بقلم: عمر إسماعيل رحيم
نقله إلى العربية: سرهد أحمد
المصادر المعرفية التي استقى منها (پیرهمێرد):
كان (پیرهمێرد) – رحمه الله - اِمرءاً فطناً واعياً، توّاقاً - كغيره من المفكرين والمثقفين - للعلم والمعرفة، بدليل استثماره أوّل فرصة أتيحت له لإكمال تحصيله الدراسي بإحدى المراكز الأكاديمية والعلمية الحديثة آنذاك في (اسطنبول)، إذ تخطّى تلك المرحلة بنجاح، وقد تحدّث الشاعر بنفسه عن تلك الفترة التي قضاها في الدراسة الجامعية، قائلاً: خرجت من السليمانية وأنا نصف متعلّم، وعدت إليها وأنا حاصل على تعليم عال. ورغم ذلك، جاءت طروحاته الفكرية، ونتاجاته الأدبية، نابعة من ملكته العقلية بالدرجة الأولى، لا على المنقولات من الكتب والمصادر المدوّنة.
وأجاد (پیرهمێرد) التحدّث بثلاث لغات، وبإتقان، وهي:
1- العربية، لغة القرآن، والدين الذي يعتنقه.
2- الفارسية، لغة حضارة امتدّت لثلاثة آلاف عام، غنيّة بمصادر المعرفة، خاصّة الأدب والعرفان.
3- التركية، إذ جاءت غالبية النتاجات الأدبية والمعرفية الغربية الحديثة آنئذ؛ مترجمة إلى هذه اللغة.
وعليه، فقد امتلك (پیرهمێرد) مفاتيح أبواب العلوم والمعارف، القديمة والحديثة معاً، إلى جانب كونه متّسماً بالذكاء والوعي والعقلانية، ذا همّة عالية، ونبوغ فريد.
لذلك شكّلت حيازة (پیرهمێرد) لنواصي المعرفة، المكتسبة والذاتية، دافعاً لتقصّي العلوم، والاستزادة منها، لأنّه كان بالأساس شخصاً رسالياً، يسعى لهدف محدّد.
ويمكننا الجزم أن (پیرهمێرد)، الأديب والشاعر، كان مهيّأ في ذاته ليبرز مفكّراً حصيفاً، وصاحب قلم سيّال، موظّفاً قدراته لخدمة دينه، وأمّته، حيث تجسّد ذلك جليّاً في عشرات المقالات، ومئات الأبيات والقصائد والحكم والأمثال التي نظّمها.
وأنا في القسم الثاني هذا، أحاول سرد بعض من مصادر المعرفة لدى (پیرهمێرد)، وإن بشكل مختصر، ضمن سياق تتّبعي لسيرة حياته، وتراثه الثرّ..
- أولاً/ المساجد والكتاتيب:
وفقاً للعرف السائد آنذاك في التربية والتعليم، التحق (پیرهمێرد) بالكُتَّاب، وقطع المراحل الدراسية - تبعاً للمنهج المعتمد في كوردستان - لغاية كتاب (السيوطي)، ونظراً لنبوغه وتفوّقه، بلغ مرحلة ال(مستعدّ)* في سنّ مبكّرة، وهو لم يتجاوز ثماني سنوات. ويذكر عنه، كدليل على نبوغه المبكّر هذا، أنّه ساجل أستاذه بآرائه حول شعر غزل عفيف ل(حافظ)، ما لفت انتباه عمّه (حسن)، وكان هو الآخر شاعراً فحلاً جواداً، فآثر نقله إلى كُتَّاب ثانٍ.
وباعتقادي أن (پیرهمێرد) لم ينهل العلم فقط من الدروس المنهجية المقرّرة، بل استزاد ما كان يبغيه من مصادر المعرفة الأخرى التي توّفرت لديه، حتى إنّ والده أهداه - وهو ما زال صبيّاً - مجموعة كتب قيّمة، اقتناها أثناء زيارة له إلى (طهران).
ومن الواضح أن (پیرهمێرد) جمع في الكتاتيب المسجدية ثروة علمية لا بأس بها، أيْ بمعنى أنّه بالإضافة إلى (القرآن الكريم)، فإنّ مناهج المدارس الشرعية في كوردستان شكّلت أولى مصادر المعرفة لدى أديبنا الراحل.
- ثانياً/ التكايا والخانقاهات:
إلى جانب التحاقه بالكتاتيب المسجديّة، وولعه بالتحصيل العلمي، تعرّف (پیرهمێرد) في مرحلة عمرية مبكّرة أيضاً على التكايا والخانقاهات: خانقاهات مشايخ النقشبندية في (بيارة)، وتكايا مشايخ آل الحفيد، وقد أشار إليها شخصيّاً في مذكّراته.
ولا شك أنّ هذه الأماكن، إلى جانب كونها صروحاً كبيرة للعبادة والذكر والعرفان، كانت، في الوقت نفسه، مراكز زاخرة بالأدب والعلم والمعرفة، ضمّت بين جنباتها مجالس وندوات عامرة بالنقاشات الهادفة والحكم المفيدة.
لقد تمكّن (پیرهمێرد)، بوعيه ونبوغه، أن يستقي من هذه المراكز جملة علوم، محوّلاً إياها إلى مصدر من مصادر المعرفة، يستزيد منها.
- ثالثاً/ مضايف الوجهاء، ومجالس البكوات:
انحدر (پیرهمێرد) من أسرة مرموقة، إذ كان والده رئيساً للوزراء في عهد أحمد باشا بابان، كما كان عمّه شاعراً بارزاً، وهذه الميزة جعلته، وأسرته، في اختلاط دائم مع العائلات الكبيرة، وبكوات عشيرة الجاف، ذات الحظوة الاجتماعية، والمكانة الوطنية، الذين برز منهم الكثير من الأدباء والشعراء، بحيث شكّلت مجالسهم بيئة مؤاتية ليشبّ (پیرهمێرد) فصيح اللسان، ملمّاً باللغة الكوردية، وآدابها، حافظاً لمئات الحكم، والأمثال، ناهيك عن كونها ميداناً للتمرّن على الحوار، والتمرّس على حلّ المشاكل الاجتماعية، كما أكسبته معرفة بسايكولوجية الأفراد، والجماعات، ونضجاً عقلياً أهلّه للإصلاح الاجتماعي.
