خليل إبراهيم
يتوّخى هذا المقال بيان الجوانب السلبية والإيجابية الناتجة عن المقاربات الأمنية والسياسية في التعامل مع المسألة الكوردية، في كل من العراق وإيران وتركيا وسوريا، مع التركيز على الآفاق المستقبلية لهذه المسألة الحيوية في المنطقة.
فالكورد شعب عريق وأصيل في هذه المنطقة من العالم، حيث يعيش على أرضه، ويمتلك خصوصيته اللغوية والثقافية، ويشكل جزءاً من النسيج الاجتماعي لشعوب المنطقة، عاش قضايا الأمة الإسلامية، ودافع عنها، وساهم في العطاء والبناء الحضاري في مختلف المجالات، وسجّل حضوراً متميزاً في ميادين التضحية والفداء.. ولكن العقلية العنصرية، والسياسات الشوفينية التي مارست الظلم والقهر والإقصاء والتهميش والصهر القومي، أفرزت جملة من الأزمات، أشعرت الكورد بالغربة، وهاجس ضياع الهوية، وتهديد الوجود.
فالمسألة هي قومية، إثنية، قائمة على أساس اللغة والدم والعرق والانتماء والتاريخ والمصير المشترك والإرادة الجمعية، وهي - في الحقيقة - جزء من أزمة الدولة القومية التي ظهرت في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الأولى، وكإحدى إفرازات اتفاقية (سايكس – بيكو)، وإثر ذلك سمّيت المسألة ب(المشكلة الكوردية)، بما تلقي وتحمل من معان سلبية، وكأن وجود هذا الشعب على أرضه في حد ذاته مشكلة.. فبدلاً من أن يقال: المشكلة التركية، أو الإيرانية، أو العراقية، أو السورية، يقال: المشكلة الكوردية!، لذلك كانت هناك منهجية خاطئة في التعامل معها، على اعتبارها (مشكلة)، فكانت هنالك مقاربات في التعامل معها للقضاء عليها، وليس لحلّها سلمياً، ومعالجتها سياسياً.
- تقارب خيارات الأنظمة في التعامل مع المسألة الكوردية:
في النصف الأول من القرن الماضي سلكت الأنظمة السياسية في كل من إيران الشاهنشاهية، وتركيا الطورانية، والعراق الملكي، نهجاً متقارباً في التعامل مع الكورد، واختارت التعامل الأمني مع قضيّته، حيث كانت حصيلته إهدار الطاقات البشرية، والثروات الوطنية، واتّساع هوّة الانقسام المجتمعي، إضافة إلى ردّات أفعال موازية في اللجوء إلى القوة المسلحة، فاندلعت ثورات وانتفاضات كوردية، وكانت المطالب الكوردية تنحصر ما بين الاعتراف بالهوية والحقوق الثقافية والحكم اللامركزي، وبين دعوات ومطالب تطمح إلى الحكم الذاتي والفدرالية ونوع من الاستقلال، مثل مطالبات (الشيخ محمود الحفيد) في كوردستان - العراق، وإعلان جمهورية كوردستان في مهاباد – إيران، من قبل (قاضي محمد) ورفاقه، وحركة الشيخ (سعيد بيران) في تركيا. وكان معظم قادة هذه الحركات من العلماء وشيوخ الطرق الصوفية، وكانت تحمل طابع الجمع بين رفع المظلومية عن الكورد، والدفاع عن الإسلام، والوقوف ضد أعدائه.
وأما في النصف الثاني من القرن العشرين، فقد استمر الحلّ الأمني كسمة رسمية ورئيسية تجاه المسألة الكوردية في كل من تركيا وإيران، بينما تراوحت المقاربات للمسألة الكوردية في العراق بين الحلّ السلمي والحلّ الأمني - العسكري، فكانت الحكومات العراقية المتعاقبة، بدءاً من (عبد الكريم قاسم)، ومروراً ب(عبد السلام عارف)، وأخيه (عبد الرحمن عارف)، وانتهاءاً بحزب البعث، حين تتعرّض إلى إخفاقات ونوبات من الضعف، نتيجة عوامل داخلية وخارجية، تلجأ - إضطراراً - إلى المقاربة السلمية للتعامل مع المسألة الكوردية.
