قادر رشيد
ضمن إحدى المميزات التي امتازت بها حركة الأنصار المسلحة ( البارتيزانية) لمواكبة النضال ومحاربة الأعداء هو بناء قواعد عسكرية خلفية لمختلف المهمات القتالية في مواقع مناسبة ومحصنة ، بعيدا عن العدو، وأبرز مهمات هذه القواعد تكون كمركز للتوجيهات، ورسم الخطط العسكرية ( هجوم تراجع )، التكتيكات العسكرية اليومية وفق الظروف المستجدة ، ولمعالجة الجرحى والمرضى ، وضمان التموين اللازم من المأكل والملبس ، الأدوية والعتاد ، والنشاط الإعلامي (إذاعة، طباعة، إصدار النشرات، البلاغات السياسية والعسكرية، ومدرسة للتثقيف والتوجيه) ، ودورات سياسية وعسكرية للتدريب على القتال واستعمال الأسلحة المختلفة الحديثة ، والوقاية من الغارات المفاجئة التي يشنها العدو بالأسلحة الاعتيادية أو الأسلحة الكيماوية. كما أنه من الضروري الانتباه والحذر من تسميم الأكل عن طريق الفواكه والمعلبات الجاهزة ، أو إرسال عناصر لغرض التجسس والتوغل في صفوف الأنصار من أجل الحصول على المعلومات السرية، ومعرفة تحركهم اليومي ونوعية سلاحهم ووضعهم الفكري والمعنوي ومحاولاتهم للقيام باغتيال العناصر النشطة. وخلق البلبلة الفكرية، وإشاعة روح اليأس والتشاؤم. وهناك مهمات عديدة أخرى تقع على عاتق القاعدة: كأن تكون مصدراً لضمان الاتصالات اليومية السريعة مع القوى الحليفة من الحركة الوطنية والتقدمية. في الداخل والخارج؛ وكونها محطة إرسال واستقبال الملتحقين الجدد بالحركة؛ وكذلك لأجراء دراسات دقيقة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لسكان المنطقة, ودراسة احتياجاتهم وتقديم المساعدات اللازمة لهم؛ وأخيراً وليس أخر دراسة أوضاع العدو العسكرية والسياسية والاقتصادية والجماهيرية وتشخيص مواقع ضعفه وقوته وإمكانيات التحرك ضده.
في بداية سنة 1979 بادرت كوادر قيادية من الحزب الشيوعي العراقي، وبالذات منطقة إقليم كردستان بعد التخلص من التحالف مع حزب البعث العراقي، التوجه إلى الجبال للتهيأ والاستعداد للحرب التي أعلنها النظام العراقي والدفاع عن تنظيمات الحزب، حرب عادلة من قبلنا وظالمة من قبل النظام، من أجل الدفاع ليس عن وجود الحزب فحسب وإنما عن الشعب.
بعد إعلان قيادة الحزب الشيوعي عن سياستها الجديدة ( من الجبهة إلى الجبل ) قررت لجنة هندرين للإقليم في كردستان، إنشاء قواعد عسكرية لحركة الأنصار في مناطق مختلفة داخل أراضي كردستان العراق المحررة لتوسيع مهمات الكفاح العسكري والتصدي لسياسة النظام العراقي الدموي ومن أجل إسقاطه ، وتحرير أرض الوطن من براثنه. وقد بدأنا بإنشاء قواعد عسكرية في (نوزنك) بمساندة الاتحاد الوطني الكردستاني.
في الوقت نفسه تم التوجه لإنشاء قاعدة عسكرية بمساعدة (القيادة المؤقتة) للحزب الديمقراطي الكردستاني الحالي في بهدينان (كلي كوَماتة) قرب يه ك مالَه المهجرة والمهدمة على حدود كوردستان تركيا، وبالقرب من قاعدتهم لنقل الملتحقين الجدد من الرفاق والأصدقاء من خارج الوطن, ولنقل الأسلحة والإذاعة والأجهزة العسكرية وإرسال الجرحى والبريد عبر الأراضي التركية وضمان الصلة مع التنظيمات الحزبية في الخارج ، واستقبال الرفاق والأصدقاء الهاربين من أجهزة أمن ومخابرات النظام العراقي القمعي من داخل الوطن. هذا التوجه وفكرته كان منطقياً وواقعياً وضرورة لابد منها في حينها.
في شهر نيسان من عام 1979 قررت لجنة هندرين إرسالي لإنجاز هذه المهمة عن طريق مساعدة الحزب الديمقراطي الكردستاني، فوافقت على القرار دون أي تردد وسافر كل من الرفيق أحمد باني خيلاني و بهاء الدين نوري وأنا (قادر رشيد ) إلى مدينة (شنوَ) والتقينا مع كل من الأخوين رئيس وسكرتير الحزب مسعود البرزاني وسامي عبد الرحمن وكوادر قيادية أخرى فيه ، وقد عرضنا عليهم فكرة المساعدة لإنجاز المهمة , وإيصالي إلى سوريا ثم العودة لبناء القاعدة في بهدينان ، فوافقوا على مقترحاتنا بدون أية تحفظ وبكل رحابة الصدر. وقد نفذ على الفور هذا الاقتراح وجرى توديعي وسلمني ر.أبو سرباز مبلغا من المال لسد حاجاتي الضرورية في الطريق .