- رابعاً/ القصائد والأدبيّات الكوردية:
وَلِعَ (پیرهمێرد)، منذ نعومة أظافره، بالأدبيّات الكوردية، فكان يحفظ قصائد لكبار الشعراء الكورد، أمثال: (نالي)، و(سالم)، و(محوي)، و(مولوي)، و(بيساراني)، و(حاجي قادر كوية)، ويدوّن ما حفظه من تلك القصائد في كشكول كبير، كان يعيره - في أحايين كثيرة – لأصدقائه ومعارفه.
ولم يكتف (پیرهمێرد) بحفظ قصائد لكبار شعراء الكورد، إنّما حاول ترجمتها إلى لغات أخرى، لتطّلع عليها الشعوب الأخرى، وتتعرّف على التراث الأدبي الكوردي.
ونستطيع القول إجمالاً: إن اشتغال (پیرهمێرد) بحفظ القصائد، وترجمتها، مثّلت له معيناً معرفيّاً آخر لا ينضب.
- خامساً/ العرفانيّات:
استفاد (پیرهمێرد) كثيراً من العرفان والأدبيّات العرفانيّة عموماً، كوردية كانت أم فارسية أو تركيّة، لانسجامها مع حياة الزهد التي عاشها، فقد كان بسيط المعيشة، عزيز النفس، لا يكترث للأمور المادية، وبخلاف ما أشيع عنه من حبّه الجمّ للطعام، فلم يعبأ لنوع الغذاء الذي كان يتناوله، وكان يجود بما عنده لمن يراه أحوج إلى ذلك منه.
حياة الزهد في ذاتها؛ تجعل المرء رقيق القلب، صافي البال، عميق التفكير في الطبيعة والكون والتاريخ، وهذا ما تمتّع به (پیرهمێرد) على المستوى العملي. أمّا نظرياً، فقد قرأ جلّ النتاجات العرفانية ل(مولانا خالد النقشبندي)، و(مولوي)، و(مولانا جلال الدين الرومي)، و(حافظ الشيرازي)، و(سعد الشيرزاي)، و(سعيد أبو الخير)، كما ترجم بعضاً منها إلى اللهجة الكورديّة السورانيّة، وسنأتي على ذكرها لاحقاً.
- سادساً/الحكايات الشعبية، والفلكلور الكوردي:
قطف (پیرهمێرد) من حقل الحكايات، والأمثال الشعبية، والفلكلور الكوردي، الشائع حينذاك، ثمرات العلوم، بأصنافها، ممّا زادته ثراءً معرفياً، حيث تمكّن بذكائه من توظيف ذلك الفلكور فنيّاً وأدبيّاً، وإعادة صياغته وإنتاجه بحلّة جديدة.
و(پیرهمێرد) بهذا العمل الأدبي قريب الشبه من (مولانا الرومي)، الذي مزج بين حكايات شعبية، وإرشادات قرآنية، وحكمة من خبرته، في صياغة مثنوية فريدة.
ولا يخفى أنّ إحدى الأعمال الأدبية الكبيرة، والمميّزة، لأديبنا، هي (الأمثال والحكم)، التي تتخطّى ال(6440) بيتاً شعريّاً، كلها تنبع عن الحكم والكلام المنسّق الشائع في التراث الأدبي الكوردي الشفاهي حصراً. وعن هذا يقول (پیرهمێرد): مجلتي تحوي سبعة ألوان من المعلومات: علمية، فقهية، أدبية، تاريخية، فلسفية، فكاهية، اجتماعية، وتضمّ كذلك 20 ألفاً من الأبيات الشعرية، والأمثال، كلّها من وحي أفكاري.
- سابعاً/ الأدب الفارسي:
كان (پیرهمێرد) يجيد اللغة الفارسية بإتقان، واطّلع على ما وقع تحت يديه من مصادر الأدب الفارسي مثل: (إسماعيل نامه)، ومروراً بدوايين (حافظ الشيرازي)، و(سعد الشيرازي)، وبصورة عامة الأدبيات الفارسية المتداولة في ذلك العصر. ولا شك أنّ (پیرهمێرد) بعد أن اندمج بدنيا العرفان - كما سنأتي على ذكره لاحقاً-، فإنّه سعى وراء النبع الذي يروي به ضمأه المعرفي.
ومعظم الكتّاب الكورد، في تلك الفترة، كانوا على إلمام تامّ بالفارسيّة، وكتبوا شطراً من نتاجاتهم بهذه اللغة الحيّة.
- ثامناً/ الاختلاط بالمنظّمات المدنيّة، والسياسيين:
اختلاط (پیرهمێرد) بالمجاميع الثقافية، والتعامل مع الشخصيات ذات الانتماءات الفكرية والأدبية المختلفة، وتواصله مع روّاد السياسة، والمراكز الاجتماعية، والملتقيات الفكرية، هيّأت له فرصة الدخول في حوارات عميقة، وسجالات ساخنة، ما أكسبه نضجاً معرفيّاً، وثروة فكرية، وفي هذا الوسط تلقّحت آراؤه، ونظرياته، بحيث أنتجت مقولات جديدة.
- تاسعاً/ الأدب التركي:
اختلط (پیرهمێرد) بالمراكز الفكرية، والمنتديات الأدبيّة، التركيّة، خلال الفترة التي قضاها في (اسطنبول). وهذه المدينة التي كانت عاصمة الخلافة العثمانية؛ والتي تجمع بين شطري قارتين، مثّلت تجسيراً بين ثقافتين مختلفتين، ونقطة تلاقٍ بين مدارس فكريّة، وأدبيّة متباينة، وصرحاً جامعاً لأحدث نتاجات الكتاب والأدباء العالميين؛ مترجمة إلى اللغة التركية.
وفي تلك الحاضرة الكبيرة نال شاعرنا قسطاً وفيراً من العلم بأدبيّات الشعوب الأخرى. وإلى هذا المصدر المعرفي أشار (پیرهمێرد) في مقدّمة ترجمته لديوان (مولوي) قائلاً: عاينت الكثير من أدبيات أقوام مختلفة، وطالعت نتاجات لمشاهير عالميين، لكنها جميعاً لم تكن بحماسة روح المولوي.