فمثلاً، أقرّ (عبد الرحمن البزاز)، رئيس الوزراء العراقي عام 1966، نظاماً لا مركزياً، كطريقة لحل المسألة الكوردية، والاعتراف بالحقوق الثقافية، لكن النخبة العسكرية أجبرته على الاستقالة، وشكّلت حكومة انتهجت الحل الأمني مرة أخرى.
وفي سنة 1970، أعطى نظام (البكر – صدّام) الحكم الذاتي كصيغة للحل، ولكن تبيّن من خلال الممارسات، فيما بعد، بأن ذلك كان سياسة تكتيكية، وكسباً للوقت، لتقوية النظام البعثي، وترسيخ أركانه، من خلال وقف إطلاق النار في كوردستان بشكل مؤقت.
وبسبب انعدام الثقة بين الطرفين، وشكوك الكورد بنوايا الحكومة العراقية، استغلت القوى الإقليمية الوضع، ولعبت دوراً في إذكاء نار الصراع، دافعة الطرفين نحو التصعيد والمواجهة العسكرية.
لذلك لجأ النظام في العراق إلى المقاربة الأمنية مرة أخرى، فكلّف ذلك الشعب العراقي، والكوردي، الآلاف من الضحايا، وتدمير ما يقارب ال90%من الريف والبلدات الكوردية، ظنّاً منه أنه سيتمكن من فرض الحلّ الأمني، وإنهاء المسألة الكوردية إلى الأبد.
وخلال حرب الخليج الثانية سنة 1990، أثناء غزو الكويت، وضرب التحالف الدولي لآلة نظام صدام العسكرية، استثمر الشعب الكوردي، الذي كان يواجه حرب إبادة شاملة بالسلاح الكيمياوي، وتدمير المدن والقرى، استثمر تلك الفرصة فقام بانتفاضة شعبية في آذار 1991، وسيطر على جميع المحافظات والأراضي الكوردستانية، وبعد سحب الحكومة العراقية لإداراتها من المنطقة الكوردية، تمّ تشكيل حكومة إقليم كوردستان إثر انتخابات 1992.
وفي هذه الفترة استمرت الحكومة التركية – كما سبق الإشارة إلى ذلك- باتّباع النهج الأمني، وواصلت سياسة إنكار المسألة الكوردية، ما نتج عنها ظهور (حزب العمال الكوردستاني)، والدخول في حرب مدّمرة أدّت إلى مقتل ما لا يقلّ عن خمسين ألفاً من مواطني تركيا، بين كوردي وتركي، وتدمير ثلاثة آلآف قرية، وتسبّبت المقاربة الأمنية أيضاً في اتّساع الهوّة بين الترك والكورد؛ ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً، وأضحت المسألة الكوردية – دوماً- إحدى الأسباب الكامنة وراء الانقلابات العسكرية، وتضييق الحريات، وعرقلة العملية الديمقراطية، حيث شهدت المناطق الكوردية أطول فترات الأحكام العرفية.
أما في إيران، فكانت المقاربة الأمنية السمة الرئيسية لسياسة نظام (محمد رضا شاه بهلوي)، أسفرت عن ردّات فعل عنيفة، تمثّلت في ظهور حركة مسلحة يقودها (الحزب الديمقراطي الكوردستاني).
وفي نهاية السبعينيات، أي قبل ثورة الخميني، ظن نظام بهلوي بأنه تمّت تصفية المسألة الكوردية من خلال الحلّ الأمني، ومع اندلاع الثورة سنة 1979، واضطراب الأوضاع في إيران، تمكّنت الحركة الكوردية المسلحة من فرض سلطتها على كامل كوردستان، ولكن النظام في الجمهورية الإسلامية، وبعد مفاوضات قصيرة، لجأ هو الآخر إلى الحلّ الأمني، ومواصلة نفس سياسة الشاه في إنكار حقوق الشعب الكوردي في إيران، ونشب قتال عنيف استنزف طاقات الطرفين، دون حسم المسألة الكوردية إلى يومنا هذا.. ولا زالت المسألة الكوردية تعدّ قنبلة موقوتة، قابلة للانفجار حين تكون هناك فرصة داخلية أو خارجية، فلا مناص من التعاطي معها بسياسة سلمية جادة.
