خالص عزمي
لم تكن الاعدادية الشرقية ( الخضرية ؛ او المركزية سابقا ) تبعد كثيرا عن البيت المخصص لسكنانا يومئذ وهومما ساعدني على الوصول الى المدرسة مبكرا و قبل الموعد المحدد لبدأ الدراسة عام 1948 1949 ؛ لقد استفدت من ذلك الوقت الصباحي في تملي الحدائق المونقة المسرة التي كانت تحيط بمعظم الابنية الممتدة على طول الشارع العام وبخاصة حديقة الموصل العامة التي كانت نموذجا للحدائق التي تعنى بها البلدية فتنشر في جوانبها انواعا من الزهور العطرة المستظلة بالاشجار الباسقة ؛ وكنت اذا ماتنسمت شذاها وتمليت حسنها بانبهار ؛ رافقت بعض الزملاء القادمين من انحاء شتى من هذه المدينة العريقة لندخل سوية الى فناء هذه المدرسة المهيبة التي يفوح في ارجائها عبق نصف قرن من الزمن منذ ان شيدت في عهده .
كان منظرها الخارجي بهيا وجليلا حيث تطالعك وانت تتقدم نحوها ساعتها الحمراء الكبيرة التي علقت اول مرة عام 1928 وهي ذات وجوه ثلاثة تنتصب على قوس المدخل الرئيس الذي يتعانق بتنظار هندسي مع صفين من الاقواس الاخرى البالغ عددها 12 قوسا .
فاذا ما ولجت بابها الخشبي الواسع استقبلتك باحتها الفسيحة التي تحيط بها غرف الادارة من الجهة اليمنى حيث تتوسطها غرفة المدير ثم بعض غرف المدرسين والذاتية والحسابات والطابعة وما الى ذلك ؛ اما في الجهة المقابلة فتقع القاعة الكبيرة المخصصة للاحتفالات والمسرحيات والخطابة والتي لا تبعد عنها كثيرا غرفة المكتبة التي كان يشرف عليها ويدير شؤونها وقتذاك الاستاذ ذو النون الشهاب . اذكرمدخلها... قبوا تحتشد على جوانبه رفوف متواضعة الصنع مزدحمة بالكتب التراثية من معاجم ودواوين شعر ومصادر تأريخية الى جانب الكتب الحديثة ؛... في الرواية والقصة والشعر والمسرحية والنقد والتحقيق ؛ اما على الجانب الايمن من ذات المدخل فهناك رفوف اخرى للمجلات القديمة كالمقتطف والهلال والاديب والمعلم الجديد ... وكذلك احدث المجلات الثقافية التي كان يشتريها وعلى حسابه الخاص الاستاذ الشهاب من المكتبة العصرية ؛ ومن ابرزها الرسالة والثقافة والرواية والاديب ؛ اما الكاتب المصري التي كان يرأس تحريرها استاذه الدكتور طه حسين فقد كان يضعها مجلدة على منضدة في زاوية خاصة من المكتبة : ومع ان تلك المجلة قد احتجبت في تلك السنة بالذات ؛ الا ان اعتزازه بما قدمته للمثقفين من نتاج ضخم وبخاصة في الترجمة ؛ جعله يشجعنا اكثر على قراءة اعدادها السابقة بل وكان يعير بعضنا اعدادا منها لمطالعتها اوقات الفراغ . في هذه الغرفة بالذات كان الاستاذ الشهاب يعكف على تصحيح النتاج الادبي المعد للنشر في مجلة ( الجزيرة ) الرصينة التي كان يرأس تحريرها ؛ الى جانب اشرافه على نشرة (الالهام) التي كان تصدرعن المدرسة بطبعة ورقية فيها اناقة واحتشام ؛ وكان يسهم في تحريرها نخبة من المدرسين والطلبة المتميزين؛ و قد كان لطلبة الفرع العلمي ركن مخصص لمصادر العلوم المختلفة التي تختص بالفيزياء والكيمياء والجبر والهندسة وما الى ذلك .
