#كفاح محمود كريم#
تراجيديا المدن الثلاث وما حولها من قصبات وقرى احتضنت سكانا ربما كانوا أقدم من سكنوا بلاد ما بين النهرين وأطرافهما، وربما في كهوف شلو وتبه 1 وتب2 وزوي جمي أقدم مستوطنات البشرية على الإطلاق *.
هذه المدن بدأت عمليات إخراجها من زمنها وسلخ مكوناتها وتقطيع جذورها وأوصالها منذ بداية الستينات من القرن الماضي بشكل منظم ومدروس، وإن سبقت ذلك عمليات شبيهة إلا إنها لم تكن بهذا النسق والحدة في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي.
ففي منتصف الثلاثينات من نفس القرن بدأت عمليات مريبة لإسكان البدو العرب المستقدمين من تلول الباج في الشرقاط وبيجي وأطراف تكريت والرمادي، بين دهوك في شرق دجلة وسنجار في غربه بما يشكل حاجزا قاطعا بين المنطقتين إضافة إلى الحاجز الطبيعي المتمثل بالنهر نفسه.
وكذلك فعلت السلطات إلى الجنوب من سنجار وحول مدينة خانقين نزولا إلى بدرة وجصان، والى الجنوب والغرب من مدينة وأطراف كركوك بما يؤدي إلى إحداث طوق عرقي مغاير لما موجود في المنطقة، إضافة إلى ما فعلته تلك الدوائر البريطانية الخبيثة بتعريب منشآت النفط في كركوك باستقدام العمالة من خارج المنطقة واستبعاد السكان الأصليين.
ولعل تلك الممارسات التي نبه إليها الزعيم مصطفى البارزاني بعد عودته إلى العراق اذبان ثورة 14 تموز 1958م قادة ومسؤولي الثورة وفي مقدمتهم الزعيم عبدالكريم قاسم أدت إلى ما آلت إليه العلاقة بين الحركة التحررية الكوردية والإدارة العراقية الجديدة وما تطور عنها من قيام ثورة أيلول عام 1961م .
إلا إن العمليات الجدية والمنظمة بدأت بعيد انقلاب البعثيين الأول واستحواذهم على السلطة في بداية الستينات حينما انقلبوا على عبدالكريم قاسم بالتعاون مع عبدالسلام عارف وبعض الأوساط الأمريكية التي أسماها علي صالح السعدي ( أمين سر القيادة القطرية لحزب البعث آنذاك ) بالقطار الأمريكي الذي استقله البعثيون للوصول إلى بغداد وقصرها الجمهوري.
حيث بدأت عمليات التطهير العرقي و( الفرهود البعثي ) الشبيه إلى حدٍ كبير بفرهود الحواسم، في كركوك مع الأيام الأولى لانقلابهم في شباط 1963 م، وعمليات تصفية الموظفين والعمال الكورد في كافة دوائر الدولة الرسمية وشبه الرسمية ونقلهم خارج محافظة كركوك، بدءً بموظفي وعمال قطاع النفط إنتهاءً بالمعلمين والمدرسين وحراس وفراشي المدارس والدوائر الأخرى، في واحدة من أبشع عمليات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي في تاريخ العراق، حيث بدأت عمليات التهجير والترحيل واستقدام المواطنين من جنوب ووسط وغرب العراق وتوطينهم على أطلال بيوت ومزارع وأراضي السكان الأصليين من الكورد والتركمان والكلدان حتى وصلت أوج عظمتها في تفكيك محافظة كركوك وتمزيق أوصالها وتجريف بيوت سكانها الأصليين، كما فعلوا في أقضية سنجار والشيخان ومخمور وعقره وخانقين ومندلي وعشرات البلدات والقرى ومئات الآلاف من السكان المشردين والمشتتين في أصقاع العراق والعالم، لا لذنب اقترفوه إلا لانتمائهم لعرق غير العرب.
وما زالت عشرات الآلاف من العوائل الكوردية والتركمانية والكلدانية تتذكر عمليات تجريف بيوتها ومزارعها في كركوك وسنجار وخانقين ومندلي وزمار والشيخان وغيرها من مدن جنوب الاقليم وهي مازالت خارج بيوتها بل وخارج هذه المدن أو تسكن في مسقفات بائسة عند اطرافها بعد خمس سنوات من سقوط النظام.