بعد ثلاثة أيام بدأنا بالتحرك مع قوة من الأنصار المسلحين بقيادة الأخ سامي عبد الرحمن. وكان الطريق إلى قاعدة بهدينان يستغرق أكثر من خمسة عشر يوما مشيا على الأقدام وبمعدل 10 ساعات في اليوم، وأخذنا ما نحتاج إليه من طعام وأشياء ضرورية وحملناها على ظهورنا الوصول إلى القرى الحدودية داخل كردستان تركيا .
كان الطريق بين الحدود العراقية التركية غير سالك، جبلي وعر وانحداراته حادة مغطاة بالثلوج، وكنا نشق طريقنا بصعوبة بالغة وكان عددنا عشرون نصيرا من الشباب المتحمس، مستعدين لرد على أي طارىً يحدث، شباب من ذوي الخبرة الجيدة في المنطقة كان بعضهم يحمل على ظهورهم أدوات للطباعة وجهاز رونيو وقرطاسية وذلك لعدم إمكانية تحميلها على ظهور الحيوانات بسبب وعورة الطريق .
تركنا مجمع زيَوه المملوء باللاجئين الأكراد العراقيين , وتوجهنا نحو مثلث (عراق إيران تركيا) من خلف قرية (كه جه له) نحو(كلي شيَخان) داخل الحدود العراقية بين القرى المهجرة والمحروقة مع مزارعها وبساتينها المتروكة، المنطقة خالية من الناس ، قليلة الحركة لا تكاد تسمع اصواتاَ سوى زغاريد الطيور أو أحيانا صوت إطلاق رصاص عشوائي من الربايا العسكرية البعيدة المبنية على القمم الجبلية العالية المشرفة على الشريط الحدودي الذي يصعب تحديده ورسمه أو فصل أرض كردستان العراق عن كردستان تركيا، كانت مهمة هذه الربايا العسكرية هي مراقبة الحدود، وعلى الرغم من عزلتها كان يجري تمويلها عن طريق طائرات الهيلكوبتر، سرنا متجنبين الاحتكاك مع هذه الربايا من أجل عدم كشف الطريق الذي يسلكه عادة الأنصار، طريق متعرج مرة داخل الأراضي العراقية وتارة نتابع السير داخل تركيا. كانت القرى داخل تركيا مكاناَ سليماَ من أجل ضمان راحتنا، ومصدرَ للتموين والأكل والمعلومات، وكان الفلاحون الأكراد يرحبون بنا، يستقبلوننا ويضيفوننا بكرم وشعور عالي بالتضامن، يقدمون ما لديهم من الخبز والجوز ومشتقات الحليب والعنب المجفف، وأحياناَ يرافقوننا كأدلاء للطريق الحدودي من أجل تجنب الألغام المزروعة داخل القرى المهجرة قسراَ أو خارجها من قبل الجيش العراقي، وكنا نسمع في كل بيت أشرطة التسجيل التي تحمل الأغاني الثورية المتحمسة العائدة للمطرب شوان برور، هذه الأغاني التي خلقت وعياَ ثورياَ لدى الفلاحين الأكراد المنعزلين عن العالم، الساكنين بين الجبال الشاهقة والتي لا يصلها الكهرباء أو السيارات وتفتقد إلى المدارس والرعاية الصحية وغيرها من القضايا المهمة للإنسان في حياته اليومية
بعد مسيرة أيام عديدة وصلنا إلى (كتينة) الحدودية مقابل قرية ( شه به ته ) داخل تركيا والتي تقع على نهر سريع غاضب يمر بمنحدرات صخرية ليفصل الحدود ثم يتعرج داخلها مرات و مرات ليلتقي مع نهر الزاب داخل منطقة حيات، وتكاد المنطقة أن تكون حصينة جداَ، تكسوها الغابات الطبيعية الكثيفة، كان الأنصار يسمونها بوادي الأحزاب.. وجدنا هناك قاعدة لأنصار الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك)، التي تتكون من غرفتين مبنيتين بالطين والحجر وجذوع الأشجار والتي تعتبر محطة مابين بهدينان ومنطقة سوران وللفعاليات العسكرية، إنها غير مرئية من قبل الطائرات الحربية العراقية. وبعد استراحة يومين اخبرني الأخ سامي عبد الرحمن الذي يعرف الطريق والمنطقة جيداَ، إضافة لمعرفته السابقة لفلاحي القرى الكردية داخل تركيا، أنه سيبقى في القاعدة من أجل مهمات مع كوادرهم المسؤولة في مقرات الشريط الحدودي داخل العراق، ولهذا تحركنا برفقة مفرزة أخرى في منطقة بهدينان. وبعد أسبوع من المشي داخل كردستان تركيا في منطقة الحكاري، والأراضي العراقية مروراَ بقرى (شه به ته، بيكالته، بيَكوَفا ، هيركى ..الخ ) وصلنا إلى قرية (بازي)، التي تقع على سفح جبل داخل تركيا فيها قاعدة خلفية لحدك كانت أكثر مهماتها إعلامية، وقد نصبت فيها إذاعة تدار من قبل نخبة من الشباب المثقف، يبثون يومياَ من بين الجبال الحصينة باللغتين الكردية والعربية وموجهة لكردستان العراق ويصل بثها حتى العاصمة بغداد. كان كوادر هذه القاعدة متحمسين لتنفيذ مهماتهم وقد طلبوا مني أن أوجه بصوتي وبأسم الحزب الشيوعي العراقي نداءا إلى الرفاق وأصدقاء الحزب في الداخل ليلتحقوا بأقرب قاعدة عسكرية للأنصار لمساعدتهم وإيصالهم إلى مقرات حزبهم. كان الاقتراح جيداَ ودلل على التعاون والتضامن بين حزبينا في الوقوف ضد الإرهاب المسلط من قبل النظام العراقي . في ذلك الوقت كان من الصعب الاستجابة لمقترحهم لسببين أولا: لست مخول حزبياً لمثل هذه المهمة؛ وثانياَ: كانت سياسة الحزب حينذاك، عدم كشف أنفسنا ونحن في الجبال كي لا يؤخذ كذريعة من قبل النظام العراقي لاتخاذ إجراءات قمعية بربرية بحق الذين مازالوا تحت المراقبة ولديهم الرغبة الشديدة للالتحاق بنا بشكل سري عند وجود أية فرصة سانحة، إضافة إلى أننا مازلنا في بداية العمل العسكري، وإنشاء المقرات والمحطات لضمان الاتصال بالداخل والخارج. في نهاية الأمر اقتنعوا بصواب رأيي ولم أنفذ ما طلبوه مني .