اما الطابق الثاني من المدرسة فتصعد اليه بسلم حجري عريض واسع الجانبين ؛ فاذا ما وصلت الى طارمته الامامية رأيتها تأخذك الى صفوف متجاورة يمينا وشمالا ؛ تعقبها غرفتان مخصصتان للادارة والخدمات . واما الصالات الاوسع فملحقات تختص بدراسة الطلبة تبعا لتخصص مواضيعها . فمن المعلوم ان هذه الاعدادية (شأن الاعداديات العراقية الاخرى في تلك الفترة ) ؛ تنقسم في دراستها الى فرعين ؛ هما الفرع الادبي ؛ حيث يتوجه الطالب بعد تخرجه منه للالتحاق بالمعاهد والكليات ذات الدراسات الانسانية ( كالحقوق ؛ والآداب ؛ والتجارة ..) ؛ والفرع العلمي ومنه يتجه خريجوه الى المعاهد والكليات ذات الدراست العلمية ؛ كالطب والهندسة ؛ وطب الاسنان ؛ والصيدلة والكيمياء وما الى ذلك ) :
خالص عزمي وبين يديه مضرب التنس
الموصل 1949
نعاود نزولنا الى فناء المدرسة ؛ فيواجهنا على الجهة المقابلة للادارة قوس حجري كبير يقودنا الى الساحة المكشوفة المخصصة لاستراحة الطلبة اثناء الفرص ؛ حيث تتوزع في اطرافها الحمامات ؛ والحانوت المجهز بالاطعمة الخفيفة والمشروبات الغازية والعصائر والشاي والقهوة ... الخ ؛ اما على الجهة اليمنى فتقع ساحة واسعة لمختلف الالعاب الرياضية ؛ وقد خصصت فيها فسحة مخططة بعناية للعبة التنس التي كانت تطل على الشارع الرئيس ؛ وكان يسمح للطلبة المسجلين على هذه اللعبة ممارستها بعد انتهاء الدوام الرسمي . وكنت انا شخصيا اتدرب على التنس مرة واحدة في الاسبوع ؛ حتى اذا ما اشتد ساعدي ؛ رحت امارس اللعبة مع بعض الزملاء عصر الاثنين والخميس من كل اسبوع ؛ وما زلت لحد اليوم احتفظ بصورة لي وانا اقف في الفضاء الرحب وبيدي المضرب . وعلى اطراف هذه الساحة قاعة خاصة تتجمع فيها مختلف ادوات الالعاب ؛ كشبكات الطائرة والسلة والكرات بانواعها ؛ والحصان الخشبي ؛ والمتوازن ؛ و اكياس وكفوف الملاكمة الخ وكان يستغل بعض الطلاب جانبا منها لممارسة فن الرسم عندما لاتكون هناك اية فعاليات رياضية .
كانت المدرسة تطل من الجهة الشمالية على بداية جادة حلب؛ حيث فندق السفراء (هكذا كان اسمه في أغلب الظن) ؛ و الذي كان يحتل طابقين من صرح البناية ؛ اما الارضي منه فقد توزع على دكاكين متعددة كان اهمها ستديو المصور المشهور المرحوم (آكوب) - ولي مع هذا الاستديو حكايات كثيرة وصور متميزة قد افرد لها مقالة خاصة تليق به -
في اثناء الفرص الكبيرة كان يطيب لنا ان نلقي نظرة على الطابق الثاني من ذلك الفندق ؛ حيث كان يجلس صباح كل يوم الفنان المصري الكبير محمد عبد المطلب وزوجته المطربة نرجس شوقي وهما يتناولان فطور الصباح في الشرفة الخاصة بهما ؛ وكان الفنان طلب ينهض من كرسيه كلما شاهدنا نحيه فيرد التحية بكل تواضع و أدب (والصورة التي ارفقها تشير الى ساعة احتشادنا على السياج اما م واجهة الفندق المذكورونحن نتهيأ لتحيته) .
كان من ابرز مدرسينا في الفرع الادبي في تلك الايام ؛اضافة الى استاذنا الشهاب ؛ اجلاء أذكر منهم الافاضل ؛ عبد المجيد شوقي البكري ؛ وشريف صالح؛ وخليل عسكر؛ وهشام الحاج طالب؛ ومحمد حامد الطائي ... الخ ؛ ولو اطلع القاريء على الجهد الكبير الجدي الذي كان يبذله هؤلاء الافاضل وغيرهم في سبيل تفوقنا ؛ لما استغرب من تقدم هذه المدرسة العريقة على مختلف مدارس العراق بنسب النجاح العالية .
كانت علاقتي بزملاء الدراسة في فرعيها ؛ الادبي والعلمي ؛في غاية الود والتواصل ؛ وقد بقيت تلك العلاقة الطيبة مستمرة مع بعضهم ولم تنقطع الا بسبب رحيلهم المحتوم ؛اذكر منهم : هاشم الطعان ؛ وسامي طه حافظ ؛و أحمد سامي الجلبي ؛ و صدقي العريبي ؛ و سعد علي الجميل ؛ وحسن العمري ؛ و محمود المحروق ؛ و حازم العمري ؛و غانم حمودات ؛ ونجيب يونس ... الخ و كانت لقاءاتي بهذه الكوكبة المتميزة متواصلة لا تنقطع ؛ حبث كانت تجمعنا روابط اخوية ؛ وهوايات محددة تدور كلها في فلك الادب والفن والرياضة ومشاهدة بعض الفعاليات المسرحية والسينمائية التي تتناسب وثقافتنا وتربيتنا الاجتماعية الملتزمة بقواعد السلوك الاخلاقي الرضي .