إن ما جرى لهذه المدن والقصبات من تغيير ديموغرافي واضطهاد قومي وتهجير وترحيل وإلغاء للذات والجذور، لم يجرِ لأي مدينة في العراق عبر تاريخه ومنذ تسلط العنصريون على دفة الحكم في بغداد عام 1963م، فليست هناك أي مدينة سواهم طلب من سكانها الرحيل إلى محافظة أخرى لكونهم كوردا أو تركمان أو أن يتم تغيير قوميتهم في ما سمي بتصحيح القومية!؟
هل جرى ذلك في البصرة أو كربلاء أو الرمادي أو الناصرية؟
هل فرض عرق مغاير أو قومية مغايرة على سكان الفلوجة أو الشطرة أو ناحية الفهود؟
إن ما حصل في هذه المدن وغيرها يندى له جبين الإنسانية جمعاء وليس العراقيون لوحدهم، إذ أنها جريمة بحق الإنسان كما هي جريمة بحق العروبة والإسلام، إذ لا يذكر تاريخ العرب أو المسلمين جرائما بهذا الشكل استخدمته أي من القوى السياسية عبر تاريخ العرب والإسلام سوى البعثيين ومن قبلهم الإسرائيليين في فلسطين والأتراك في كوردستان الشمالية والمدن العربية في تركيا التي تعرضت هي الأخرى لسياسة التتريك الشبيهة بالتعريب البعثي أو التهجير والتقتيل الذي تعرض له الكورد والأرمن في تركيا.
لقد أراد من قام بهذه الجرائم أن يفسد العلاقة بين العرب والكورد أو أن يزرع بذور الكراهية بين القوميتين الأكثر التصاقا وحبا من غيرهما ولعلهم فشلوا منذ الأيام الأولى ولم يستطيعوا أن يخترقوا ذلك الجدار الرصين بين العرب والكورد، والدليل على ذلك هو عشرات الآلاف من العرب العراقيين الذين يعيشون في كنف أهليهم ووطنهم كوردستان العراق بعد أن ضامتهم الأيام السود على أيدي الإرهاب البعثي أو الطائفي.
وقبل ذلك حينما رفض الشيخ العلامة ناظم العاصي من أجاويد كركوك وأسيادها سياسة البعث في التعريب والتبعيث لكركوك وغيرها من مدن كوردستان العراقية على أيام البارزاني الخالد حينما قال لصدام والبكر ( إن البارزاني لا يرفض أن يسلمني مفاتيح كوردستان إن طلبتها منه، لكنني عاهدت الله أن لا أغدر به وأن أكون معه في ما يناضل من اجله ).
إن الجرائم التي اقترفت في كركوك والموصل وسنجار وخانقين والشيخان وزمار ومخمور ومندلي لا يتحملها إلا من شارك فيها في الاستيلاء على أملاك وممتلكات الكورد وساهم عن سابق دراية ومعرفة بالجريمة، وهم الآن أنفسهم قد اخترقوا العملية السياسية في كل مفاصل العراق الجديد وهم الذين يقفون ضد إصلاح الأمر في هذه المدن وإعادة الحق إلى نصابه.
إن ما جرى في الثاني والعشرين من تموز 2008م في مجلس النواب العراقي يؤشر مدى الاختراق البعثي للمؤسسة التشريعية والكتل البرلمانية والأحزاب السياسية والعمل من خلالها في عرقلة بناء العرق الديمقراطي الاتحادي التعددي باستخدامها الميكافيلي والتسلقي لبعض نقاط ضعف التجربة الديمقراطية العراقية.
إننا أحوج ما نكون إلى تشريع يحرم الفكر الشوفيني والعنصري متمثلا في طروحات البعث وما شابهه لدى كل العراقيين، بما يماثل قانون تحريم الشوفينية الهتلرية في المانيا والنمسا، وتطوير قانون اجتثاث البعث إلى تشريع دستوري يحرم هذا الفكر وممارساته والدفاع عنه أو التعامل مع منجزاته كمكاسب أو تحصيل حاصل بل معالجة كل نتائج تلك الجرائم عبر تاريخه منذ استيلائه على الحكم في 1963 م وحتى سقوطه في نيسان 2003 م .
إن الدفاع عن الحقائق التي صنعها النظام السابق في كركوك والموصل وسنجار وخانقين والشيخان وزمار ومندلي في استقدام مئات الآلاف من العوائل العربية المنكوبة اقتصاديا وثقافيا من جنوب العراق وغربه المدقع بالفقر والحاجة، واستخدامها واستغلال فقرها في المال والوعي واسكانها على أنقاض سكان هذه المدن الأصليين وترحيلهم إلى خارج تلك المدن، إنما هي الجريمة بعينها إن لم تكن أبشع منها.