وفي هذا السياق، يمكننا الإشارة إلى ترجمة (پیرهمێرد) لرواية (عازف الكمان)، من ناحية. ومن ناحية أخرى، الإشارة، إلى تأثّره الكبير بالأديبين التركيين (نامق كمال) و(عبد الحق حامد).
- عاشراً/ الفكر والفلسفة الغربية:
بعد ذهاب (پیرهمێرد) إلى (اسطنبول)، ودخوله كليّة الحقوق، باتت أبواب الاطّلاع على الفكر والفلسفة الغربيين مشرعة بوجهه، خاصّة الأفكار السياسية، والقواعد القانونية. وعادة ما كان يشير أديبنا في ثنايا مقالاته، التي نشرها في صحيفتي (ژیان) و(ژین)، إلى التنظيرات الفلسفية والسياسية لمفكرين غربيين كبار، أمثال: (توماس هوبز)، و(جون لوك)، و(جان جاك روسو)، و(مونتسكيو)، وأحياناً يوجّه إليهم سهام النقد، داحضاً بعضاً من حججهم الفلسفية.
ومن الطبيعي أن تشكّل الأفكار الغربية، هي الأخرى أيضاً؛ مصدراً معرفيّاً ل(پیرهمێرد).
التزام (پیرهمێرد) بالإسلام والقيم العليا
شبّ (پیرهمێرد)، بوصفه فرداً ناضجاً من أفراد المجتمع الكوردي، ومن سليل عائلة محافظة، على الالتزام بالدين الإسلامي الحنيف، والتمسّك بالقيم العليا، كما نشأ على التقيّد بالأعراف والتقاليد الكوردية الأصيلة، والابتعاد عن مسبّبات إهدار كرامة الإنسان، والنأي عن كلّ ما يحطّ من قدره ومكانته.
ولا شك أنه، كغيره من المؤمنين، لم يكن معصوماً من ارتكاب الذنوب، ولا محميّاً من الوقوع في الخطأ، أو الفهم الخاطئ، وهذه طبيعة البشر، باستثناء الأنبياء والرسل عليهم السلام، الذين عصمهم الله من كلّ ذلك.
إن التزام (پیرهمێرد) بأركان الإسلام، والعبادات، وخضوعه للأحكام الشرعية، كأيّ مسلم، هو أمر غير قابل للجدل بتاتاً، ولا مجال لإثارة أيّ شكوك حوله. وما يشاع عنه من عدم أدائه للصلاة، أو أن سفره الى الديار المقدسة لم يكن بهدف الحج، بل للسياحة والاطلاع، أو انتقاده لشعيرة ذبح الأضحية، متذّرعين في ذلك بمقولته: (حجّ القلب أولى عندي من حجّ الكعبة).. نعم، لقد قال (پیرهمێرد) هذا الكلام، لكن التفسيرات التي توحي بغير المعنى الذي توّخاه ليست صحيحة إطلاقاً، لأنه من الإجحاف بحقّ هؤلاء الشعراء والأدباء، الذين هم في نفس الوقت قامات فكريّة وفلسفيّة، الركون إلى اجتزاء نصوص محدّدة من مجمل نتاجاتهم الفكرية والأدبية، وفهمها في غير سياقها الصحيح. وهو – في الوقت نفسه – خطأ منهجيّ كبير.
وإني لأرى مقولة (پیرهمێرد) قد جاءت ضمن فهمه للإسلام فهماً مقاصدياً، إذ لم يكن أديبنا ضحل المعرفة، ولا سطحيّ الفهم، كما لم يكن مسلماً تقليدياً، حتى يطلق الكلام على عواهنه. ف(پیرهمێرد)، النابغة والأديب والفيلسوف والمصلح الاجتماعي، لم يرد عنه - على الإطلاق - الالتحاق الأعمى بالتيارات الفكرية الجامدة، والممارسات الدينية التقليدية الشائعة آنئذ.
وبموازاة توجيهه للانتقادات، فقد سعى (پیرهمێرد) أيضاً، إلى توعية الناس، وتوجيه سلوكياتهم الوجهة المقاصدية الصحيحة، فلا عجب أن تعرّض لاتهامات بالمروق عن الدين، من قبل أولئك المتدينين التقليديين.
وأعتقد أن أصحاب هذه الاتهامات على صنفين:
- الأوّل: أشرت إلى هذا الصنف آنفاً، وهم أصحاب التوجّه التقليدي في التديّن، المتمسّكون بالعادات، والتقاليد. ولم ينجرّ (پیرهمێرد) في تيار التقليد، والتديّن التقليدي، بل عارض الصورة التقليدية، السائدة، وتناولها بالنقد تارة، وبمحاولة تقديم الصورة الصحيحة تارة أخرى، كما أنه عمل على توعية الناس، وتوجيههم.
- الثاني: وهذا الصنف مدفوع إيديولوجياً، وهم المتصيّدون لبعض الجمل الضبابية، والأبيات الشعرية غير المباشرة في معانيها، تقصّد بها الشاعر انتقاد بعض المظاهر الاجتماعية السلبية، والممارسات الغريبة، المتذّرعة بالتديّن، والمتحجّجة بالمحافظة على الأعراف.
وهؤلاء قد يرومون من وراء هذه الاتهامات؛ ضمّ الشاعر إلى جانبهم، والاستقواء بطروحاته، وشهرته، من جهة، ومن جهة أخرى، إذكاء نار العداوة، والحرب، بين (پیرهمێرد) وجبهة التقليديين، أو – على الأقلّ - لإضعاف ثقة الناس ب(پیرهمێرد)، بوصفه حائداً عن الدين، وهو ما يصبّ في مصلحتهم في النهاية أيضاً.