وقعت في هذه القرية المسماة (بازي) في أواسط الشهر السادس سنة 1977 معركة مسلحة دموية بين مسلحي الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) و القيادة المؤقتة للحزب الديمقراطي الكردستاني راح ضحيتها من أوك عشرات من القتلى والجرحىَ والأسرى، ومن الذين سلموا أنفسهم للربايا العسكرية، ونجى عدد قليل من مقاتلين فقط.. وتحدث النصير ملازم (…) لي عن المعركة الدموية في هذه القرية التي نصفها تحت حماية قوات أوك والنصف الآخر تحت قيادة القيادة المؤقتة لحدك: إنها خسارة لا تعوض ونتيجة للسياسات الخاطئة . بعد يوم من الراحة تابعنا مسيرنا عبر (كلىهورمار) في (جه مي توو) وهي أيضا قاعدة لاستقبال المفارز من أجل تأمين راحتهم
كنا في الأول من أيار نحث الخطى داخل كردستان العراق بحذر شديد بين الألغام في القرى المهجورة وخارجها، بين بقايا الأشجار المثمرة المتروكة والمحروقة بقنابل النابالم، مئات القرى المحروقة على الشريط الحدودي، وقد شاهدنا عشرات الحيوانات النافقة، دببة وخنازير ومعز بري وغيرها، متعفنة نتيجة انفجار الألغام تحت أقدامها، ومن نجى منها من القصف بالنابالم والقنابل العنقودية، وقع تحت رحمة صيادي الجحوش الفرسان فأنقرض الكثير منها كالوز ( من فصيلة النمر) وحيوانات برية كثيرة لا تقدر بثمن . وبينما نحن في طريقنا كنا نسأل عن سبب وجود قرى نصفها محروقة والنصف الباقي غير محروقة ، وكان أصحابها يقولون: النصف المحروق يقع في الحدود العراقية والبقية الباقية تابع للأراضي التركية. كنا نجتاز الحدود بين الدولتين كأننا أنهر أو طيور أو حيوانات برية لا تعترف بالحدود وكنا نحن كمناضلين لا نعترف بهذه الحدود المصطنعة لأن الحكام الفاسدين لا يعترفون بنا كمناضلين ويتعاملون معنا بقوانينهم الجائرة إذاَ من حق المناضل أن لا يعترف بقوانينهم، وليس للمناضل الثوري حدود دولية في ساحة نضالهم العادل. ومع اجتيازنا عشرات الكيلومترات مشياَ على الأقدام، وتحملنا مصاعب وآلام الطرق الوعرة، وثقل ما نحمله على الظهور، والأوجاع الحادة في الفقرات والأقدام نتيجة احتكاك الأحذية البلاستيكية المحرقة للأقدام . جبال شاهقة ووديان وعرة وغابات كثيفة، وأمطار غزيرة، هذه الطبيعة القاسية التي كانت ومازالت تحمي شعبنا الكردي من الأعداء الشوفينيين , شعب يمتلك مثل هذه الطبيعة لابد أن ينتصر حتماَ. وأن مجرد رؤية ما حل من آثار بربرية ووحشية البعث نتيجة الحرب (الجينوسايدية) و الإبادة الجماعية ضد الشعب الكردي يشعر بهول الجريمة التي ارتكبت بحقه .
اقتربنا من قاعدة بهدينان لحدك على ضفة نهر الخابور، بين سلسلة من الجبال العالية المسماة (كلي كوَماتة) والتي كان سكانها أهالي قرية (يه ك مالَة) الكردية العراقية الموروثة عن أجدادهم عبر تأريخ طويل، وهي دلالة عن أن هذا الشعب كانت أراضيه موحدة، وتقاليده وعاداته ولغته وتكوينهم النفسي واحدة.. لقد قسمته الدوائر الاستعمارية قسراَ وحرمته من ابسط حقوقه القومية والديمقراطية والحرية . عبرنا نهراَ عريضاَ هادئاَ، ودخلنا القاعدة الموجودة بين الصخور وأشجار الجوز العالية وأشجار الفواكه المثمرة ، كان الأخوة المقاتلين في هذه القاعدة ومن بينهم سيد حميد الذي كان مسؤولا مؤقتاً القاعدة آنذاك وكان معتمد لعيسى سوار، الذي سبق وأن قام بتصفية 12 رفيقاً من شبيبة حزبنا العائدين إلى الوطن عبر كردستان (قرية ديربون الحدودية مع سوريا على نهر دجلة ) بعد إكمال دراستهم في الاْتحاد السوفيتي وبلغاريا وكنت مشرفا عنهم في أيام دراستهم في مدرسة كومسومول في موسكو سنة 1973 .
