الدكتور طالب الرمَّاحي
(هذه الدراسة تتناول في حلقات أكبر الجرائم المرتكبة بحق الشعب العراقي وهي جريمة المقابر الجماعية في العراق ، وكيف تعاملت الحكومات العراقية معها بعد نيسان 2003 ، والجهود التي بذلت وما زالت من أجل انقاذها من التهميش والنسيان ) .
الحلقة الأولى
يقول بعض الخبراء أن قيام دولة إسرائيل كان بسبب محرقة النازية لليهود في الحرب العالمية الثانية ، فلقد بدأوا تنفيذ خطتهم والتمهيد لذلك منذ اليوم الأول الذي دخلت فيه القوات الروسية معسكر أوشفيتز وتحرير ما تبقى به من محتجزين يهود .
لقد برع اليهود في تقديم أنفسهم للشعوب الأوربية وللبريطانين بالذات على أنهم الأمة الأكثر تعرضا للظلم والتعسف وبهذا فهم يستحقون كل أنواع التعاطف والعون ، ونعتقد أن ذلك دفع ( بلفور ) إلى إصدار وعده التاريخي بمنح فلسطين كوطن قومي لهم .
لقد تعامل اليهود مع المحرقة النازية ( الهلوكوز ) تعاملاً دقيقا وستراتيجياً ذكيا ، واستطاعوا من خلالها أن يقلبوا المعادلة التي كانت تحكم العلاقات اليهودية الأوربية ، واصبحت الأمة المنبوذة والمتهمة بالجشع والتآمر وعبادة الذات والمصالح الخاصة إلى أمة مستضعفة تستحق التعاطف وسرعة الإنقاذ ورد الاعتبار والحقوق التي استبيحت من قبل النازيين ، وفعلا استطاعت أن تحقق أحلامها كاملة إلى الدرجة التي استطاعت بعد ذلك أن تؤثر بشكل مباشر في اتخاذ القرارات التي تتبناها كبار الدول في عالم اليوم .
يقول اليهود إن الظلم الذي لحق بهم غير وجه العالم فأعاد النظر في التعامل مع حقوق الإنسان ، وإصدار التشريعات الكثيرة التي تكفل ضمان تلك الحقوق ، ولقد حققوا ذلك لأنهم نجحوا في إيصال مظلوميتهم لشعوب العالم وللمنظمات الدولية المعنية ، وهذا النجاح تحقق بفعل العمل الدؤوب للمنظمات الصهيونية وصرف الأموال الطائلة على الكثير من الفعاليات الاجتماعية كالندوات ومعارض الصور وافتعال المناسبات وبشكل مهني وعلمي دقيق ، ولم يكتفوا بترسيخ مظلوميتهم في وجدان العالم الغربي بل استطاعوا أن يجندوا الكثير من الحكومات والمنظمات الإنسانية و المؤسسات القضائية إلى الدفاع عن مظلوميتهم من خلال إصدار الكثير من التشريعات القضائية التي تحرم وتجرم كل من يشكك أو يستهين أو يقلل من ضخامة ما ادعوه من حجم للجريمة وقد ألزموا غالبية الدول الغربية وأمريكا على العمل بتلك التشريعات القضائية ضد من يشكك بمظلوميتهم .
لم يكن اليهود الوحيدين الذين دافعوا وكما ينبغي للشعوب أن تدافع عن حريتها وتثأر لكارمتها وتحفظ للأجيال مشاعر التمسك بالكرامة والعزة ، فالشعب البوسني هو الآخر لم تهدأ له جانحة بعد أن توفرت له فرصة حرية التعبير عن الذات وطرح مظلوميته للعالم وللشعوب المحيطة به ، فبعد حرب الإبادة العرقية التي شنها الصرب بحق المسلمين في البوسنة والتي بدأت في 17 أبريل 1992 وانهتها اتفاقية دايتون في 14 ديسمبر1995 ، اكتشف البوسنيون الكثير من المجازر التي ارتكبها الأصراب بحق المدنيين ، ومن تلك الجرائم المقابر الجماعية التي اكتشفت في أماكن كثيرة بسبب التطهير العرقي الذي كان يمارس بحقهم ، فبلغ عدد المقابر المكتشفة حتى نهاية 2004 أكثر من 363 مقبرة تحتوي على 18 ألف ضحية .وبادرت الحكومة البوسنية إلى طرح هذه المظلومية على الاتحاد الأوربي وتم رصد مبالغ كبيرة للتعامل العلمي والإنساني مع الضحايا وذويهم ، ثم بادرت إلى تخصيص وزارة لشهداء المقابر الجماعية ، وتم الإسراع في تشكيل لجنة فاعلة للبحث عن المقابر الجماعية في كل انحاء البلاد برئاسة عمر ماسوفيتش .
