هاتف جنابي
ينتمي الأكراد إلى أقدم الجماعات الأثنية الساكنة في منطقة الشرق الأوسط، وفقا لكافة الدراسات التاريخية المنصفة. وعليه فإذا كان العرب، مثلا، من بين أقدم سكان شبه جزيرة العرب وبعد الفتوحات الإسلامية، انتشروا في ما يعرف اليوم بالمنطقة العربية، فلا يعني هذا أن الجديد ينسخ القديم، أو أن القديم سيلغي الجديد. هذا من جهة ومن الجهة الأخرى، فإن الأقوام القاطنة في المنطقة المذكورة، سواء عبّرت عن نفسها من خلال دولة خاصة بها، أو بدونها لأسباب تاريخية وجيو- سياسية(كما هو الحال مع الأكراد الذين يشكلون أكبر مجموعة أثنية في المنطقة بدون دولة!) فإنها، أي هذه الشعوب والأقليات تقوم بدورها حسب الظروف المؤاتية لها وضمن نطاق ما تسمح به التعقيدات والتشابكات مختلفة الجذور في المنطقة، وحسب قدرة هذه الفئة أو تلك على تجاوز الموانع. يعني أن تقوم بدورها من خلال التداخل والتثاقف والتنافذ مع سكان المنطقة الآخرين،.
إن عدم وجود دولة ذات حدود ومؤسسات للأكرد لا يعطي إطلاقا الحق للآخرين، مهما كانت طبيعة توجهاتهم، بإلغاء دورهم ومساهمتهم في حضارة المنطقة، ولا حتى في التشكيك في هذا الأمر. صحيح أن للأكراد حلمهم الخاص في أن تكون لهم دولة، وأتساءل بدوري: هل أننا بعيدون أو مجردون من مثل هذا الحلم بدولة عريضة من المحيط للخليج، ولو على حساب مصالح الآخرين؟ والسؤال الآخر ألا يحق للكرد مثلا وليس حصرا، أن يقرروا مصيرهم ذات يوم؟ ثم أين كان الآخرون من العرب العاربة والمستعربة، إبان حكم النظام الصدامي البائد من مأساة الشعب العراقي؟ ألم تكن المناطق الكردية حليفة ومعقلا للمعارضة العراقية(سواء اتفقنا معها أو لم نتفق) في ظل صمت عربي ودولي مطبق في عهد الطاغية الذي استند أساسا على فكر عفلقي مستورد؟
ولم هذا التخوف والتطاير من مساهمة الأكراد أبناء العراق وسكانه الأصليين في السلطة؟ أليسوا (هم كقومية ثانية) شركاء في الوطن العراقي؟ شخصيا لا أعتقد بأن القيادة الكردية الحالية(رغم عدم قناعتي النهائية بهذه الممارسة أو تلك) تفتقر إلى بعد النظر، بحيث تسعى للإنفصال في ظل الظروف المحلية والإقليمية الراهنة، كما وأعتقد جازما بأنه سيكون أفضل للأكراد، فيما لو أرادوا ذات يوم، تقرير مصيرهم وحدهم، بأن يقوموا بذلك والبلد في حالة تماسك، لا تفكك. لأن عدم تماسك العراق غير الكردي سيؤدي في النهاية إلى عرقلة تحقيق الحلم الكردي ذاته مستقبلا، وربما إلى إجهاضه! على أن ما أردت أن أقوله له علاقة بموضوع آخر، بعيد عن السياسة وأحابيلها، وضيق الأفق القومي والمذهبي.