كان (پیرهمێرد) عارفاً ربانيّاً كبير القدر، بعيد الصيت، محبّاً لله، وملتزماً بتعاليمه، وقد تجلّى ذلك في مجمل نتاجه الأدبي والفكري. ويمكننا إجمال هذه الحقيقية في النقاط أدناه:
- أولاً/ الاعتزاز بعبوديته لله: بان ذلك في سلسلة قصائده الخالدة، المعنونة: (پیری پیران – كهل الكهول)، فبعد أن حمد الله وأثنى عليه، عبّر عن اعتزازه بالعبودية لخالقه، وأنّه يرتعد خشية أمام عظمته، ويتلذذ بالصلاة، ويدعوه سبحانه وهو مختف عن أعين الناس؛ والراحة واللذة التي يشعر بها أثناء تلاوته ل(الحمد)، لغاية (إيّاك)، ويدعوه سبحانه أن يمنحه الاستقامة، والإخلاص، والرضا بالقضاء. وهذا بيان لأجواء السعادة التي كان يعيشها (پیرهمێرد) من عبوديتة لله تعالى، إذ يقول:
أنت وحدك ربّ الأرض والسماء
في كلّ مكان؛ حاضر، وملاذ
أنا أعتزّ بعبوديّتك
أرتعد خشية أمام عظمتك
ما ألذّ وقوفي بين يديك
حين أقوم مُؤدّياً صلاتي
أتلو (الحمد)، متوجّهاً إليك
أحمدك في سريرتي
حين أبلغ تلاوة (إيّاك)
يمتلىء قلبي نوراً في حضورك
لأني وأنا واقف في حضورك
قلبي يغتسل في بحار الأنوار
... ....
إلﮪي، اجعلني واعياً بنفسي
عندما أنادي يا الله، لا أبغي سواك
لا أن يكون دعائي على لساني فحسب
وفي قلبي يعشعش بغض الناس
اجعل قلبي يطفح بالرضوان
بحيث يسعدني كل ما يأتي به القدر
- ثانياً/ الالتزام بالعبادات، وأداء الفرائض:
ثبت عن (پیرهمێرد) أدائه لفريضة الصوم، والتزامه بأداء صلاة التراويح في مسجد جدّه (همزة الآغا)، وهناك كان يؤدّي صلاة وخطبة العيد، ويتناول طعام العيد مع عامّة الناس.
وفي العام الذي أصيب بالمرض الذي توّفي به، لم يستطع (پیرهمێرد) الصوم، وقد قال عن ذلك: لم أصب بالمرض في رمضان طيلة حياتي، فكيف ما كانت صحتي كنت أصوم.
وفي مقالة له بعنوان: (بكاء لأجل رمضان)، نشرها في صحيفة (ژین)، العدد 973، ذكر فيها الآتي: عمري 84 عاماً، صمت خلالها 74 رمضاناً، باستثناء هذه السنة، لقد حلّ شهر رمضان غريباً، لم أستطع أن أوفّيه قدره، حقّاً أريد أنْ أجهش بالبكاء.
وعن التزامه عموماً بفريضة الصيام؛ أنشد شاعرنا مرتجلاً قصيدة يقول فيها:
شﮪر رمضان في عزّ الصيف
أصوم حتّى ولو كان حرّه كنار جهنم
والصائم المغشيّ عليه من شدّة الحرّ
ستفتح له أبواب الجنّة
حين يعلو الخلوف شفاه الصائمين
ستنزاح الحجب بينهم وبين الله
وحين تحافظ على جوارحك
يمكنك القول إنّك صائم حقّاً
إذا كنت جائعاً، وأطعمت فقيراً
حينذاك سيكون إيمانك مثمراً
الصوم ﮪو المسار إلى الرحمن
إنّه الوحيد الذي لا رياء فيه
وفي هذه القصيدة إثبات واضح وصريح على بيان (پیرهمێرد) للمقاصد من الصيام، والتزامه بهذه الفريضة؛ عملاً لا قولاً فقط.
ويستثنى من ذلك فريضة الزكاة، لأن (پیرهمێرد) كان يتصدّق بجلّ ماله، وينفق على المحتاجين بسخاء، ما تعذّر عليه ادّخار المال الذي تجب فيه الزكاة.
وبشأن الركن الخامس، فقد تمكّن من أداء الحجّ وهو في سن الثلاثين، ضمن بعثة على نفقة الخليفة العثماني عبد الحميد الثاني.
- ثالثاً/ التفكّر الدائم في الله، والتوكّل عليه:
- كان (پیرهمێرد) دائم التفكّر في الله، متوكّلاً عليه في خطواته ومواقفه كلّها، مستشعراً بمعيّته، متيقّناً بخضوع كلّ شيء لمشيئته سبحانه، ومستجيراً به من ملمّات الحياة وكروبها. وقد وردت في مطلع قصيدته عن تأسيس الجمعية العلمية؛ أبيات في التوكّل على الله، قال فيها:
رافقنا الحقّ بتوفيقه في ﮪذا العمل
يداً بيد، لا شك يمنح الله القوّة
وفي قصيدة أخرى، نسجها بمناسبة صدور صحيفة (ژین)، قال في مطلعها:
(بسم الله) بدأنا بقلب صاف
صفّدت الشياطين جميعها
وهذه الأبيات الآنفة؛ دلالة شاخصة على إيمان (پیرهمێرد) الراسخ بوحدانيّة الله تعالى، وباليوم الآخر. وسنفصّل القول في هذا الجانب لاحقاً.
- رابعاً/ رفقة القرآن:
اتّخذ (پیرهمێرد) القرآن رفيقاً دائماً، حيث كان يقرأه، ويتدبّره باستمرار كلّ ليلة، ما أكسبه دراية جيدة بمعانيه وألفاظه.
وقد كتب عالم الدين والأديب الكوردي المعروف الشيخ (علاء الدين السجادي)، في مؤلّفه الشهير (تاريخ الأدب الكوردي)، واصفاً (پیرهمێرد) بأنّه: كان يعيش في منزل أسماه (قلندرخانة)، يجتمع فيه كلّ مساء لفيف من أصحاب الأقلام الثقافية المبرّزين، وما إن يودّع الضيوف، بعد هجيع من الليل، حتّى يعمد إلى إسباغ الوضوء، وإقامة الصلاة، وتلاوة القرآن، ومن ثمّ ينكبّ على كتابة مقاله الافتتاحيّ لصحيفته.
لقد أثّرت رفقة (پیرهمێرد) للقرآن؛ على نحو واضح في تصرّفاته ومعنوياته، كما انعكست على مقالاته وقصائده جلّها.