لقد استقبلونا نيابة عن مسؤول القاعدة غازي زيباري الذي كان مسافرا إلى سوريا، كانوا يعرفون مسبقا عن مهمتنا عن طريق أجهزة اللاسلكي . هذا الموقع من الناحية العسكرية حصين واستراتيجي في المنطقة ، في فصل الشتاء ينقطع الطريق تماماَ بسبب تساقط الثلوج، وفي الربيع وأثناء ذوبان الثلوج يجري قطع النهر عن طريق سلك ممتد للطرف الثاني، وفي فصل الصيف لا تتجاوز حرارة الجو 30 درجة وفي هذا الموقع يدخل نهر الخابور أراضي كردستان العراق، وفي الجانب الشمالي من القاعدة ساقية عرضها 3 أمتار تحدد الحدود المصطنعة مع كردستان تركيا. كان الأنصار هنا منهمكين في أعمالهم اليومية، للاستقبال وتوديع المفارز التي تقوم بمهماتها القتالية والتموينية ، وربط الصلة مابين الداخل والخارج. و بعد بقائي أسبوعاَ واحداَ في القاعدة منتظراَ التوجه لسوريا عبر تركيا بين المدن والقرى (اولودرة و قضاء شرناخ وسهل سلوبيا وجزيرة وقرى نصيبين ) الحدودية لسوريا، مشياَ على الأقدام بدون جواز ولا وثيقة رسمية وبسرية تامة، وقد يستغرق الطريق أكثر من أسبوع من أجل الاتصال بقيادة الحزب و بالتالي تأمين العودة لإيجاد الطريق وتوفير المستلزمات للأنصار الجدد من العتاد والمؤن لبناء قاعدة بهدينان، والتي كانت في البدء بمثابة محطة لتزويد قوات الأنصار في منطقة سوران بكل ما هو ضروري لمهماتهم الأنصارية ونقل الملتحقين، من الخارج ومن الداخل، وإيصالهم إلى مقرات الحزب العسكرية في سوران
كما أشرت بقيت أسبوعاَ واحداَ، وقد جاءت مجموعة من الشباب المسلح من جناح حزب الديمقراطي الكردستاني تركيا ( كوك) بقيادة الأخ المناضل عبد الرحمن كوندكى و من بينهم الشهيد سوفي والشهيد عثمان، اللذان استشهدا من أجل حزبنا الشيوعي العراقي, والأخ درباز من أهالي (…..) لزيارة القاعدة ولتعزيز العلاقة مع القيادة المؤقتة (حدك) ومن خلال سيد حميد ومحمد زاخولي تعرفت على هؤلاء الكوادر وأنصار (كوك) ولأول مرة جرى التعارف واللقاء بين حزبنا وكوادر جناح حزب كردي من كردستان تركيا(كوك) وهم من حملة الفكر الماركسي في مواقع نضالية مشتركة ضد النظامين الاستبداديين في تركيا والعراق. كانوا يملكون معلومات جيدة عن حزبنا وعن موقفه المبدئي ألتأريخي تجاه القضية الكردية، وبتوصية ممثلي حدك وافق هؤلاء المناضلون على إيصالي إلى سوريا بشكل سري. وبعد أسبوع من الانتظار تركنا القاعدة ، في 6 أيار 1979، وتحركنا نحو سوريا من داخل تركيا ومن (يه ك مالَه) بالذات نحو قرية ( بيَزىَ). لقد سلكنا طريق جبل جود المعروف بقصة سفينة نوح المذكورة في القرآن الكريم. كانت المنطقة والقرى الحدودية حينذاك خالية من الجيش التركي لذلك اجتزناها نهاراَ، بحماية مقاتلي كوك المتكونة من 10 شباب مسلحين، من دير للعبادة للأخوة المسيحيين ، المتكون من صالة العبادة وعدة غرف جميعها محفورة في الجبل ، وكان مكاناً عاصياً وحصين جداَ وهو موقع من الصعب أن يصل إليه العدو. وكان يمثل مشهد رائع من التراث الديني المرتبط بالتأريخ يدل على كيفية الحماية التي أتبعوها لحماية أنفسهم من غزوات العثمانيين قبل مئات السنين.