وأما في تركيا، بعد مجيء حزب العدالة والتنمية، فقد تمّ تبنّي المقاربة السلمية في التعاطي مع المسألة الكوردية، وخطت خطوات جيدة في البداية، وكان مهندس تلك السياسة هو الدكتور (أحمد داود اوغلو)، حيث كانت سياسته مبنيّة على ترسيخ أسس السلام والاستقرار في الداخل، وتصفير المشكلات مع دول الجوار، بشكل نتج عنها سياسة عرفت بالانفتاح على الكورد من خلال وقف إطلاق النار، وبدأت المفاوضات لحلّ المسألة الكوردية في إطار الإصلاحات الديمقراطية في تركيا.
وخلال عقد من الزمن، توجهت طاقات الحكومة التركية نحو المصالحة الوطنية والقبول بالواقع الكوردي، ونبذ العقلية الكمالية التي كانت تنكر الوجود الكوردي، واستطاعت تركيا أن تحقّق الكثير من المنجزات الاقتصادية، حيث شهدت خطط التنمية الوطنية في البلد أرقاماً قياسية، بشكل تمكنت من توظيف الاستقرار النسبي، وقوتها السياسية الناعمة، في تقوية مكانتها كقوة إقليمية، واستفاد الكورد – أيضاً - من هذه السياسة، من النواحي الثقافية والعمرانية، وأن يكون لهم حضور سياسي فاعل؛ فمثلاً تمكّن (حزب الشعوب الديمقراطي) من الحصول على 80 مقعداً، في الانتخابات التشريعية التي جرت في حزيران 2015، والحصول على معظم مجالس البلديات، في المناطق ذات الأغلبية الكوردية في تركيا.
إخفاق الحل السلمي في تركيا:
نتيجة لأسباب داخلية وخارجية، وصلت المقاربة السلمية إلى طريق مسدود، وهناك عدّة عوامل ساهمت في ذلك، منها:
1- تدّخل (حزب العمال الكوردستاني)، ومحاولة الهيمنة على الإرادة والقرار السياسي ل(حزب الشعوب الديمقراطي).
2- عدم قناعة بعض المتنفذين في الدولة العميقة بالحلّ السلمي.
3- وجود أياد خارجية عابثة، لا تريد السلام والاستقرار في تركيا.
• الآفاق المستقبلية للمسألة الكوردية:
- نبدأها من العراق...
شهدت الأسابيع الماضية عمليات عسكرية، عرفت باسم فرض القانون أو عمليات كركوك، حيث قامت قوات الجيش، وميليشيات الحشد الشعبي، بدعم وتوجيه من الجارة إيران، بالهجوم على (المناطق المتنازع عليها)، بحجة بسط الأمن، وفرض القانون، وهيبة الدولة، في تلك المناطق، بينما كانت في الأساس رداً على استفتاء استقلال كوردستان.
وفي تصورنا، لم تكن الحكومة العراقية جادة أصلاً بالقبول بإقليم كوردستان، رغم إقرار الدستور بذلك في مواد صريحة، وكانت سياسة فرض سلطة الدولة (بمعنى التنكّر لأيّ نظام فدرالي، أو ما شابه)، جزءاً من سياسة الدولة المركزية، والتي لا زالت تسيطر على عقول النخب الحاكمة في العراق. وما يعزّز ذلك هو صدور تصريحات قبل الاستفتاء، من بعض قادة الحشد، وقيادات أحزاب شيعية، بأنهم بعد الانتهاء من عمليات تحرير الموصل سيتوجهون إلى الشمال لفرض السلطة المركزية. علماً بأنه يتبيّن من سلوكيات وتصرفات الحكومة المركزية، عدم إيمانها بالفدرالية، ولا بالدستور، حيث خرقت مواد كثيرة في الدستور، وهذه المواد تعدّ ركيزة النظام الفدرالي: فلم تطبق (الفدرالية)، كما وردت في الدستور، وانهارت أسس العملية السياسية، وغابت روح الدستور في الفكر والممارسة، والذي هو التعايش والتوافق الوطني، والتوازن في المؤسسات، والشراكة الحقيقية، وجرى النزوع نحو اعتماد الأكثرية الطائفية، والاستيلاء على مفاصل القوة والتأثير في كافة مؤسسات الدولة.