ولو تفرّسنا في معظم نتاجاته، لاتّضح لنا اعتماده على الآيات القرآنية في تدعيم مقالاته التي حرّرها، مهما كان موضوعها. وأنا شخصياً قمت بإحصاء بعض تلك المقالات المدعومة بآيات قرآنية، فوجدت منها الذي لا يتجاوز الصفحة الواحدة - على سبيل المثال – يحوي على اقتباس لحوالي خمس إلى ست آيات قرآنية. (في إحدى مقالاته المعنونة (الإسلام والديمقراطية)، وهي صفحة واحدة فقط، نشرها في جريدته (ژین)، العدد(650)، سنة 1941، نجده يستشهد بسبع آيات قرآنية، وحديث واحد).
وبالنسبة لحجم التأثير الذي تركه القرآن في معنويات (پیرهمێرد)، فيبدو كبيراً، ونلمس ذلك في السطور التي صاغها بمقال نشره في (ژین)، العدد 971، سنة 1949، قائلاً: لست بعالم دين حتى أبيّن فضائل القرآن، لكنّي أرى أثر القرآن في نفسي، وقد جرّبت حلاوته، حلاوة تفتقدها أدبيّات الدنيا كلّها، وأنا الآن في كهولتي؛ عرفت الله، حين أقوم بقراءة القرآن، أشعر بصفاء روحي، واكتساب قوّة إيمانية، وكأني أخاطب الله وأنا في حضوره. وختم يقول: أنا الآن مستغن عن جميع الكائنات، وقد منحني الله كلّ ما تمنّيته، كلّ ذلك من فيض القرآن.
وأمّا الموضوعات الشعرية، والأمثال، والحكم، فقد شغلت الاقتباسات القرآنية حيّزاً كبيراً فيها، تثبت صدق توجّه (پیرهمێرد) الإيماني، في الانشغال بالقرآن، والانتفاع به، والاستدال بالآيات في مكانها اللائق.
ففي قصيدة رباعية، نراه يصف أربعة أصناف من طبائع البشر، قائلاً:
تفضّل (نالي) بالقول:
اثنان لا يتأدّبان
ذاك ينبح، وﮪذا يسبّ
{وخلقناكم أطواراً} واضحة
أحدهما صامت، والآخر شرس..
وفي قصيدة أخرى، يصف (پیرهمێرد) إرادة الله المطلقة، الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، قائلاً:
أنا متيقّن أنّك موجود في كلّ مكان
ترانا ولا نراك، فلا تظهر ذاتك لأحد
أنت موجود منذ الأزل، دون مكان وزمان
تدبّر بقدرتك شؤون العالمين
قد ذكرت {ما أصابكم}
ﮪي إرادتك التي لا رادَّ لﮪا..
وفي أحدى الأمثال والحكم، يهجو النفاق والتزلّف:
ﮪناك عدوّ بلسان صديق
ﮪو خنّاس يتقمص دور الآدمي
وفي حكمة أخرى يدعو إلى الإعراض عن اللغو:
إنّه أمر الله، ومن كبرى الأحكام
{وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراما}
بطهارة القلب تكون نجاة النفس
وإنْ صادفت سوءاً، فالإحسان أولى دائماً..
وبشأن تفاعل سيّدنا أبو بكر الصديق مع الآية [الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا] المائدة :3 يقول:
حين نزلت {أكملت لكم دينكم}
ذرفت عينا صاحب الغار الدموع
وقال ﮪذا نعي رسول الله
كلّ كمال يتبعه نقص وزوال..
وعن ارتباط السلطة، والطغيان، بالكبر والبطر لدى الإنسان، قال:
{إن الإنسان ليطغى} واضحة
إنّه تصرّف أعوج، لفردٍ طائش
برز (هتلر) في الميدان بغروره
ينادي في الناس {أنا ربّكم}..
وحول السعي في طلب الرزق، والتوكّل على الله، والفهم المتوازن للرزق، أنشد (پیرهمێرد) قائلاً:
صحيح أنّ كُلَّ شيء بيد الله
لكنْ مَنْ لا يسعى فإنّه سيتأخّر
لم يأمر الله بالقعود والجلوس كالأغوات
فحالك لا يتغيّر ما لم تسعَ وتتحرّك
{وأنْ ليس للإنسان إلا ما سعى}
في البدء السعي، وبعده الدعاء..
وبشأن عجز الإنسان عن إدراك حكمة الله في كلّ أفعاله وأقداره، فيظنّ - بحساباته البشرية - أنّ الله بتقديره أمراً ما لعباده؛ أنّه نوع من الظلم، والعياذ بالله، وهو ما يسبب لدى البعض الوقوع في الضلال والحيرة. فيردّ (پیرهمێرد)، بموقف المؤمن، وبالمنطق القرآني؛ في قصيدة اقتطفنا منها الأبيات التالية:
الشيطانُ أغوى كثيراً مِنَ الناس
ولكن لا أحد مثل (هتلر) أشعل حروباً طاحنة
بعضهم تحيط بهم ذنوبهم مثل الدروع
فلا يخترقﮪا حتى دعاء المظلومين
العاقل يحتار أمام أحكام الله، وأقداره
و{لا يُسأل عمّا يفعل} آية من القرآن
فهو يقضي على (نمرود) بذبابة
وتسيل دماء الملايين على أيدي هتلر..
وفيما يتعلّق بأثر العلم في تنمية المجتمع الإنساني، وإنعاش الحياة، فقد شبّهه (پیرهمێرد) بنزول المطر في الشتاء، واخضرار الأرض في فصل الربيع، مستشهداً بالآية الكريمة [يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا]، قائلاً:
يحمل البشارة بحلول الربيع، وتفتّح براعم الزهور
كآية الإحياء تبعث الأمل في القلوب
الليلة، تتفتّح آمال وطننا تفتّح الأزﮪار
الشعب كلّه أمل أن يتقدّم بالعلم..
وفي بيت شعري آخر، يصف (پیرهمێرد) الشهداء في سبيل الله، الساعين لتحرير الوطن والشعب، مستشهداً بالآية القرآنية [وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ] آل عمران (169).
أوصيت (الرياح) أن تقول لهم: لم هم يحزنون؟ !
إنهم ليسوا مثلنا، فﮪم أقرب إلى الله منّا..
