الدكتور طالب الرمَّاحي
عَرف العالم قبل بداية الألفية الثالثة حالات نادرة لجرائم المقابر الجماعية ، وهي ضرب من التطهير العرقي والإبادة الجماعية ( Genocide ) ، إلا أن أحدثها تلك التي ارتكبها الع نصريون الأصراب بحق المسلمين في البوسنة والهرسك ، قبل اتفاقية ( دايتون للسلام في كانون الأول 1995) والتي انهت ثلاث سنوات من الحرب العنصرية ، امتلأت خلالها البوسنة والهرسك بالمقابر الجماعية التي دفن فيها آلاف من المدنيين كالحيوانات. وتعد مقابر سريبرينيتشا مثالاً رهيباً على ذلك . فقد ذكرت العائلات المشردة في توزلا ، والتي قابلتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر ، أن القوات الصربية قبضت على أكثر من 3000 شخص بعد سقوط المدينة مباشرة في منتصف تموز 1995. وقد تبين فيما بعد أنهم قتلوا ودفنوا في مقابر جماعية ، وتفيد الإحصاءات البوسنية أن مجمل الشهداء لايتعدى 30 ألفا من بينهم ضحايا المقابر الجماعية ، وفي تموز 2003 تم اكتشاف أكبر مقبرة جماعية في منطقة ( كارني فره ) ضمت 700 ضحية وهي أكبر مقبر جماعية تم العثور عليها خلال البحث عن الضحايا . وقد تمكن الشعب البوسني بعد انتهاء الحرب إلى التعامل بجدية مع ملف الشهداء وأسس وزارة لذلك كان لها دور فاعل في التحرك على الإتحاد الأوربي من أجل جمع المساعدات اللازمة لتغطية نفقات المشاريع الكبيرة التي غطت احتياجات المقابر الجماعية وتعويض ذويهم ، وقد شرعت الحكومة البوسنية قبل ذلك إلى تأسيس لجنة للبحث عن المقابر الجماعية عمدت إلى مسح شامل للأماكن التي يشتبه وجود مقابر فيها ، كما أن الوزارة عملت إلى إنشاء قاعدة بيانات دقيقة للضحايا وذويهم ، كانت قاعدة للتعامل مع الملف بكل أبعاده المادية والإنسانية .
وبعد سقوط النظام البعثي في العراق في نيسان 2003 ، تغيرت نظرة العالم حول مفهوم جريمة المقابر الجماعية ، فقد نقلت وسائل الإعلام المختلفة صور العشرات من المقابر الجماعية التي تم اكتشافها بطريقة البحث العشوائي من قبل ذوي الضحايا ، وبمشاركة بعض الشركات الأمريكية في إقليم كردستان ، لقد كانت الصور والمناظر التي تناولتها المؤسسات الإعلامية المحلية والعالمية قد أثارت المشاعر وسلطت الضوء على أكبر جريمة تقترف بحق الشعوب في العصر الحديث ، وبسسب التقديرات الكبيرة لعدد الضحايا فقد ذكرت (USA AID) في أحد تقاريرها : إن المقابر الجماعية في العراق جرائم فضيعة ارتكبت بحق الإنسانية، لم يتجاوزها في الوحشية سوى مذابح الإبادة الجماعية في راوندا، التي ارتكبت علم 1994 و (حقول القتل) في كمبوديا التي جرت في أعوام السبعينات ، ومحارق الإبادة الجماعية ، التي قام بها النازيون في الحرب العالمية الثانية . لقد وقف العالم أجمع واجماً , لبشاعة ما ارتكبه حزب البعث من جرائم وبأساليب وحشية ، فلقد اكتُشفت مقابر متخصصة للنساء والأطفال كما هو في مدينة الحضر في الموصل ، وأخرى وجد فيها الضحايا مكبلين ويجلسون القرفصاء وهم موتى ، وهذا يعني أنهم دفنو أحياء ، ووجدت أطفال دفنت مع أمهاتها وفي أيديها لعبها .
كانت تلك الجرائم المكتشفة كارثة قد حلت بالشعب العراقي من قبل نظام تحرر من أي قيد إنساني أو آدمي ، إذن نحن أمام جرائم مميزة ، أهين من خلالها شعب آمن لم يرتكب ذنب يستحق معه كل هذه البشاعة والوحشية ، وقد تأكد للجميع أن الأهداف الأساسية لتلك الإبادة الجماعية ( عنصرية وطائفية ) فدوافع نظام حزب البعث في تصفية الكورد في إقليم كردستان هو لإضعاف القومية الكوردية وإخضاعها تماما لإرادة القومية العربية الحاكمة والمتمثلة في حزب البعث العربي الإشتراكي ، ودوافع تصفية الشيعة في الوسط والجنوب هو لإضعاف الوجود الشيعي وإخضاعها تماما لإرادة الطائفة السنية التي يمثلها حزب البعث ، ومما لايخفى أن تلك الممارسات بحق الكورد والشيعة قد حظي بمباركة الحكومات العربية السنية في المنطقة ، وقد ظهرت تلك المباركة واضحة من خلال دعم تلك الحكومات للنظام البعثي طيلة سنوات الحرب مع إيران عسكريا وماديا ولوجستياً .