: ومما اذكره احتفالنا عام 1949 بالفنان نجيب يونس بعد ان انجز لوحته الكبيرة لمحاكم الموصل والتي اعدها خصيصا لمناسبة الاحتفال الكبير بافتتاح تلك البناية الضخمة من قبل الامير عبد الاله ولي العهد والوصي على عرش العراق مع كوكبة من رجال الدولة البارزين و كبار القضاة والمحامين . حيث نشرت صورة تلك اللوحة على غلاف العدد الخاص من مجلة الجزيرة بتلك المناسبة السعيدة ؛ فزادنا ذلك فخرا بزميلنا الفنان المبدع .
كما لا انسى ذلك اليوم الذي طرح فيه استاذنا ذو النون الشهاب علينا فكرة زيارة بعض الصحف المحلية المتميزة ؛ فراقت لبعضنا تلك المبادرة ؛ حيث توجهنا اول الامر الى جريدة فتى العراق فاستقبلنا رئيس التحرير المرحوم ابراهيم الجلبي بحفاوة وطلب من نجله زميلنا احمد سامي ان يطلعنا على اقسام تحرير الجريدة ومطبعتها ؛ بعدها توجهنا نحوادارة جريدتي الاديب لصاحبها الاستاذ محي الدين ابو الخطاب ؛ ونصير الحق لصاحبها الاستاذ محمود مفتي الشافعية ؛ وكان لهذه الزيارات اثرها في استيعابنا لمراحل التصميم والتحرير والتصحيح والطبع ؛و كانت هذه التجربة من التجارب الرائدة التي افادتني كثيرا في تحرير وادارة الصحف التي توليت رئاسة تحريرها بعدئذ .
واذكر في هذا المجال ايضا تنوع سفراتنا المدرسية في ريف الموصل الساحر ( مثل تل قاينجو ؛ومار كوركيس ؛ وتل التوبة ... وغيرها ) حيث كان يتولى شؤون ادارتها المالية والتنظيمية الزميلان أحمد سامي الجلبي و حسن العمري و باشراف الاستاذين الشهاب و خليل عسكر ؛ لقد كانت سفرات رييعية خلابة حيث تنطلق نفوسنا من عقالها ؛ فنمرح على هضاب التلال المنحدرة نحو السهول السندسية المنثورة بشتى انواع الزهور البرية المعروفة في ممرعات الحدباء ؛ ومن الطرائف التي يستحسن روايتها في مجال برامج تلك السفرات ؛ ما كان يتحفنا به صدقي العريبي من مقطوعات طربية (كنا نطلق عليه فريد أطرش الموصل ) فقد كان يتشبه بذلك العندليب شكلا وغناءا وكان ذلك وحده مدعاة لايقاعه في دائرة الطرائف والنكات والسخرية العفوية و التي لم تكن كلها لتزعجه ابدا ؛ لما عرف عنه من دماثة واريحية ؛ وكان من برامج تلك الرحلات المدرسية ايضا ؛ برنامج المطاردة الشعرية ؛؛ حيث يطلب الاستاذ الشهاب من المجتمعين تكوين فريقين يجيدان حفظ الشعر ليدخلا في مباراة التقفية المعروفة ؛ وكان على الفريق الخاسر خدمة الجميع وذلك بعمل الشاي وتقديم الكعك وما الى ذلك من مقبلات وكرزات ... الخ وما كانت الخطابة بعيدة عن مثل هذه السفرات الترفيهية والثقافية ؛ فقد كان يطلب من احدنا ان يرتجل خطابا في موضوع يحدده المشرف على السفرة ؛ وحينما يقع الاختيار على هذا الطالب او ذاك ؛ كان ينتصب واقفا ويبدأ بالقاء كلمته بحماسة وفصاحة وصوت عالي النبرات ؛ وحينما يصل الى ذروة تجلياته ؛ يصرخ احدنا :
( احسنت يا قس بن ساعدة ) او ( اجدت يا محمد محمود الصواف ) ؛ فيضحك الجميع ومنهم خطيب السفرة بكل براءة واريحية .
هذا بعض من كل ما اذكره عن هذه المدرسة الراقية في دراستها وتعليمها وتفوقها المتواصل ؛ الى جانب تأكيدها على تسامي الصحة النفسية لطلابها .. وهو ما أدى الى انعاشهم وتنسمهم هواءا طيبا خفف عنهم جدية التحصيل الذي كانوا ينكبون عليه بكل جدية و صدق وعزيمة . ان مثل ذلك التوجه والعناية بالجانب العلمي والادبي و النفسي من قبل ادارة المدرسة قد بعث الاطمئنان عند الطلاب وجعلهم اكثر ثقة في تحقيق ما يطمحون اليه من مستقبل بسام زاهر كانوا يسعدون به ؛ و كان بالتالي يسعد به الوطن .
عن ملتقى ابناء الموصل ( 18 10 2009 ).[1]