصرة في الحرب العالميّة الأولى، وخاصَّةً بريطانيا، وكذلك الرَّجل المريض المتهالك حينها الإمبراطوريّة العثمانيّة، وكانت حينها تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ فإنَّ التَّرتيبات الدّوليّة والإقليميّة، ومصالح الدّول الغربيّة، اقتضت الإقرار بإنشاء كيانٍ كُرديٍّ، وعلى الورق فقط، دون وضع الإجراءات والآليّات التنفيذيّة له، على عكس ما دأبت “بريطانيا العظمى” به بعد سنوات في فلسطين حينما أنشأت لليهود كياناً، وشرَّدت شعباً.
إنَّ الالتباسات والغموض الذي لَفَّ بنود “سيفر” جعلها اتّفاقيّة ملغومة، وتحمل في طيّاتها ما لا يُسرُّ الكُرد، بحيث يَسهُل الانقلاب عليها وإدارة الظهر لها ووضعها على الرَّف. الثّابت قبل أنَّ بريطانيا تعاملت معها بخبث كبير، حتّى قبلها في مؤتمر القاهرة عام 1920، الأوّل والثّاني، حيث اعتمدت على تقارير عملاء استخباراتها المنتشرين في كردستان والمنطقة، ولم تأخذ بمواقف ممثّلي الشَّعب الكُرديّ، إن كان في القاهرة أو سيفر أو لوزان وما بعدها.
فرغم موافقة الدّول المشاركة في المؤتمر على ضَمِّ معظم المناطق الكُرديّة للدّولة الجديدة، إلا أنَّها اقتطعت منها ولاية الموصل، واحتفظت بها بريطانيا؛ نظراً لاكتشافها النَّفط فيها. وهي – أي الموصل – كانت في ذات الوقت أحد أسباب تراجع بريطانيا عن دعم تشكيل الدّولة الكُرديّة، بعد أن عقدت تفاهمات واتّفاقيّات مع الدّولة التُّركيّة الجديدة التي أنشأها كمال أتاتورك على أنقاض الإمبراطورية العثمانيّة.
لم يكن عبثاً أن يتنكَّر الغرب لمطالب الكُرد في إنشاء دولتهم، ويدعم بالمقابل إنشاء دولة تركيّة، وهو موضوع جدير بالبحث والتمحيص، لفهم كيفيّة التَّعامل الغربيّ مع القضيّة الكُرديّة راهناً، لأنَّ الحاضر امتدادٌ للماضي، ولا يمكن فصمه عنه بأيِّ شكل من الأشكال. فالغرب الذي فضَّلَ إنشاء الدّولة التُّركيّة على الكُرديّة، اعتمد ازدواجيّة وبراغماتيّة مُفرطة في مقارباته من الكُرد، حيث أنَّ الطبقة السِّياسيّة التُّركيّة الوليدة، المتمثّلة بحزب الاتّحاد والترقّي، أبدى استعداده لتمثيل توجّهات الغرب وإيديولوجيّته في منطقة الشَّرق الأوسط، واعتمد أتاتورك على ميراث الإمبراطوريّة العثمانيّة وعلاقاتها مع الغرب، مع إسباغ صيغة تحديثيّة عليها، وبما يتوافق مع النَّمط الغربي في العيش والثَّقافة واللّغة وكُلّ مناحي الحياة، في توطيد ارتباط تركيّا بالغرب. في حين حافظ الكُرد على نمطيّة معينة، تكاد لا تخرج عن إطار التابوهات القديمة المتمثّلة في التمسّك بالقيم القوميّة والشَّرق أوسطية، دون الرّضوخ للمطالب والإملاءات الغربيّة في جعل كردستان أرضاً مستباحة لمطامعهم ومصالحهم، كما فعل أتاتورك، إضافة إلى عدم إمكانيّة تجاوزهم المعتقد الدّينيّ الإسلاميّ، والتي كانت عُقدة كأداءَ في طريق التوافق مع القيم الغربيّة وهضمها، لإعادة تشكيل وبناء الشَّخصيّة الكُرديّة وفق المعايير الغربيّة.
تُمثِّلُ “لوزان” معنى مختلفاً لدى كُلٍّ من الكُرد والأتراك، فهي تُعَدُّ بالنِّسبة للكُرد نكسةً وإصدار قرار الموت والمجازر وإغراق مطالب شعب يطالب بحُرّيّته في بحار من الدِّماء، في حين أنَّها بالمقابل تُمثِّل لدى الأتراك بداية عصر جديد، دفن معه كُلَّ الموروث العثمانيّ، وانطلاقةً نحو العصرَنَةِ الرَّأسمالية، بكُلِّ أبعادها وتجلِّياتها.