لقد استطاع الكورد في إقليم كردستان التحرر من قيود وبطش النظام البعثي بعد انتفاضة آذار سنة 1991 ، وتمكنوا من نيل عطف شعب وحكومة الولايات المتحدة الأمريكية ، ففي 16 نيسان اعلن الرئيس بوش عن المنطقة الامنة والتي تقع شمال خط عرض 36 لحماية الاكراد العائدين الى ديارهم من هجمات الطائرات العراقية (No fly zone) وحماية دولية من أي اعتداء أرضي قد يقوم به النظام السابق في مناطق الشمال الكردي ، بيد أن هذا الطيران قد أعطي الحرية في قمع الشعب العراقي في المناطق الأخرى وسمح له في أن يستخدم آلته العسكرية في القضاء على الشيعة في الوسط والجنوب ، وكانت ذروة ما ارتكبته تلك القوات البعثية من جرائم بشعة هو قمعها للإنتفاضة الشيعية ، يذكر تقرير أمريكي : ( دمرت في الانتفاضة الكثير من المدن العراقية وسويت بالأرض ، وقتلت الحكومة العراقية ما يزيد عن 300 الف شخص في الجنوب العراقي وحده خلال ال14 يوما التي هي عمر الانتفاضة وتم التكتم على ذلك من قبل نظام البعث والأنظمة العربية ، وكان من نتائجها دفن مئات الآلاف من المنتفضين أو ممن اعتقلهم الجيش وقوى الأمن والمخابرات البعثية في مقابر جماعية ، تم العثور عليها بعد سقوط النظام ومما لم يعثر عليها بعد لضعف الأداء الحكومي ) ، لقد بقي النظام يمارس عمليات الاعتقال والقتل والدفن في المقابر الجماعية في المحافظات الشيعية حتى سقوطه في التاسع من نيسان 2003 .
كانت أخلاقية البعث في العراق التي تنتهج الإسلوب الدموي في التعامل مع الشعب العراقي غير خافية على العالم ، بيد أن مصالح تلك الحكومات ( مادية ، عنصرية أو طائفية ) دعتها للسكوت ، لكن انتشار بعض الجرائم عبر وسائل الإعلام الدولية ، مثل استخدام الغازات السامة في كارثة ( حلبجة ) وجريمة الأنفال ، أجبرت شعوب العالم إلى التعاطف مع الشعب العراقي في الخلاص من النظام البعثي ، وبعد وقوع العالم على بشاعة جرائم المقابر الجماعية تعمقت الرغبة في الخلاص من هكذا نظام يستخف بحقوق الإنسان بشكل لم تألفه البشرية إلا نادراً ، وكانت قضية اكتشاف المقابر الجماعية في العراق بالصورة التي عرضتها شبكات التلفزة الأمريكية قد تفاعلت بين أوساط الرأي العام الأمريكي مما أعطى تبريراً قوياً للحرب على العراق ولقرار الرئيس بوش في إسقاط نظام صدام وتحرير الشعب العراقي منه.
وفي جلسة عقدها الكونغرس الأمريكي في مايس 2003 للاستماع إلى شهادات المسؤولين في البنتاغون حول نتائج الحرب على العراق والوضع الأمني الداخلي ، أشار بول وولفتز وكيل وزير الدفاع في رده على أسئلة أعضاء بارزين في الكونغرس حول طبيعة نظام صدام (بأن اكتشاف المقابر الجماعية بهذا الحجم الكبير يعطينا دلالة على أننا نواجه مخلفات لنظام كان يعتمد على لصوص وقطاع طرق ومجرمي حرب).
ويقول السفير ريتشارد ولياسن الممثل الأمريكي المناوب لدى الأمم المتحدة للشؤون السياسية : (إن عملية حرية العراق كانت ضرورة أخلاقية لإنقاذ شعب كان يواجه الموت، ولا سبيل لتجنبها استناداً إلى تلك الضرورة التي كانت تتطلب إنهاء حكم صدام حسين القائم على الاستبداد الوحشي الذي شكل التعذيب والقتل فيه أداة سيطرة يومية معتادة، وقد تم توثيق جيد لعمليات الإبادة الجماعية التي قام بها ذلك النظام في بلد أصبح فيه عشرات الآلاف من المفقودين وهذا ما كشفته المقابر الجماعية كدليل إدانة لمحاسبة المسؤولين عن هذا النظام ) . وفي بيان – الحقائق – الذي أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية عشية صدور قرار مجلس الأمن رقم 1483 في الثاني والعشرين من (مايو أيار) 2003 قالت فيه : (إن القرار يمنح الصلاحية الكاملة للسلطة في العراق بأن تقوم بملاحقة كل المسؤولين في نظام صدام الذين ارتكبوا جرائم إبادة وفظائع بحق الشعب العراقي ، وتحرمهم من تلقي أي ملاذ آمن في بلدان أخرى في إشارة منها إلى لجوء مسؤولين في نظام صدام المخلوع ستتم المطالبة بتسليمهم للقضاء من الدول التي لجأوا إليها). وأضاف بيان الحقائق : إن القرار 1483 يدعم الجهود المستمرة لتبيان مكان المفقودين والأسرى الكويتيين وغيرهم من رعايا دول أخرى اختفوا منذ غزو العراق للكويت عام 1991. وأن القرار يلزم السلطة في العراق واللجنة الدولية للصليب الأحمر وغيرها من منظمات وأفراد بمواصلة جهودهم لتبيان مصير مواطنين عراقيين ومن دول عربية أخرى مختفين منذ ذلك التاريخ .
فجرائم المقابر الجماعية كانت من المقدمات التي دعت العالم لتغيير نظام حزب البعث ، وتشكيل حكومة وفق المعايير الديمقراطية وإرادة الشعب ، ولذا فإن من أهم الواجبات الإخلاقية والإنسانية والوطنية لأي حكومة تتولى مسؤلية إدارة الحكم هو أن تتعامل مع جرائم المقابر الجماعية بالشكل الذي يضمن حقوق الضحايا وذويهم ويعيد للشعب العراقي بكل طوائفه اعتباره الذي سلب عند ارتكاب تلك الجرائم .[1]