تركنا هذا المعبد الذي يصور قدرة الإنسان وعظمته ، وبدأنا بالسير مشياَ باتجاه سوريا بينما كان المطر ينهمر ليزيد من صعوبة تحركنا المستمر، وبعد أربعة أيام اقتربنا من قرية (بليكان) الجبلية ، كان الوقت ليلاَ، اتفقنا على دخول كل اثنين إلى القرية بشكل سري تحسباَ من الجيش التركي داخل القرية، وكان هدفنا الحصول على الخبز، واعتبارها محطة استراحة قصيرة. تركنا القرية بعد ذلك متجهين نحو الجبل المشرف على سهل (سلوبيا). كان الوقت فجراَ ونحن على مرتفع جبلي نشرف ونرى أضواء السيارات على طريق ( سلوبيا إبراهيم خليل ) العراقية، كما لاحت لنا أضواء معسكر(القرقول) على الحدود مع سوريا، وهنا لا يمكن اجتياز نهر دجلة نهاراَ لأنه يشكل خطورة اكتشافنا ولهذا قررنا الانتظار إلى المغرب، وكان علينا أن نختفي بين الصخور، ولحسن الحظ فقد كانت الليلة غير قمرية، وهذا يساعد على الاجتياز بأقل خطورة، وكان مسؤول المفرزة الأخ عبد الرحمن وهو مناضل جريء من الكوادر القيادية لتنظيم (كوك)، يعرف الطريق جيداَ وله علاقات جيدة مع فلاحي هذه القرى داخل تركيا وسوريا.. وهو مطارد ومطلوب من قبل الحكومة التركية، تهم ملفقة ضده من قبل الميت التركي.. لم تكن معنا وثائق شخصية سوى سلاحنا والخبز الذي نحمله معنا ، وجهاز ناظور به حددنا من بعيد نقطة الاجتياز إلى آخر قرية حدودية داخل تركيا وهي قرية ( باسورين )على نهر دجلة.. مع غروب الشمس بدءنا بالتحرك ، سرنا ست ساعات، مشيا متواصل، بعده وصلنا إلى طريق معبد بين سلوبيا والجزيرة، كان ذلك على امتداد معسكرات قرقول التي تراقب الطريق ضد مهربي الحيوانات إلى سوريا، فمن المغرب يبدأ انتشار حرس الحدود (القرقول) بنصب كمائن عديدة في الأماكن الحدودية الحساسة ومن لا يعرفها مسبقاَ يقع في مطبات عديدة لتجعل الاجتياز صعباً. ووصلنا الشارع الدولي بين العراق وتركيا، وكانت أضواء قوافل السيارات مستمرة لا تنتهي ولا يمكن تميزها، هل هي مدرعات عسكرية لحماية الطريق أم سيارات أهلية عادية ؟. كنا نضطر أن يكون سيرنا قرب معسكرات الجندرمة التركية حتى نقترب من أضواء المعسكر دون أن نحدث أي صوت، كما كنا نبتعد عن مواقع الكمائن وأبراج المراقبة الممتدة والمتلاصقة على طول الحدود التركية السورية، وأحياناً نسمع من بعيد إطلاق رصاص بين المهربين والقرقول التركي. وكنا نحدد حسب تقديراتنا وحساباتنا الدقيقة الطرق السليمة والآمنة. وعند الفجر وصلنا إلى قرية(باسورين) الحدودية على نهر دجلة.. كان في هذه القرية أسوة بالقرى الأخرى، تنظيمات سرية لتنظيم (كوك) وبقينا في أمان وتوزعنا على بيوت القرية، وقام الأطفال الذين تدربوا على مراقبة تحركات القرقول التركي بمهمتهم الرائعة.. أطفال كالأزهار الجبلية في ربيع كردستان، وكانوا يحذروننا في حالة حدوث أي طارىء لنتمكن من الاختفاء داخل الحقول بين سنابل الحنطة والشعير العالية..أطفال معرضين لأشد المخاطر، يضحون بحياتهم من أجلنا، إنها حياة قاسية، لكن لا طريق آخر سوى أن تتعلم الأجيال كيف تسترد حقوقها من الحكام الظالمين. كانت المنطقة هادئة في النهار ، كل شيء تحت مراقبة حراس الحدود (القرقول)، لا حركات غير طبيعية، نهر دجلة يمر بعنفوانه المخيف ليفصل أراضي كردستان تركيا عن سوريا، ليدخل بعد ثلاثمائة متر إلى كردستان العراق في المثلث الحدودي التركي/السوري/العراقي. قام بهذا التقسيم لأرض كردستان الدول الاستعمارية بدون إرادة الشعب الكردي، وهو إجحاف تاريخي بحق ، هذا التقسيم أراه وألمسه واقعياَ.. تقسيم مفتعل يتنافى مع ابسط القيم الإنسانية..
حددنا الليل لعبور نهر دجلة وحصلنا على إطارات تراكتور مطاطية لنعبر عليها، وأصبح الليل الدامس الثقيل بدون قمراً يبدد ظلامه محبوباَ لدينا من أجل حماية أرواحنا من جندرمة الحدود. وتحركنا نحو نقطة العبور وسمعنا أصوات إطلاق رصاص عشوائي وكاشفات أضواء على طول الشريط الحدودي بين الحين والآخر. وأثناء نفخنا الإطارات المطاطية سمعنا فجأة صوت من قادم من الأعشاب ومن فوق الصخور القريبة من ضفة النهر، وعند أقترب الصوت أكثر فأكثر، أخذا وضع الاستعداد والمجابه، إذ لا طريق آخر لنا سوى الدفاع عن أنفسنا، إلا أن المفاجأة الثانية كانت أكبر من الأولى حيث رأينا قطيعاَ من الخنازير البرية تخرج من بين القصب بشكل سريع متجهةً نحو النهر إلى داخل الأراضي السورية. لقد عبرت الخنازير قبلنا وبضجة غير قليلة. بدأنا بتنفيذ قرارنا وذلك بعبور أربعة منا للنهر، كلً اثنين على إطار مطاط مشدودين بحبل. وقد شرح لنا مسئول العبور كيفية التعامل والحركة أثناء العبور وضبط التوازن، حركة الرأس، تحريك اليدين والرجلين، وضع الملابس فوق