ردود فعل الكُرد الثَّوريّة على قرار إنكار ما أقرَّ به الحلفاء المنتصرون في الحرب الكونيّة الأولى بمؤتمر “سيفر” في “لوزان”، اعتبرها الغرب “تمرّداً” على “شرعيّة” دولة، ووافقت ضمنيّاً على إغراقها في بحار من الدِّماء، ووسمها بشتّى الأوصاف والنّعوت السَّلبيّة، “رجعيّة”، “محاولة تقسيم دولة”، وما إلى ذلك. في حين أطلقت يد أتاتورك وزمرته الحاكمة في محو الثَّقافة الكُرديّة وكُلّ شيء يتعلَّق بالهُويّة الوطنيّة الكُرديّة.
تختصر لوزان من خلال تفاصيلها جوهر الموقف الغربيّ من القضيّة الكُرديّة، فهي ساهمت إلى حَدٍّ كبير في تغييبها ووضع العقبات أمام حَلِّها، فضلاً عن تأييدها سياسات الدّول المُقتسِمة لجغرافيّة كردستان بينها. وأيّ قراءة للمواقف الغربيّة خارج هذا الفهم والسِّياق؛ إنَّما يُعتبر كمن يضع العربة أمام الحصان، ومحاولة لتبرئة ساحة الغرب من تَبِعات الويلات والكوارث التي حَلَّت بالشَّعب الكُرديّ طيلة القرن الماضي وحتّى يومنا هذا، وإضفاء نوع من المشروعيّة على سياساته حيال الكُرد.
فإن كانت تركيّا حقَّقت الشُّروط الغربيّة في إجراء التحوّل المطلوب منها داخل المجتمع التُّركيّ، واستبدل أتاتورك العمامة العثمانيّة بالقُبَّعة الغربيّة، ومنع رفع الأذان بالعربيّة، واستبدل الأحرف اللّاتينيّة في الكتابة باللغة التُّركيّة بالعربيّة؛ فإنَّ تلك الإجراءات لا تبرّر له القيام بإلحاق جغرافيا كردستان بدولته، ولا أن يقف الغرب موقف المتفرِّج من المجازر التي ارتكبها ضُدَّ الكُرد، وهو بالأمس القريب كان مدافعاً عن تأسيس دولة كُرديّة على ذات الجغرافيا، وهو يُبرز لا أخلاقيّة الغرب في التَّعامل مع قضايا الشُّعوب المقهورة.
الاجتماعات التي عقدها أتاتورك مع ممثّلي الكُرد ورؤساء عشائرهم في أرزروم وسيواس، قبل حرب التَّحرير الوطنيّة، وحاجته الماسَّة إلى الدَّعم الكُرديّ في مواجهة الاحتلال الغربيّ لمناطق الأناضول، وتنكُّره هو والنُّخبة الحاكمة في بداية تأسيس الجمهوريّة التُّركيّة؛ ولولا انتهازيّة أتاتورك وشوفينيته، رُبَّما كانت نتائج تلك الاجتماعات أساساً قويّاً كان يمكن البناء عليه في تحويل تركيّا من دولة للأتراك فقط؛ إلى دولة لجميع القوميّات والإثنيّات في تلك الجغرافيا، يمارس الكُلّ فيه ثقافته، دون إكراه، وتتحوّل إلى نموذج لدولة عصريّة ديمقراطيّة في المنطقة.
إلا أنَّ الغرب، بعد لوزان، كان حريصاً على ألا تصبح تركيّا دولة عابرة وجامعة للثَّقافات والإثنيات، بل ربطها بعجلته الاقتصاديّة والفكريّة والإيديولوجيّة والسِّياسية وأحلافه العسكرية، وفرض عليها نموذج الدَّولة التوتاليتاريّة، لتُحلق كردستان بها، وتتنكَّر لوجود الشَّعب الكُرديّ وتعتبره “أتراك الجبال”.
الانقلاب الذي أحدثته اتّفاقيّة لوزان في البُنية الفكريّة والسِّياسيّة للمجتمع الكُرديّ، والذي غدا غريباً في وطنه بفعل سياسات الصَّهر القوميّ والتغيير الدّيمغرافيّ التي مارستها الدّول المُحتلَّة لجغرافيّة كردستان، وتصفية نخبه الفكريّة والثَّقافيّة والسِّياسيّة، إنَّما وضعته على أعتاب الانقراض والخروج من العصر نهائيّاً.
صَدَّرَ الغرب نموذج تركيّا، الدَّولة الشَّرقيّة والحاملة للقيم الغربيّة والمتناغمة مع فكرها القومويّ الشّوفينيّ، إلى دول المنطقة، لتحذو دول عديدة تركيّا في إرساء أسس الدَّولة القوميّة ذات اللَّون الواحد، خاصَّة الدّول العربيّة بعد أن نالت استقلالها السِّياسيّ من الانتداب الغربيّ.
تبقى لوزان الجرح الغائر في تاريخ الكُرد وحاضرهم ومستقبلهم، والتخلُّص من تَبِعاته، ينبغي على الغرب باية أن يُغيِّرَ من مواقفه، ويُعيدَ النَّظرَ في اتّفاقيّة لوزان، هذا إن كان فعلاً صادقاً ومنسجماً مع أقواله في تبنّيه لحقوق الإنسان وقضايا الشُّعوب المضطّهدَة.[1]