وهنا أتذكر وأذكر للتاريخ ما حصل في سنجار عام 1975 م من شيوخ ووجهاء واحدة من العشائر العربية الأصيلة وهي عشيرة البو متيوت ** في تعاطيها مع عملية التعريب والاستيلاء على ممتلكات الكورد بعد مصادرتها لصالح وزارة المالية، إذ رفض شيوخ هذه العشيرة ووجهائها عرض مسؤول حزب البعث والقائم مقام في استملاك بيوت بعض وجهاء الكورد وقصورهم التي صادرتها سلطات البعث آنذاك في سياسة التعريب وقالوا بالنص: ( إننا والكورد إخوة وأشقاء وما بينكم وبينهم خلاف سياسي ونحن لا نقحم أنفسنا فيه، إن لنا بيوتا ومزارع ولسنا بحاجة إلى أملاك الغير؟ )، وهم الشيوخ الأجلاء ( رحمهم الله جميعا ) محمد علي الجارالله ونجرس البلو وعلى الوهب والشيخ هلوش الهيجل.
إن معظم الذين استحوذوا على ممتلكات الكورد وغيرهم في سياسة التعريب والتهجير، إما من المغرر بهم من الفقراء ممن أطلق عليهم ب ( عرب العشرة آلاف ) *** ممن كانوا يسكنون السقائف وبيوت الصفيح ولا يجيدون القراءة والكتابة، أو من عوام الناس ونكراتها التي لا تقدر عواقب ما سيحدث مستقبلا، وأقولها للحقيقة لم أرى شخصا محترما قبل لنفسه ملكا من بيت أو ارض أو مزرعة لمرحل أو مهجر كوردي في كل المدن التي تعرضت للتعريب والتبعيث، بل كانوا معظمهم من المغضوب عليهم عربا وكوردا وتركمانا ويستثنى من ذلك من استأذن صاحب الملك ووعده بأن يعيده له فور تغير الأوضاع وهذا حصل في كثير من الحالات في كل من سنجار وخانقين وكركوك لدى أولئك الاصلاء من عرب هذه المناطق.
لقد أثبتت الأيام ومجريات الأحداث منذ عشرات السنين إن العلاقة بين الكورد والعرب لا يمكن تمزيقها أو تخريبها وقد ذكرت هنا بعضا من الشواهد التاريخية من مئات المواقف المشرفة بين العرب والكورد، وفي هذا السياق علينا دوما أن نتذكر حينما أجدب العراق في مطلع هذه الالفية ففتحت ابواب كوردستان لمئات الآلاف من قطعان الماشية القادمة من أقصى جنوب العراق إلى أقصى غربه، وكيف كانت ذرى الجبال ملاذا لكل المناضلين العراقيين والهاربين من جحيم السلطات في بغداد، وكيف أصبحت كوردستان حضنا وملاذا آمنا لعشرات الآلاف من العوائل الهاربة من الإرهاب البعثي والطائفي.
وأخيرا نعتقد إن التعامل مع نتائج سياسة التعريب والتبعيث وتغيير الطابع القومي لهذه المدن على إنها حقائق واقعية، ومحاولات المناورة والألاعيب والمخاتلات ستؤدي إلى نتائج وخيمة تعيدنا إلى مآسي العراق منذ تأسيسه ولحد سقوط نموذجه المتخلف في 2003 م، ولن تمنحنا فرصة إغلاق ملفات هذه المدن والتفرغ إلى بناء العراق بأجمعه من كوردستان إلى أقصى البصرة دون فكر بعثي أو شوفيني، بعد أن ننتهي من موضوعة أن يكون العراق فعلا ملكا للجميع على حد سواء دون مواربة أو ملاعبة أو مخاتلة وبصدق في النوايا والتوجهات، حينها لا يفرق أن تكون اربيل تابعة للبصرة أو كركوك تابعة لدهوك أو سنجار تابعة للحلة، كما هي بغداد تابعة لجميعهم.
* كهوف في كوردستان العراق وتحديدا في سنجار والسليمانية وهي عبارة عن أول مستوطنات بشرية زراعية.
** البو متيوت: عشيرة عربية تسكن جنوب مدينة سنجار (15 كم ) منذ أواخر القرن التاسع عشر.
*** عرب العشرة آلاف : أطلقت على العرب الذين كانوا يتركون مدنهم في جنوب ووسط العراق مقابل عشرة آلاف دينار عراقي أي ما يقابل حينها ثلاثين ألف دولار أمريكي والرحيل إلى كركوك في سياسة التعريب آنذاك.[1]