ظهورنا، وأن أي خطأ سيلحق افدح الأضرار والمخاطر وقد ذكروا أنه حدث قبل أسبوع وفي هذا الموقع بالذات واقعة غرق شاب من (فدائي خلق- الأكثرية) الإيرانية دون العثور على جثته. في هذه اللحظة مر بخاطري (مناضل سلك الطريق لخدمة حزبه وشعبه ضد الاضطهاد في بلاده ليلاقي جحيم النهر والموت غير المنتظر في الغربة). وبعد عبورنا نهر دجلة البارد دون عوائق، استقبلنا على الجانب السوري وفق خطة مسبقة النصير خليل من(كوك). أما الأنصار الستة الباقين فقد انسحبوا إلى القرية بعد أن أطلق خليل رصاصتين ناريتين، وهي إشارة لهم على وصولنا بسلام.. وسينتظرون لحين عودة مفارز من سوريا تروم العبور إلى العراق. وفي الجانب السوري من النهر توجد قرية لا أذكر اسمها ، كان لادلائنا عبد الرحمن وخليل معارف فيها. وقد رافقنا خليل إلى البيت الذي يقع بجانب النهر، وكانت الساعة تشير إلى الساعة الثانية عشر ليلاَ، لقد رحب أهل البيت بنا كثيراَ وقدموا لنا الخبز واللبن والشاي ونمنا نوماَ عميقاَ. وفي الصباح سافر خليل إلى القامشلي وكان الاتفاق في اليوم الثاني أن نلتقي معه في ضاحية القرية حيث كانت السيارة جاهزة. لكن بعد خروجنا من البيت نحو موقع السيارة صادفتنا سيارة لشرطة الحدود السورية ، توقفت السيارة ونزل منها أحد أفراد الشرطة وسألنا :
من أين أنتم ؟ عرفوا الجواب إننا غير سوريين، لذا طلبوا هوياتنا!؟ وكنا لا نحمل أية هوية.. فأخذوا يفتشوننا، وقلنا لهم نحن من أكراد تركيا ونسلم أنفسنا للحكومة السورية، صعدونا في خلف السيارة البيكاب وكان في الكابينة ثلاثة من الشرطة أحدهم سائق السيارة .. تحركت السيارة نحو مركز شرطة المالكية، الطريق غير مبلط، صادفتنا مرتفعات ومنحدرات صخرية حادة.. كانت العلاقة السورية التركية وكذلك مع العراق جيدة، وفي حالة اكتشاف أمرنا من خلال لهجتنا، فليس من المستبعد تسليمنا في الحدود، لذا قررنا أنا وعبد الرحمن الهرب وعندما اقتربت السيارة من أحد المنحدرات قفزنا من السيارة نحو السفح وبشكل سريع باتجاه دجلة. كان أمامنا مستنقع وأشجار كثيفة وأحراش عالية ، عندما شعر الشرطة بهروبنا أوقفوا السيارة وبدءوا بإطلاق الرصاص علينا دون جدوى فمن الصعب ملاحقتنا، فتركونا بعد أن يأسوا من الملاحقة ، واختفينا في الوحل، وأصبحت ملابسنا رمادية اللون من الطين وبقينا إلى المغرب داخل المستنقع ومع غروب الشمس خرجنا من الأدغال ورجعنا نحو القرية ليلاَ، وعند وصولنا كان خليل قد عرف بحادث هروبنا، ولهذا كان ينتظرنا مع سيارة من الحزب الديمقراطي الكردي السوري ، وتحركنا نحو القامشلي. كان السفر مجازفة منا، لاسيما في الليل إذ تكون القرى الحدودية تحت رقابة مشددة لملاحقة المهربين. ومع هذا وصلنا إلى القامشلي، وبتنا في بيت أحد كوادر الحزب الديمقراطي الكردي السوري. لقد سألت مضيفي عن الشيوعيين السوريين . فطمئنني جوابه وعند الصباح جاءنا الرفيق الدكتور(…) وأخذنا إلى بيت أبو شهاب، لم يكن حينذاك أي شيوعي عراقي في القامشلي، وبقيت مختفياَ في بيته لمدة أسبوع كامل، كان الاحتضان والعناية بي من العائلة الكريمة يفوق التصور، أثناء ذلك اتصلوا بالرفيق أبو جنكو عضو م. س للحزب الشيوعي السوري لأشعار رفاقنا بوصولي.. كانت علاقة حزبنا مع الحكومة السورية جيدة ولكن في دمشق فقط، إذ كان يقيم في دمشق آنذاك الرفاق كريم أحمد وأبو عامل وأبو فاروق وآخرين.. بعدها سافرت بالقطار، وهو أأمن من السيارة، إلى دمشق، والتقيت بالرفاق في بيت أبو جنكو، ووصلت في الوقت نفسه عائلتي هاربة من بطش النظام العراقي، فقال لي أبو فاروق عندما كنا في بيت الرفيق أبو جنكوَ الآن لديك مهمات صعبة داخل تركيا والعائلة لا تتحمل الحياة الشاقة السرية هناك، فمن الضروري عودة العائلة إلى العراق.. مع العلم أن عدداَ من عوائل كوادرنا الذين نجوا من مطاردة الأجهزة الأمنية العراقية كانت موجودة في سوريا أو لبنان. أرجعت العائلة قسرا وسافرت أنا إلى لبنان بجواز بلد عربي مزور من طريق خاص، ووصلت بيروت واستقريت في بيت الرفيق أبو نجاح مع عائلته. كانت الطائرات الإسرائيلية، في تلك الفترة، تقصف بيروت يومياَ وهي تجوب أجوائها متى شاءت وفي إحدى المرات قصفت مقرات المنظمات الفلسطينية داخل بيروت ومنها الجبهة الديمقراطية. كان عدد من رفاقنا يعملون في مكاتب الحزب ويتدربون على حرب الأنصار في معسكرات المنظمات الفلسطينية في جنوب لبنان. وأثناء زيارتي ذات يوم مع أبو ناصر لرفاقنا المقاتلين في معسكر التدريب في الجنوب، أغارت علينا طائرتان إسرائيليتان فجرح الرفيق علي جرحاَ بليغاَ وأرسل على أثر ذلك إلى المستشفى الأمريكي في بيروت ثم إلى موسكو للعلاج.
