د. #منيرة أميد#
كانت قد وصلت عدن ملتحقة بزوجها مع وصول اوائل العراقيين الهاربيين من جحيم الطاغية.. فعاصمة اليمن الجنوبي كانت قد اصبحت منارة للثوار .. وتحتضن على ارضها الكثير من حركات التحرر العربية.
تركت اهلها .. وهي متألمة وقلقة عليهم .. تركت ثلاث من اخوتها رهن الاعتقال
ومصيرهم مجهولاً ؟!
لم تألف بعد الحياة في الغربة ، ولا كانت من ذلك النوع الذي يحب التنقل والترحال .. لكن القدر كتب لها هذا .. وعليها تحمله.
قضوا الاشهر الاولى من حياتهم في فندق راقي جداً .. ورغم ما كان متوفراً من وسائل الراحة .. الا انها كان تتوق لحياتها السابقة ، في حضن الاهل والاحبة ..
كان قد تم تعينها قبل ان تصل كمدرسة في أحدى الثانويات.. الا انها لم تكن قد التحقت بالعمل بعد .. كانت حاملاً .. وتنتظر مولودها البكر .. التي كانت تتمنى ان تضعه في وطنها .. لان في تصورها ومخيلتها لم تكن تفكر سوى ان الاحوال في الوطن ستتغير بسرعة؟! وعودتها سريعة لا محالة؟؟!!
ذات مساء وفي جولتها اليومية الذي اعتادت ان تقوم بها بصحبة زوجها .. للذهاب الى متنزه نشوان، غير البعيد عن الفندق الذي تسكن فيه .. لمحت أحدى العراقيات ، فعرفتها على الفور .. رغم انهما افترقتا قبل اكثر من عشر سنين .. انها هي نفسها ذات الوشاح الاسود، كما كانت تطلق عليها عندما كانا معاً في المدرسة ..كانت تسبقها بمراحل دراسية .. و سبب ارتداءها الوشاح، انها كانت في حداد على والدها ، الذي اعدم بتهمة، اكثر ما تردد انها كانت ملفقة ، لانه كان من ممولي ومزودي الحركة الكوردية بالسلاح.. وقد اتضح امره واصبح مكشوفاً للسلطات في بغداد بعد بيان 11 آذار . الذي استقبله الكورد الفيلية بفرح غامر ، وباحتفالات واهازيج ، استمرت أياماً .
اقتربت الاخرى ايضاً منها وتعانقتا ..دون كلام .. وانما كانت الدموع هي لغتهما المشتركة .
كانتا قد افترقتا بعد انهاء أحدهن دراستها الاعدادية، وانتسبت كل منهما الى كليات مختلفة ، ثم اخذهن العمل والزواج ، ولكن الان كان اللقاء .. تحدثتا .. عما حدث منذ افتراقهما.. زميلتها التحقت بالعمل في جامعة السليمانية .. في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الكورد .. فشهدت انهيار الثورة عام1975 ، و تعرضت بعدها الى الكثير من مضايقات. ثم الزواج والهروب الى المنافي ، ليلتقيا هنا في عدن ؟!
في الحفلة التي اقيمت بذكرى 45 لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، التقيتا مجدداً .. هي اشرفت على معرض الصور والبوسترات وجمعت التبرعات .. والاخرى قدمت اغنية كوردية بالحفل الفني .. ضحكتا معاً للمفارقة التي حولت صاحبتها الى مغنية في حفل كبير، حضوره بالمئات دون اي ميل فني سابق.. لكن الاصرار يعمل المعجزات ، لانها لم تقتنع ان يكتمل الاحتفال دون اغنية كوردية .. حتى يعكس مساهمة كل الوان الطيف العراقي ..فكانت الاغنية الفلكلورية ( دوريم له ياران) ( بعيد عن الاحباب)، وموسيقى دبكات هزجت عليه الفرقة التي اعدت الاحتفال في فترة قياسية ، وكذلك الحضور.فبرزت هذه الفقرة بشكل لافت ادهش الجميع، و كانت اول مرة تسمع فيها اغنية كوردية في تلك الاصقاع.
توطت العلاقة بينهما اكثر واكثر، رزقت احداهما بمولود ذكر والاخرى بانثى ، حمل الاول اسماً يرمز الى اليمني الاصيل تيمناً بمسقط راسه ،والاخرى أسم كساء جبال كوردستان في عز الشتاء.
ذات صباح كانت جالسة تتهيأ لخياطة ثوب لعيد نوروز القادم قريباً .. دق خفيف على الباب .. كان ساعي البريد .. استلمت رسالة .. انها رسالة من احد ابناء عمومتها .. كان هو الاخر تنقل في المنافي منذ فشل الثورة كوردية اواسط السبعينات ففضل عدم العودة الى بغداد. كان قد وصل ايران مع وصول المهجرين العراقيين اليها مطلع الثمانينيات.