ونعتقد بأن التأييد الذي حظي به رئيس الوزراء (حيدر العبادي)، من قبل أمريكا والدول الإقليمية، سيعزز النزعة المركزية، وسيقوّض كل الاتفاقات السابقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية.
وقد بدأت ملامح هذه السياسة بالظهور من خلال تصريحات المسؤولين في بغداد، التي ترفض حتى ذكر إقليم كوردستان، وتستخدم مصطلح (شمال العراق)، رغم إقرار الدستور بذلك، في محاولة لإعادة السياسات السابقة، والعودة إلى المقاربة الأمنية والعسكرية في التعامل مع شعب كوردستان.
ولن يقف إقليم كوردستان مكتوف الأيدي، فهو يتحيّن الفرص الداخلية والخارجية لإعادة سلطته في المناطق المتنازع عليها، سواء بالطرق السلمية أو العسكرية، في حال تهيّأت الظروف المناسبة، كأن يكون هناك صراع شيعي – شيعي، أو اصطدام أمريكي إيراني.
ونتيجة لهذا السلوك المتكرر من الحكومة الاتحادية، والعقلية المركزية للنخب الحاكمة في بغداد، فإنّ حلم الاستقلال والدولة يصبح مطلباً ملحاً، وهدفاً منشوداً، خاصة بعد أن تحوّل من فكر نخبة سياسية، إلى مطلب عمومي لشعب كوردستان.
أما في تركيا، فإننا نأمل أن تسعى الحكومة إلى تغليب منطق العقل، واللجوء إلى المقاربة السلمية مع المسألة الكوردية، وفتح باب الحوار والتفاوض، تجنيباً لها من المشاكل وضغوط الورقة الكوردية.
أما مستقبل المسألة الكوردية في سوريا، فيعتمد على التوافقات الأمريكية الروسية، ولكن على ما يبدو لنا سيبقى كيان (غرب كوردستان)، يتمتع بنوع من الإدارة الذاتية، رغم مواقف حكومة دمشق.
ولا شك أن المسألة الكوردية ستشكل عامل استقرار وتنمية ونهوض، إذا كانت هنالك بوادر جادة لحلّها بالمقاربة السلمية، وفق مبدأ حق تقرير المصير، وستبقى عامل توترات وصراعات مكلفة لدول المنطقة، إذا استمر التعاطي معها بالمقاربة الأمنية.
لقد أثبت التاريخ القريب والبعيد بأن المقاربة الأمنية لم تفض، ولن تفضي، إلى تصفية المسألة الكوردية، بل ستعقّدها أكثر، وتفتح المجال للمتربصين باستخدامها كأداة للتدخلات، وبالتالي تجلب الويلات والكوارث والمآسي على شعوب المنطقة.
وكلّ الاتفاقات والأحلاف والمعاهدات بين الدول الإقليمية لن تجدي نفعاً في حلّ هذه المسألة، ولن تقضي عليها إطلاقاً، مهما رأت تلك الدول أن من صالحها التعاون فيما بينها على حساب المسألة الكوردية.. وتاريخ هذا التعاون الدولي، والإقليمي، ضد تطلعات الشعب الكوردي، يؤكد لنا - بما لايدع مجالاً للشك - فشل هذه السياسة، وعدم تحقيقها لأهدافها.
• المقال في الأصل كلمة تضمنتها ورقة قدمت في ندوة نظمها مركز الجزيرة للدراسات في قطر بعنوان (المسألة الكوردية – دينامياتها الجديدة وآفاقها المستقبلية) يومي 25-26-11-2017.[1]