وفي أحد الأيام أخبرني الرفيق أبو فاروق بمهمتي الانصارية وهي بناء قاعدة بهدينان في كردستان العراق ويرافقني كل من أبو باز وأبو علي الشايب وأبو جهاد وأبو داود. وافقت على القرار فوراً، كما سبق وأن وافقت سابقاَ أمام رفاق لجنة إقليم (هندرين) في ناوزنك .
لذا قررنا العودة والسفر يوم 13/9/1979 من بيروت نحو القامشلي عبر بوابة نصيبين قامشلي الرسمي مع جوازاتنا المزورة، لذا لم نبقى في القامشلي سوى ساعة واحدة، في نصيبين وبمرافقة رفاق من (كوك) إلى قضاء شرناخ ومن هناك رافقنا عبد الرحمن إلى القاعدة في كلي كوَماتة. وفي الطريق وزعنا المبلغ الذي كان بحوزتنا وقررنا إذا ما أعتقل أحد منا عليه ينكر معرفته بالآخرين وأنه جاء بمفردة وليس معه أحد. وصلنا في يوم 19/9/1979 إلى(كلي كوَماتة) وكالعادة رحبوا بنا بيشمركة (حدك) وخصصوا لنا غرفة المكتبة، وفي اليوم الثاني بدأنا بتخطيط بناء قاعدة من غرفة وقاعة كبيرة بجانب قاعدة حدك، وبدأنا نجمع الحجر والحطب وحفر الأساس، وكان الرفيق أبو باز من أبرز النشطاء في عملية البناء وله إلمام بها. ووصلت بعد أسبوع الوجبة الثانية من الرفاق، وهم أبو شروق، أبو حازم، أبو وجدان، عبد السلام، مع وضع أول حجر لأساء القاعدة.. وقد وضعنا نسخة من جريدة طريق الشعب لتأكيدنا بأن الحزب الشيوعي العراقي لن يموت ويبقى حيا. وبعد أكثر من شهر جاء الرفاق أحمد الجبوري (أبو ازدهار) ومجموعة أخرى من رفاقنا المقاتلين، أبو رضية، أبو ثائر، المرحوم سلام عبد الرحمن الدهوكى، أبو محمد القصير الروستى. في حينها سلمني أبو ازدهار رسالة بتوقيع(م.س- المكتب السياسي)، وقد طلبت أن يجتمع الرفاق جميعهم ثم أخذت في قراءة الرسالة التي كان مضمونها عبارة عن توجيهات بتسليم القاعدة إلى أبو ازدهار و أبو باز يكون مساعداَ له، وقادر رشيد (أبو شوان) ينسحب إلى نصيبين، على أن أبلغ بمهمات جديدة لاحقاَ داخل تركيا. (لم يقتنع الرفيق أبو باز بالقرار فهو يعتبر نفسه أجدر وأكثر استحقاقاَ من أبو ازدهار). كنت أعرف مسبقاَ أن مهمتي الجديدة هي نقل السلاح والرفاق إلى قاعدة بهدينان والى سوران عن طريق قضاء كفر يوكسوكوثا إلى شرناخَ، مع عبد الرحمن ورفاقه من كوك. في هذه الفترة الزمنية وبعدها بشهرين قامت إدارة حدك في القاعدة بمصاريف رفاقنا، كان عددنا يربو إلى أكثر من 30 رفيق إضافة إلى مساعداتهم الجدية في بناء القاعدة وتشغيل المعتقلين من الجواسيس والمندسين البعثيين كان منهم على ما أذكر عميل المخابرات العراقية واسمه كلش الذي له إلمام بمهنة البناء.
بعد فترة بدأ الرفاق في القاعدة بشراء المواد الغذائية والحاجات الأخرى عن طريق الأخ درباز من تركيا، وقد تركت القاعدة نحو مدينة نصيبين الحدودية مع سوريا وبدأت بإنجاز المهمة التي كانت محاطة بالمخاطر الكثيرة والمتنوعة، فعملي كان مع كوك، بينما كان شعار PKK آنذاك إعلان الحرب التناحرية على كل الأحزاب الكردية ورؤساء الدوائر داخل كردستان تركيا، وضد تنظيماتهم في الريف والمدن وكان يقوم بالاغتيالات ومداهمة البيوت يومياَ، وتعرضت للاغتيال عدة مرات بسبب تواجدي مع تنظيمات كوك..ومع هذا بدأت بنقل السلاح والرفاق إلى قاعدة بهدينان وعند الضرورات كنت أسافر إلى القامشلي أو دمشق وبيروت من أجل استمرارية المهمة. و في أحدى سفراتي إلى دمشق وكانت في بداية عام 1980 اجتمعنا كل من الرفاق كريم أحمد وبهاء الدين نوري وأبو عامل وأبو رائد و أبو شوان، لغرض تقييم إنجازات وإخفاقات ومهمات الرفيقان بهاء الدين وأبو شوان السابقة و مناقشة التغيرات في نقل السلاح والرفاق، عندها أنتخب أبو عامل بدلاَ من بهاء الدين وتكون علاقة أبو شوان وأبو رائد مع أبو عامل مباشرةً، على أن يعود أبو شوان إلى تركيا، ويكون أبو رائد في الشريط الحدودي لنقل السلاح، وعين الرفيق كريم أحمد مشرفاَ . كما جرى في الاجتماع محاسبة الرفيق بهاء، لأنه لم يكن موفقاَ في مهماته، إذ سرقت ونهبت عشرات القطع من السلاح والعتاد وسيارة الحزب، نتيجة تصرفاته وقراراته وممارساته الفردية في بيروت وتجاهله لرأي أبو شوان.