فتحت الرسالة بلهفة .. ولكنها قرأت في المقدمة .. بسم الله الرحمن الرحيم
انا لله وانا اليه راجعون .
سمعنا من المهجرين الى ايران ، نظراً للظروف العصيبة التي يمر بها الوطن ، انه قد استشهدت الأم الرؤوم والدتكم والاخوة ...............
سمعت صدى صرختها.. وغرقت في ظلام .. أفاقت بعد أيام .. وهي ترتجف من البرد .. في حر عدن اللافح .. لم تستطع الكلام .. لم تعد تتذكر اي شئ .. حدثها زوجها عن الوفود التي زارتهم من القيادة اليمنية والحزب الاشتراكي اليمني مواساة لهم .. وعن وفد اتحاد نساء اليمن .. وعن وفد حركات التحرر .. ومنظمات الفلسطينية العاملة في اليمن .. عن برقيات مواساة التي ارسلها طلبتها.
لكنها لا تتذكر .. عيونها تتحرك في مقلتها تنظر .. الى ذاك البعيد القريب .. اخوتها امها والدها .. وكيف انه كتب لها ولهم الفراق الابدي .. كانت هناك احدى معلمات طفولتها .. وكذلك احدى الرابطيات والشيوعيات الباسلات .. التي تعرضت للتعذيب وبشكل فظيع أبان انقلاب الذي جاء بالبعث الفاشي للسلطة عام 1963.
بقيتها ليلتها معها .. يتحدثون اليها .. ليخففوا من محنتها .. ويذكرونها بمحن عشرات العراقيين الذين سبقوها..تتذكر كيف جاءت صديقتها الفيلية .. في اليوم التالي .. وكيف احتضنت احداهما الاخرى بالعويل .. سمعت عندها من الحضور من يقول .. انظروا كيف احداهن تشعر بالاخرى ..وتعرف اسلوب مواساتها .. هل لذلك صلة لكونهما فيلييات؟؟؟
رغم مصابها ومرضها .. لم تشأ ان لا تحضر المؤتمر الذي عقد لاعادة الحياة لرابطة المرأة العراقية .. كانت تزغرد مع الحضور فتشعر انها في زفة عرس اخوتها الذين غادروا قبل الاوان.
لم يطل وجود صديقتها كثيراً في عدن .. فقد غادرتها الى احدى البلدان الاشتراكية لاكمال دراستها العليا.
***
دقت عليها الباب .. فسلمت عليها باللغة الكوردية .. ففتح لها قلبها قبل اسارير وجهها .. انها جارتها الحديثة القدوم الى اليمن. عرفتها على الفور من تكون ومن اي عائلة كمعظم الكورد الفيلية من سكنة بغداد.. مأساة الثانية كانت من شكل آخر .. ولو انها تتلاقى في المضمون.
كان في يدها تقود طفلاً صغيراً بينما تحمل في بطنها آخر .. ما قصتها يا ترى؟؟؟ وما
الذي جاء بها لعدن؟؟؟
كانت حامل بطفلها الاول، عندما ازداد الخناق على القوى اليسارية .. وبما انها من عائلة معروفة بانتماءها الحزبي .. لذا كانوا تحت المراقبة ثم الملاحقة .. اصبحت تتنقل بين البيوت ولا تنام في نفس الدار لليلتين متتاليتين .. كانت تنتنقل بين بيوت الاقارب .. رغم اختلاف الانتماءات السياسية؟! انتهزت فترة وضعها لوليدها لتطلب اجازة الوضع ثم الحضانة بدون مرتب .. لتتجنب الملاحقة..
ليلتها لم تعد الى البيت تركت طفلها بمعية عائلة خالها .. بينما ذهبت هي وخالها للبقاء في بيت احد الاقارب .. البعيد عن الشبهه لدى السلطة ، او على الاقل في وقتها.
عادوا صباحاً.. ووجدوا المنزل مغلقاً بالشمع الاحمر؟؟!! أستقبلهم الجيران واخبروهم ..لقد تم تسفير العائلة فجراً ؟؟؟!!!
اذا رحل اهلها ووليدها ؟؟؟!!! لا تعرف كيف تصف مشاعرها في تلك اللحظة ؟؟؟!!! كانت قد صدمت قبلها بايام عندما علمت ان شقيقها وزوجته قد تم اعتقالهم وكذلك ابناءهم الصغار .. ثم اعيد احد الاطفال الى الجيران متوهمين انهم من أقاربه .. فقالوا خذوا ابنكم .. ولا تسألوا عن الباقية ابدا؟؟؟؟!!!