وفي بيت شعري آخر يصف معجزة الإسراء والمعراج:
قال مولوي: بالعلم اليقين
صار رحمة للعالمين
أسري به من المسجد الحرام
إلى المسجد الأقصى المقدّس
ﮪذا نصّ صريح من القرآن
لا ينكره سوى عديم الإيمان..
وفي استعارة شعرية فريدة، ونادرة، ضمن سلسلة قصائد (كهل الكهول)، يشبّه (پیرهمێرد) الأهواء الدنيوية المعششة في القلوب ب(الباطل)، فإذا جاء (الحقّ)، زهق (الباطل)، والحقّ هنا محبّة الله التي مناطها القلوب، وليست الأهواء:
تالله أنت الذي لا يحيط به مكان
أنت في القلب حللت مشرّفا
هيّا، على جميع الموجودين المغادرة
الحقّ والباطل ضدّان لا يجتمعان
[وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ]
ببزوغ الحقّ، اكتسب القلب النقاء..
- خامساً/ محبّة الرسول في مرآة قصائده:
لقد تمكّنت محبّة الرسول من قلب (پیرهمێرد)، حتّى بلغت مرتبة الشوق للقياه، فكان لا يفوّت فرص المشاركة في إحياء ذكرى المولود النبوي الشريف، أو حضور مجالس المناقب النبويّة. والمتتبّع لصفحات حياة شاعرنا، سيصاب بالذهول من حجم الاهتمام الذي أولاه لسيرة الرسول، وبيان مناقبه عليه الصلاة والسلام.
وإني لأتعجّب من تجاوز الباحثين، والنقّاد، لهذا الجانب من حياة (پیرهمێرد)، وأعتقد أنّ محاولات بئيسة قد بذلت لرسم صورة مغايرة تماماً لما كان عليه شاعرنا؛ في مخيال قرّاء ومثقّفي كوردستان، إذ لم تكن مناسبة (المولد النبوي) أقلّ أهميّة من مناسبة (نوروز) لدى (پیرهمێرد)، فكان يحتفي بالمناسبتين في آن واحد؛ إذا تصادف حلولهما معاً في نفس الشهر من تلك السنة.
ففي مقال نشره في صحيفته (ژین)، العدد 738/ نيسان 1944، قال: هذا العام حلّ نوروز بالتزامن مع حلول ذكرى مولد رسولنا الحبيب. لقد شاركنا، والسعادة تغمرنا، في احتفاليّة حاشدة أقيمت بأرض فلاء، بناءاً على رغبة المتصرّف، حيث أنُشدت المناقب، ووصلات المديح، من قبل فرقة مختارة، وعلى أنغام تشرح القلوب، وتبهج النفوس؛ أنشد كلّ من الملا محمد أفندي، والحاجّ الملا مصطفى كوردة، منقبّة ألهبت مسامع الحضور، نظّم أبياتها الشيخ محمد خال، فكأنّ أنوار الرسول (صلى الله عليه وسلم) أبصرناها تشعّ فوق رؤوسنا.
كما وأشار (پیرهمێرد) في مقاله إلى أنّ الاحتفالية تخلّلتها مأدبة غداء كبيرة، حوت أصنافاً من الأطعمة، أعدّت للحضور، تيمّناً بذكرى المولد، وابتهاجاً بنوروز.
وفي مقال آخر نشره في الصحيفة ذاتها، العدد 779/ سنة 1945، تحدّث أديبنا عن تكرار حلول ذكرى المولد النبوي الشريف مع مناسبة نوروز، في شهر آذار من العام نفسه، ولم تكن تفصل بين المناسبتين سوى أيام قلائل، فأجمعوا على تنظيم احتفالية في يوم واحد، وهو يوم الجمعة، باعتبارها عطلة، حتى يتسنّى للجميع - خصوصاً من ذوي الارتباطات بدوام الدوائر الحكومية - حضورها. ويشير في المقال أيضاً إلى الاستعدادات التي اتّخذوها بشأن إطعام الحضور، ومنها إعداد حوالي ألف وخمسمائة قرص من الخبز، في كل منها خمسة أعداد من ملفوف (الدولمة)، ووضع اثنا عشر (سماوراً) ، بعدد أشهر السنة..
وتأكيداً على ما أوردناه من محبّة (پیرهمێرد) للرسول صلى الله عليه وسلم، يحضرني أن أنقل واقعة عاشها الدكتور محسن عبد الحميد؛ ذكرها لي حين كنت برفقته في زيارة إلى السليمانية، وقد أخبرته ابتداءً أنني منشغل حالياً بتأليف هذا الكتاب (پیرهمێرد.. عمق الفهم وشمولية التصور)، فأثنى على مجهودي، وقال: كنت صبيّاً في 13 أو 14 من عمري، تلميذاً في الصف الأول الثانوي، أقيم احتفال بمناسبة ذكرى المولد النبوي، في جامع (كاك أحمد الشيخ) بالسليمانية، وكان (پیرهمێرد) جالساً في محراب الجامع، وكعادة الصبيان؛ كنت أطلّ برأسي بين الفينة والأخرى لرؤيته، وأتحرّك ببطء وسط الجموع، محاولاً الوصول إليه، وقد تحقّق ما أصبوا إليه، وصلت لعنده حتى جلست بجانبه تماماً، سلمت عليه؛ فردّ السلام، شاهدته عن قرب وهو يصغي بخشوع وتفاعل مع مقاطع باللغة العربية أنشدها شقيقي الأكبر (نظام الدين عبد الحميد) تيمّناً بالمناسبة، وحين انتهى شقيقي الشاب، استدار إليه (پیرهمێرد) متوجّهاً بالقول: لا فضّ فوك، جعلت فداك... هكذا قال (پیرهمێرد) لمن كال المديح للرسول، فكيف بالرسول ذاته.
وعن هذه الاحتفالية، تحدّث (پیرهمێرد) بنفسه عنها، في مقال نشره في صحيفته (ژین)، العدد 951، قائلاً: أنشد نظام الدين؛ بشكل جميل تلك الكلمات العربية التي صاغها بنفسه... حقيقة كنت أطرب لسماع تلك الكلمات التي أنشدها باللغة العربية، وبإحكام، ذلك الشاب الرزين.