في أحدى مهماتنا لنقل كمية كبيرة من الأسلحة ومجموعة من الرفاق من سوريا إلى داخل تركيا ثم إلى بهدينان وبصحبتنا الرفيق أبو عامل والرفيق أبو رائد والرفاق في kuk، و باقتراح من عبد الرحمن سلكنا أنا وأبو عامل طريق السيارة إلى قرية أولودره وفي سيطرة أولودرة ، أوقفوا سيارتنا وسألوا عن هوياتنا وفتشوا جيوبنا فعثروا على ألفي دولار في جيب أبو عامل ، وكان الجندرمة الأتراك وهم من كادحي وفلاحي القرى لا يعرفون عملة البلد فقلنا لهم إنها عملة أمريكية.. أحد الجنود أخذ الدولار وذهب يسأل الضابط وهذا المبلغ أدى إلى استجوابنا، سألنا الضابط عن سبب تواجدنا في المنطقة، كان السائق من رفاق كوك معنا وهو كان أيضاَ معنا في قافلة السلاح، كما سأل الضابط السائق: من أين وجدت هؤلاء ؟ قال السائق: من مدينة الجزيرة وهم تجار وسواح في الوقت نفسه ويريدون زيارة المنطقة، قال الضابط: هذه المنطقة غير سياحية، مع ذلك أرجعوا إلى الجزيرة، سلمهم إلى الشرطة كي يؤجروا لهم سيارة وتعود بهم إلى استنبول.. أطلقوا سراحنا ورجعنا وفي الطريق قال السائق: نحن جئنا من القرية والقافلة مازالت هناك إنني لم أعترف وسوف نذهب إلى الجزيرة لأخذ الورقة للضابط وهناك أخبر الشرطة بأنني سأوصلكم إلى استنبول، لكن بدلاَ عن استنبول نعود إلى مكان الأسلحة، ولوحدي أرجع إلى الضابط لأخذ إجازتي للسياقة منه وأخبره بسفركم إلى استنبول، وافقنا على رأيه وبهذه الطريقة عدنا إلى مكان الأسلحة وواكبنا المسيرة إلى قاعدة بهدينان، وقبل وصولنا إلى القاعدة مررنا بقرية تسمى يكماله، داخل تركيا حيث تعرضت القافلة للسطو من قبل بعض المسلحين من أهالي القرية وطلبوا منا دفع الضريبة وهي 4 قطع كلاشنكوف لمرور القافلة في أراضيهم وكان عددهم ثلاثة مسلحين فقط، ونحن عددنا خمسة عشر مسلحاَ، عبد الرحمن وأنا رفضنا الرضوخ لهم وقررنا أن نقاومهم، لكن الرفيق أبو عامل طلب منا الانسحاب ووافق على تلبية مطالبهم تجنباَ لإراقة الدم، نحن اعتبرنا موقف رضوخ أبو عامل غير مبرر. هكذا دفعنا ثلاثة قطع كلاشنكوف مضلي، بعد ذلك وصلنا إلى القاعدة، والحمولة عبارة عن سلاح من نوع (سام7 و RBG وbkc, و غيرها من الأسلحة الخفيفة والثقيلة. وبسبب الجهود الكبيرة ازدهرت وتوسعت القاعدة ، وعلى أثرها أنشأنا قواعد أخرى وأصبح الحزب الشيوعي العراقي متمكناَ في الساحة وقام بمنجزات عسكرية كثيرة أسوة بالأحزاب الأخرى وتوسعت مهماته القتالية حيث شملت جميع مناطق كردستان من بهدينان إلى سهل شهرزور وكرميان، وقره داغ ومنطقة أربيل من سنة 1979 لغاية 1991، وقاد المعارك الكثيرة إلى آخر نفس من أجل إسقاط الدكتاتورية في العراق وتحريرأرض كردستان. لم تذهب جهودنا أدراج الرياح ولم تكن هدراَ. وفي أواخر صيف 1988 دمرت هذه القاعدة، كغيرها من قواعدنا في المناطق الأخرى كذلك قواعد باقي الأحزاب الكردستانية وكثير من القرى من الأراضي المحررة، بالأسلحة الكيماوية من قبل الطائرات العراقية. وفي ربيع وصيف عام 1988 ونتيجة لهذه الحملة الوحشية الشرسة وعدم توازن القوى وبشاعة أسلحة العدو الفتاكة وقوته المدمرة من الجيش والجحوش المرتزقة التي قوامها عشرات الألوف، انسحبت جميع قوات بيشمركة الأحزاب المناضلة إلى الشريط الحدودي لإيران في مرتفعات قرية دوله كوَكا وجويزه في خريف 1988 وبدءوا من جديد في عملية لملمة البيشمركه وتضميد جراحهم المعنوية وتنظيم صفوفهم مرة أخرى نحو المقاومة والهجوم إلى أن تحررت أرض كردستان في النهاية من حكم صدام الهمجي منذ عام 1991 .
(*) هذه جملة من الذكريات التي تنتظر مساهمة تطويرها من كل رفاقنا بغية إبراز كفاح حزبنا الشيوعي وإبراز مآثره النضالية. لا نعتقد بأننا نحمل الحقيقة وحدنا.. أدعو كافة الرفاق إلى تعديل وتصحيح ما فيها . انها خطوة نحو فهم ذاتنا النضالية لمن يريد ذلك.[1]