نعود الآن إلى صلب الموضوع الذي قد يثير حفيظة المتطرفين وغلاة الفكر القومي(القومجي) والمتطفلين والباحثين عن نظرية المؤامرة. فنقول: إن نظرية المؤامرة، موجودة في التاريخ، والأكراد من أوائل من وقع فريسة فضحية لها. حيث انتهكت أعراضهم وحقوقهم واستبيحت مناطق سكناهم، مرة باسم القومية العربية وأخرى باسم مصالح الأمة التركية، وثالثة باسم الأمة الفارسية وفيما بعد الأمة الإسلامية، وفي حقل آخر، باسم الحفاظ على مصالح المستعمرين كما حصل في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. على أنني هنا لست في معرض الدفاع عن الأكراد، ولا مصلحة لي في ذلك سوى التذكير بالمنسي أو ما يجري تناسيه. فالأكراد سبق وأن تعلموا كيفية الدفاع عن حقوقهم عبر كفاحهم المسلح وصبرهم التاريخي اللامحدود حتى تمرسوا في ذلك، وأعتقد أنهم قادرون أيضا على تعلم الكفاح السياسي بكفاءة عالية. وأزعم أن غالبيتنا نتذكر جيدا حديث الرسول الكريم: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى. والأعجمي هو غير العربي، وأنا أفهم التقوى على أنها لا تعني فقط الإيمان الحقيقي بالله، وإنما أيضا المساهمة في البنية الحضارية والثقافية للمنطقة والإنسانية عموما، فماذا قدمنا نحن الأكثرية، يا ترى، للعالم في العصر الحديث ؟
من هذا المنطلق، أود، في هذا المقام، التنويه وباختصار إلى دور ومساهمة الكرد في تاريخ المنطقة الثقافي، رغم تشتتهم هنا وهناك. إذا تركنا جانبا دور صلاح الدين الأيوبي محرر بيت المقدس من أيدي الصليبيين( وهو كردي بلا منازع)، وأستميح العروبيين عذرا، قبل الأكراد، لأنني لا أحب الوجه الآخر لصلاح الدين، المتمثل بديكتاتوريته وقسوته المفرطة، رغم كل ما قيل عنه من إيجابيات. فلماذا يتذكرونه بطلا إيجابيا ويتحدثون عن أبناء جلدته بسلبية؟ وإذا كان علينا أن نعود القهقرى فلربما تذكر البعض منا التابعي ميمون الكردي، وعلى الأرجح أن(جابان أبو ميمون) كان صحابيا. وقائمة القادة الأكراد، سواء في جيوش المسلمين أو في صفوف السياسيين ورجالات الدين، طويلة.، ويكفي مراجعة الوجود الكردي في الجيش العراقي، والاشارة إلى نوري باشا السعيد رئيس وزراء العراق في العهد الملكي، ووزير الداخلية فيما بعد، سعيد قزاز، والمعروف أن أم عبد الكريم قاسم كردية. ولم أسمع، في يوم من الأيام، بانقلاب قام به الأكراد ضد إخوتهم العرب من قبل.
على أن ما يعنينا هنا هو دور الأكراد الثقافي والعلمي في تاريخ العرب والمسلمين. إن أسماء مثل المؤرخ القاضي ابن خلكان، والآمدي، وابن كثير، وأبو الفداء، وزرياب الموسيقي الشهير، وفضولي، والشيخ أبو البهاء خالد الشهرزوري البغدادي المعروف بمولانا خالد ذو الجناحين – شيخ الطريقة النقشبندية، والشاعر جميل صدقي الزهاوي، والعلامة محمد كرد علي، والشاعر بلند الحيدري، والشاعر عبد القادر رشيد الناصري، والفنان خليل شوقي، والمخرج المصري علي بدر خان(الذي اعترف نفسه بأصله الكردي) وعازف العود نصير شمه، والشاعر والروائي سليم بركات، والروائي يشار كمال، والشاعر المتميز جلال ملكشا الذي يكتب بالفارسية والكردية، وملا خليل السيرتي صاحب المائة مؤلف(بالكردية والعربية)،وأسماء أخرى كثيرة. كما وأرجو مراجعة أصول شخصيات كبيرة أخرى، من قبيل أحمد شوقي(المعروف بأمير الشعراء)، والعقاد، و حتى سعاد حسني!! وهذا غيض من فيض.
فالأكراد وباقي الأقليات هم جزء من سكنة ومواطني وبناة الشرق الأوسط، ولا منة لأحد منا عليهم بذلك، مثلما ليست لهم منة علينا، لأننا نعيش معهم في المنطقة. أما النعيق والزعيق والتململ هنا وهناك، ونكران حق الآخرين بالعيش الكريم والمساهمة الفعالة في صنع مصير المنطقة، وتشويه الحقائق وتأليب الرأي العام من مخاطر الأكراد وسواهم من الأقليات أثنيا ودينيا، فلا أعتقد أنها تخدم المنطقة، والعرب على الخصوص. الشوفينية وضيق الأفق القومي نجده لدى الجميع وبنسب متفاوتة. المخاطر الحقيقية التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط تتمثل، قبل كل شيء، بضيق الأفق القومي، والمذهبي، والتطرف الديني ممثلا بالتيارات السلفية المنغلقة وذات الطابع التكفيري. الخطر يكمن أيضا في ضيق حيز احترام الآخر. مشكلة المنطقة أيضا هو في تخلفها وتحجرها الفكري والثقافي، وغياب دور مؤسسات المجتمع المدني، إضافة إلى تهميش دور الخبرات والكفاءات وغياب القانون واستشراء الفساد الإداري، وانعدام الخطط العصرية الناجعة لتحديث المنطقة. الخطر إذن لا يأتي من الأكراد والأقليات الأخرى التي تعيش بهذه الطريقة أو تلك منذ مئات، بل حتى آلاف السنين.[1]