وفي عدد آخر من صحيفة (ژین)، نشر (پیرهمێرد) مقالاً تحدّث فيه عن نفسه، قائلاً: يحسب پیرهمێرد أنّ الله تعالى أحسن خاتمته، ها هو ذا في جامع جدوده يقرأ كل سنة منقبة نبويّة. كان يعتقد أن العام الماضي هو آخر عام له، وأنّه سيفارق الحياة، لذا ناشد الجميع الصفح، وحدّد مكان قبره الذي سيضمّه في تلّة (مامه ياره)، وأنشد بيتاً:
إنْ متّ فخذوني إلى الصوفيّ الحبيب هناك حيث الحبيب ظاهر لي
لكن لا زال في العمر بقيّة، إذ جعل الله له نصيباً في إحياء ذكرى المولد لهذا العام، حيث سيصادف ذكرى المولد النبوي؛ ليلة الاثنين، الثاني عشر من شهر كانون الثاني، في بدايات السنة الميلادية الجديدة، أيْ متزامناً مع عيد ميلاد السيد المسيح، وكالعادة ستقام منقبة في مسجد جدّه (حمزة الآغا)، وستتلى المدائح من (المولدنامة) الكوردية للشيخ (محمد خال)، ولن توجّه أيّ دعوات رسمية للحضور، من رغب بالحضور فليتفضل، ستناله الفيوضات والبركات.
وما سبق ذكره؛ تأكيد على حجم الأهميّة التي أولاها (پیرهمێرد)، عمليّاً، لإحياء مناسبة ذكرى المولد النبويّ كلّ عام. هذا من جانب، وعلى الجانب الآخر؛ الجانب الوجداني، جاءت قصائده في مستوى عال من التعلّق القلبي، والمحبّة الخالصة للرسول، فها هو ذا يقول:
يا رسول، يا حبيب الله
أنت الخاتم، لا نبيّ بعدك
تتابع الرسل واحداً تلو آخر
لم تختتم بأيّ منهم النبوّة
قبل أن يصطفي الله أبانا آدم
كنت المصطفى، لكنّك كنت مغيّبا
بك ازدانت الخليقة والأفلاك (لولاك)
ب{أَلَمْ نَشْرَحْ} شرح الله صدرك
...
{وَالضُّحَى} قسمٌ فاض بنور وجﮪك
{وَاللَّيْلِ} لطُرّة سواد شعرك
...
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى} مسراك
{قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} مأواك
...
أنت نسلُ نبيّ الله إبراﮪيم
مِنْ كوردستان ظﮪرت إرﮪاصاته
جدّكم الأكبرُ، مفخرةُ للكورد
ﮪنا مكانه، وﮪا ﮪنا مقامه
- سادساً/ اجتناب المحرّمات:
لم يقرب (پیرهمێرد) المسكّرات بتاتاً، رغم شيوع تعاطيها في تلك الحقبة، بشكل واسع، في أوساط ما كان يعرف وقتذاك ب(النخبة المتنوّرة) في المجتمع. فعلاوة على محبّته الخالصة لله والرسول، والتزامه بالعبادات، كان شاعرنا؛ بحسّه إلايماني العميق، يتعامل بحذر شديد مع الأشياء المحيطة به أيضاً، فتراه ممتثلاً أوامر الله، مجتنباً نواهيه، محاولاً أن يأكل من عمل يده، بالاعتماد الكليّ على إيراداته من العمل، والابتعاد عن الاستدانة والقروض. وقد أشار إلى ذلك في وصيّته، قائلاً: أتوجّه إلى الباب الأبديّ (يقصد مجازاً التوجّه إلى الله، والحياة الآخرة) دون أن آكل مال أحد قطّ، ولم أمدّ يد الحاجة لأحد أبداً.
وفي سياق مقارنة بين شخصه والأديب الإيرلندي الشهير (جورج برنارد شو) يقول، من باب تفضيل نفسه: لم أعاقر الخمر مطلقاً.
ولم يكتف بهذا وحسب، إنّما كان يسعى جاهداً أن تكون الاحتفالات التي تقام بمناسبة نوروز وحلول رأس السنة الكوردية، بمنأى عن أيّ سلوكيات خارجة على الآداب الإسلامية. وقد وصف في إحدى المقالات؛ احتفالية من هذا النوع، أقيمت بمناسبة نوروز، قائلاً: بكل فخر وشكران، بدأ التعليم يثمر أدباً وحياءاً، فالنساء خصّص لهنّ مكان آمن، حيث قضين أجواءً من الطمأنينة، وهنّ يحتفلن لوحدهنّ على إيقاع الدبكات، فلم يخالطهنّ أيّ فرد من الرجال، واستمرت النسوة على هذا الحال حتّى انتهاء الحفل مساءً.
وأيضاً، في سياق تقوى شاعرنا، وورعه، نعيد التذكير بالفترة التي قضاها بحاضرة الإمبراطورية العثمانية (اسطنبول)، إذ سارع، وهو في ريعان شبابه، إلى الزواج مبّكراً من فتاة سليلة حسب ونسب، حتى يصون نفسه، ويحفظ دينه.
ولم يعرف عن (پیرهمێرد) نظمه لأشعار في الغزل الماجن بالنساء، إنّما نظّم قصائد في الغزل العفيف، على درجة عالية من الإحساس الطاهر، والرقيّ المقترن بالقيم الإسلامية، على عكس شعراء عصره؛ حيث تجاوز غالبيتهم حدود الحياء واللياقة الأدبية .
- سابعاً/ الزهد والسخاوة:
كان (پیرهمێرد) رجلاً زاهداً، بمعنى الكلمة، بعيداً عن الإفراط في المأكل والملبس وتبذير المال. وزهده لم يتأتّ من بخل، أو يد مغلولة شحيحة العطاء، إنّما هو زهد نابع من الفيوضات العرفانية، والتأثّر بالطرق الصوفية، إذ كان يجود بما عنده من مال في أحايين كثيرة، وكان غالباً ما يمنح الآخرين ثيابه وطعامه، بينما يلجأ هو – عند الحاجة - لأقربائه الميسورين لتناول الطعام، وكثيراً ما كان يقتطع جزءاً كبيراً من راتبه التقاعدي للفقراء والمعوزين، في حين يرتدي ثياب الآخرين المستعملة.