هناك أكثر من سبب يدفع الشعوب والأمم للاهتمام بضحاياها وشهدائها ، اسباب دينية وإنسانية وأخرى مادية ، فالأديان السماوية تتفق جميعها على احترام الإنسان وتكريمه تنفيذا للرغبة الإلهية التي كرمته ( وكرمنا بني آدم ) وبذلك يكون هذا التكريم هو جزء مهم في العقيدة والأمم التي تعمل بهذا المبدأ هي أمة متدينة وهي أقرب إلى الله من غيرها ، فتكريم المرء حي وميت هو مصداق لتمسك الأمة بمبادئها الدينية ناهيك من أن العقائد السماوية أكدت على أن الإنسان هو القيمة العليا في الكون ، فالاستخفاف به هو استخفاف بالأهداف الإلهية التي كانت وراء وجوده ، والأمة التي لاتعير اهتماما بدماء شهدائها أنما تستخف بكيانها ووجودها ، وهي أمة تافهة لايعول عليها ، وهذا يدعونا إلى القول إن الأمم التي تؤمن بالرسالات السماوية ينبغي لها أن تكون أشد من غيرها في احترام ( آدميتها ) وأكثر من غيرها في تجسيد المباديء الإنسانية في تعاملها مع بعضها أو مع غيرها ، كما أن هذا المبدأ الإنساني يجعلها أيضا أكثر اهتماما بالمظلومين منها وبمن يضحي من أجلها كالشهداء .
لم نر في منطقة الشرق الأوسط ومنذ أفول شخصية الرسول الكريم أي مؤشرات على أهتمام الأمة الإسلامية بحقوق الإنسان التي أكد عليها القرآن وأوصى بها النبي ، بسبب طبيعة الحكومات التي تسلمت زمام الأمور منذ قيام الدولة الأموية وحتى عصرنا هذا ، فأغلب تلك الحكومات كانت مشغولة بتقوية وجودها السياسي وتكريس حاكمية ماكانت تطلق عليه بالخليفة ، وعليه فإن ديمومتها يعتمد على تصفية الخصوم السياسيين . وبقيت هذه العقلية تحكم بلادنا وإلى أن تسلم حزب البعث السلطة في العراق ، فارتكب الكثير من الكوارث الإنسانية ومنها جرائم المقابر الجماعية .
ولايختلف العالم الغربي عما هو عليه المجتمع العربي والإسلامي من ترد في احترام حقوق الانسان قبل القرن السابع عشر ، ففي هذا القرن تطورت الأفكار الديمقراطية في أوربا والولايات المتحدة نتيجة لتطور الفكر والفلسفة وبروز مفكرين ومصلحين اجتماعيين كاسبينوزا وهيوم وجان جاك روسو وولادة حركات إصلاحية ، حيث كان الإنسان قبل ذلك مهانا ومصائر الأمم تتحكم بها الطبقات الارستقراطية ورجال الكنيسة ، وكان للثورات الاقتصادية والثقافية الحديثة كالثورة الفرنسية وغيرها ، أثر مباشر في تغير تعامل الإنسان الأوربي والمساعدة على فرض أنظمة ديمقراطية وقوانين سياسية واجتماعية تنظم العلاقة بين الحكومات والشعوب ، ثم فسحت المجال لأول مرة في تاريخ البشرية لمنظمات المجتمع المدني المستقلة في انتقاد كل ما من شأنه أن يصادر حرية الفرد أو الجماعة. وأصبحت هذه المؤسسات تشير بحرية إلى الجرائم التي ترتكب بحق الأفراد والجماعات ، وأصبحت تشكل حرجاً لغالبية الحكومات في العالم ، حيث أصبح في وسعها أن تطالب بمعاقبة الفاعلين ، مما دفع الكثير منها وخاصة في دول العالم الثالث أن تخطو باتجاه احترام شعوبها ، وتوفير هامش من الحرية وإبداء الرأي ، كما أصبح في وسع الكثير من الشعوب إلى إلى لفت الأنظار للجرائم التي تقترف بحقها سواء من الحكومات أو من قبل شعوب أخرى ، وقد رأينا كيف انتصر العالم والشعب البوسني لقضية المقابر الجماعية التي ارتكبتها القوات الصربية ، ورأينا أمثلة أخرى في رواندا ولبنان وفلسطين .
ونحن نعتقد أن الدم البريء ، في وسعه أن يحقن الكثير من دماء الأحياء ، إذا كانت الدماء المسفوكة ظلماً تعود لأمة تمتلك كرامة إلهية ولديها من المشاعر الدينية ما يمكنها من أن تفعل المستحيل من أجل الثأر لتلك الدماء ، وتسخر كل إمكاناتها لكي لاتسباح لها دماء أخرى ، وهذا فعلاً ما أقدمت عليه الشعوب على مر التاريخ . أما الشعوب التي تلعق جراحها وتحاول أن تتناسى الماضي بما يمتلكه من إهانة لها ولوجودها ولكراماتها ودمائها المستباحة ، هي شعوب لاتستحق الحياة ، بكل المعايير الدينية والوضعية ، وعليها أن تستعد للذل والهوان على يد عباد الدنيا والانتهازيين من داخلها ، أو من قبل الشعوب الأخرى المحيطة بها ، وليس ثمة ما يعجز الشعوب الأخرى من أن تستغل هذه الصفة التخاذلية وأن تجند ما يحلوا لها من داخل الأمة لتصل إلى أهدافها ، لأن من سنن الحياة هو استحواذ القوي على الضعيف .[1]