لا تعلم كيف هيأت نفسها للهروب عبر كوردستان .. و كان زوجها قد سبقها الى هناك منذ اشهر ملتحقاً بتنظيمات الانصار. غادرت مع خالها الذي اضطرت لتفترق عنه في احد المراحل..لانه كان قد تم توفير سبيلين مختلفين لهروبهما .. كانت شبه منهارة ومتعبة وهي تتذكر تلك التفاصيل .. لم تشأ ان تضغط عليها اكثر ، لتكشف لها عن معاناة الطريق والمصاعب التي واجهتها ولكنها كانت تتابع تعابير وجهها الذي كان يعكس الم فضيع .. وخاصة تلك الفترة التي تركت تسير طريقاً بمفردها لتلقي بمصير مجهول لأكمال مهمة هروبها؟؟؟!!!
لم تستطع ان تؤمن لنفسها ولعائلتها ، حياة مناسبة في ذلك البلد ، لذا قررت المغادرة وبعد تنقل في المنافي مختلفة .. كان المستقر في عدن.
كانت تحمل شهادة في الهندسة ، لذا مسألة تعينها كان سهلاً ، ولكنها كيف ستؤمن لابنها البقاء في المنزل من دونها؟ في اليوم الاول من الدوام ، وقبل ان تتفق مع احدى اليمنيات لرعاية ابنها ، تركته عند جارتها ، ممليَ نفسها .. انها تتحدث معه بالكوردية ، لذا سيشعر باطمئنان معها .. ولكن صراخه وعويله لم ينقطعا لحين عودة امه ، وفي احد المرات حاول الهروب ، وعندما منعته الجارة ، كان نصيبها عضة كبيرة في يدها .. ما زالت اثارها موجودة تتندر بها.
وصول الثانية عزز نشاط النسوي للاولى، فكانت تستخدمان كل طاقاتهما ومواهبهما وخاصة في العمل النسوي والاجتماعي.. رغم مصاعب الحياة ، والتزاماتهم العائلية والعمل .. فالاولى كانت قد بدأت تنسق نشاطها مع منظمات أتحاد نساء اليمن .. وتفرغت عدة ايام للعمل التطوعي المجاني، ولتقدم دروس في تعلم الخياطة التي تجيدها بالمراكز النسوية تعبيراً عن الامتنان للبلد الذي استقبلهم في وقت شدتهم وقدمت لهم كل التسهيلات رغم الضروف الصعبة التي كان يمر به بسبب الحصار الخانق لدول الجوار عليهم ، لاختلاف توجهات النظم الحاكمة في المنطقة وحكومة عدن.
لم يخلو نشاطهم ايضاً من السعي الى تعزيز العلاقة بين العوائل العراقية والمساهمة في افراحهم واتراحهم. كما لم يقصروا من المساهمة بالاعمال الخيرية وعمل معارض ، ليجمع ريعه للانصار في كوردستان .. الثانية كانت تتمع بصوت فيروزي ساحر .. كانت تصدح باغاني فيروز في تلك المناسبات العائلية .. علماً انها كانت قد فازت بمسابقة اجمل صوت في احدى احتفالات الربيع التي كانت تقام في مدينة الموصل كل عام.
***********
التحق الكثيرون من العراقيين بحركة الانصار في كوردستان .. وبدء المتطوعين يغادرون اليمن تاركين عوائلهم .. لا تعلم لماذا وقع الاختيارعليه، رغم انه اب لعدد من الابناء وزوجته ربة بيت، ليس لديها مورداً تقتاد عليه.
بدأ تصلهم اسماء قوافل جديدة من الشهداء. وكان اسمه بينهم.. عائلته كانت تقطن في محافظة الثالثة ابين .. سافرت لتشارك في العزاء ، ولكن لزحمة المكان لم تستطع أن تكلم زوجة الشهيد كثيراً.
عادت لعدن وذات يوم جاءتها احد العراقيات تطلب منها ان كانت تجيد تلك الاشعار التي تقرأ في المآتم الفيلية (المور) ، لان زوجة الشهيد والتي كانت ابنة عمه ايضاً ،لها شعور انها لن تستوفي العزاء في زوجها دون ان تقال فيه تلك الاشعار الحزينة،والتي تعودت ان تسمعها من اهلها في المآتم الفيلية في مدينتها الكوت؟؟!!
رفضت ارملة الشهيد الصابرة .. ان يرسل ابناءها بعيدين عنها للدراسة في المدارس الداخلية في البلدان الاشتراكية ، وكانت تلك عادة متبعة مع ابناء الشهداء رفضت ذلك ، واصبحت تجتهد في ايجاد اي طريقة لتقوم برعايتهم ، حتى قررت الحكومة اليمنية ان تمنحها فرصة للعمل في احدى رياض الاطفال ، مستثنية من شرط الشهادة الدراسية المطلوبة.
في آخر خبر عنهم .. انهم ما زالوا في اليمن وقد وفقت في تربيتهم واكملوا دراستهم ونجحوا في حياتهم..
فيلييات اخريات التقت بهم وكانوا ثلاثة .. لم يكونوا اقل نشاطاً وهمه وكان حضورهم في اي مكان وفي اي مناسبة فاعلاً و بارزاً.
***
فسلام لعدن واهله ولكل من وقف مع العراقيين في محنهم.[1]