فبالزهد صان (پیرهمێرد) عزّته الإيمانية، وحافظ على شخصيته وانضباطه في الحياة، وها هو يقول: لو كنت أسعى وراء المال لنفسي فقط، ما قمت بتوزيعه على الناس أبداً، وما كنت لأرتدي نفس الثياب لمدة 5 سنوات، كانت قد وصلتني كهديّة من شخص. إنّي من النّوع الذي لا يقبل حتى مبلغ اشتراك من أحد، كي لا أحرج، ولا أطأطئ الرأس خجلاً أمام أيّ أحد. سيفتقدونني يوماً ما، ولكنهم إذ يبكون عليّ ندماً، سيكون الوقت قد فات.
- ثامناً/ الإنفاق والإحسان:
كان (پیرهمێرد) شخصاً منفقاً، ومحسناً، قلّ نظيره، وما برح يحثّ في قصائده على الإنفاق، ويشجّع على الإحسان. ففي الأبيات أدناه يقول:
مَنْ يُنفق مالَه في سبيلِ الله
ما خَسِرَ، وإنْ دارَ عليه الزّمان
الشُّحّ، والكرم، مشيئة إلﮪية
وما قسّمه الله من رزقٍ لا يتغيّر
الشحيحُ من يبخلُ على نفسه
مُكبّلاً بتخويف الشيطانِ بالفقر..
ظلّ اعتقاد (پیرهمێرد) راسخاً بأن الهدف من خلق الإنسان ليس لجمع المال، ولا لإشباع الرغبات، إنّما خلق للإبداع والإعمار؛ وبذلك يترك أثراً إيجابيّاً في الحياة. وقد أشار إلى هذا المعنى بالقول: لم نأت إلى هذه الدنيا لكي نقع تحت هيمنة ونفوذ المال، وننعزل عن الناس، لقد جئنا لنزخرف العالم بالإبداع والإنفاق، لكلّ ذي روح قانون لوحده، يجب أن نحقّق القانون في ذواتنا، لا أن نجري وراء قانون ذي روح آخر. ويقصد بذي روح (الإنسان)، ويعني بالقانون (الهدف السامي) .
حتّى وهو على الفراش الموت، لم ينس (پیرهمێرد) الإنفاق والإحسان، فقد حثّ ورثته في وصيته على الالتزام بذلك قائلاً: أوصيكم بالاهتمام بالمطبعة، ولا تفرّطوا في هذه (القلندرخانة)، هذا أولاً، وثانياً: بالنسبة للأشخاص العاملين في المطبعة، هؤلاء كانوا يلوذون بي، أكرموهم، فلهم عليّ حقّ، واصلوا إصدار الصحيفة، ولا تتركوا المطبعة تتوقف عن العمل، كي تستمروا في الإنفاق من دخلها على تلك الجهات التي كنت أساعدها باستمرار.
وما تحدّث أحد عن (پیرهمێرد)، إلا وذكر تحلّيه بفضيلتي الإحسان والإنفاق. فهذا (عبد الله گۆران)، الشاعر الكوردي المعروف، يؤكّد هذه الصفة في (بيرميرد) قائلاً: أقولها كلمة لله تعالى، وإنصافاً، كان ينفق ما يتحصّل عليه، ليس رغيف الخبز فقط، إنّما مدخولاته من الراتب التقاعدي، وإيرادات الصحيفة، والمطبعة، وأيّ مدخولات تأتيه من مصادر أخرى.
وينضمّ العالم والأديب الشيخ (علاء السجادي)، إلى الشاعر (كوران)، في الإشادة ب(پیرهمێرد) قائلاً: كان ينفق على الفقراء والمعوزين، قدر استطاعته.
وفي عام 1945 أفادت الأنباء آنذاك عن الشروع في بناء مسجد للمسلمين بالعاصمة الأمريكية (واشنطن)، وتعهّد ملك مصر (فاروق الأول) بالتبرّع بعشرة الآف ليرة، فما كان من (پیرهمێرد) إلا أن كتب مقالة بالمناسبة جاء فيها: من هنا يعلن (پیرهمێرد) تبرّعه براتبه لمدة عام للمشاركة في بناء المسجد، رغم ثقتنا بأن مسلمي الهند سيرسلون الأموال الكافية، التي ستغطّي تكاليف البناء بالكامل، وحتى تذهيب القبّة والمحراب، لكنّي أرغب أن لا يحرم الكورد المشاركة حتى وإن تبرعوا بشيء بسيط.
- تاسعاً/ الالتزام بالأخلاق الحميدة، والتمثّل بها:
لقد اتّصف (پیرهمێرد) بإيمان راسخ، وخوف دائم من الله، وثبات على المبادىء، ففي قصيدة نظّمها بإحدى المناسبات الحزينة، قال في مطلعها:
لا بدّ للرجل من الثبات على العهد
لا ينقض العهد، وإنْ كلّفه ذلك ماله وحياته
وانطلاقاً من التزامه بالأخلاق الحميدة، والقيم الإسلامية الرصينة، جاءت قصائد (پیرهمێرد) خالية - إلى حدّ ما - من المبالغة والغلوّ، وحتى الإغراق الشعري، في توصيف الأشياء، لاعتقاده أنها من الكذب المحرّم، دينيّاً وخلقيّاً. وقد تحدّث عن ذلك بنفسه قائلاً: قبل أيام صادفت الشاعر فائق بيكةس، فقال لي: لماذا لا تردّد قصائد السابقين من الشعراء؟!، فأشعار الغزل والغرام العشق والتغنّي بالخمر جميلة، وأنت لا تعرف سوى نظم القصائد الجافة الخالية من الكذب، كفى!... قلت: يا فائق؛ أنا حقيقة لست من الشعراء، غالبية شعراء أوروبا قد هجروا الوله والمبالغة في نظمهم للقصائد، هم الآن يكتبون مادة حقيقية، وأنا حالياً أشعر بالخجل من نظمي لقصائد في السابق أعتقد أنني نزحت فيها نحو الإغراق الشعري، في السابق كانت التشبيهات الشعرية مستساغة، لكن لو تمعّنا فيها الآن لشعرنا بالخجل.
* مرحلة من مراحل دراسة العلوم الشرعية، في المساجد والكتاتيب، في أنحاء كوردستان.. [1]