حسين جمو
صاغ رئيس وزراء الجمهورية التركية ونائب رئيس حزب الشعب الجمهوري عصمت إينونو، في مذكراته، وصفاً بليغاً في تبريره إلغاء السلطنة ثم الخلافة عام 1924، إذ كتب: «واجهنا أعظم مقاومة عندما ألغينا الخلافة لكن لا يمكن بقاء النظام ذي الرأسين إلى الأبد». (أندرو مانجو – سيرة أتاتورك – ص 430).
يمكن القول إنه منذ ذلك الحين، عام 1924، والجمهورية ذاتها تعيش ازدواجية معقدة: الدولة البيروقراطية والدولة العميقة. لكن ليس بصيغة التنافس الذي كان سائداً أيام الرأسين العثمانيين؛ ممثلةً في المؤسسة السلطانية والباب العالي (الحكومة) التي أعطت هامشاً من الانحيازات الاجتماعية الكبرى منذ حقبة الإصلاحات في نهاية عهد السلطان محمود الثاني وحتى الانهيار الفعلي للدولة العثمانية نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918.
قبل الواقعة الخيرية عام 1826 ونهاية الجيش الانكشاري، كانت ازدواجية السلطة صراعاً علنياً بين السلطان والقيادة الانكشارية. مع مرسوم التنظيمات وتسلم السلطان عبدالمجيد الأول الحكم عام 1839، بدأ صراعٌ تصاعدي بين الباب العالي والسلطان بلغ ذروته مع السلطان عبدالحميد الثاني والصدر الأعظم السابق مدحت باشا. وعند هذه النقطة، تعمقت التحيّزات القومية. فعموم الكرد ساندوا السلطان عبدالحميد، بينما حظي الأرمن (وتحديداً النخبة الأرمنية في إسطنبول) بنفوذٍ ورعاية من الباب العالي ودعم القنصليات الأوروبية.
مع تدشين الجمهورية عام 1923، لم تعد ازدواجية السلطة بذلك الوضوح. لم يعد بمقدور الكرد والشعوب المحذوفة من دستور الدولة الانحياز لمؤسسةٍ ضد أخرى كما فعلوا طيلة التاريخ العثماني، وقبله السلجوقي. في بعض المحطات التاريخية، كانت ازدواجية السلطة تفتح باباً جديداً للنفوذ أمام القوى الاجتماعية المحكومة، كما حدث في فترة صراع القبيلتين التركيتين، آق قوينلو وقره قوينلو، اللتان تناوبتا على حكم كردستان من مطلع العام 1400 إلى 1500. وتعد هذه الأعوام المئة غامضة من حيث التاريخ الاجتماعي للمناطق المحكومة من القبيلتين، ولم تتركا أثراً عمرانياً إلا ما ندر بسبب الطبيعة البدوية للسلالات الحاكمة. مع ذلك، هناك العديد من الإشارات إلى أن المجتمع (وتمثله هنا القبائل الكردية باعتبارها الطبقة القيادية) كان أقوى من الدولة في هذه الأعوام المئة. ويمكن الاستدلال على ذلك، على الرغم من نقص الدراسات حول هذا الجانب، بقوة القبيلة الكردية حين وقع الصدام الكبير بين العثمانيين والصفويين، وهما إلى حد كبير وريثتان لآق قوينلو (العثمانيين) وقره قوينلو (الصفويين).
حالت التناقضات بين القوى المتحاربة والتنافس بين الأجنحة داخل الحكومة الواحدة دون استسلام المجتمعات المحلية أمام السلطة. شكلت هذه الظاهرة التاريخية مصدر قوةٍ ونجاة. وإذا ذهبنا إلى أبعد من ذلك، سنجد أنّ ثغرات الحكم وفّرت عبر الزمن النجاة لمجتمعاتٍ ضعيفة كان يمكن لها أن تنهار في أي هجومٍ كبير من السلطة قبل قرون، لكنها ما زالت صامدة، بشكلٍ أو بآخر، من دون أن يكون هناك جوٌ من التسامح الديني يسمح باستمرارية مثل هذه التعددية طيلة هذه المدة. فواقع الأمر أن الحكومات «ذات الرأسين» أو «الرؤوس المتعددة» وفّرت للمجتمعات الاحتماء بجزءٍ من السلطة أمام الجزء الآخر العدواني. لكن لم يخلو هذا التكتيك من عنفٍ ودموية، إذ تفاقم ذلك منذ توغل البعثات التبشيرية الغربية في الأراضي الكردية والأرمنية والنسطورية مطلع القرن التاسع عشر، ففتكت هذه المجتمعات بعضها ببعض من طريق طلائعها المحاربة، وبلغت ذروة هذه الحرب الأهلية خلال حملة الإبادة ضد الأرمن عام 1915 على أيدي سلطات الاتحاد والترقي بمشاركة فصائل عديدة من الألوية الحميدية الكردية. ومع إعلان الجمهورية عام 1923، كان اختل التوازن السياسي في الجزء الشرقي من الدولة، والذي وفره الوجود المسيحي طيلة قرون. فلم يعد هناك منفذٌ للكرد على الدولة سوى الاستسلام الكلي للنجاة من حملات قتلٍ جماعية متتالية من عام 1921 في قوجكري (قبل إعلان الجمهورية) وحتى تدمير ديرسم عام 1938. هذه الحقبة القصيرة والدموية هي في المجمل «مجازر الحزب الواحد – حزب الشعب الجمهوري».
في العام 1946، صوت البرلمان على قانون التعددية الحزبية، فتأسست أحزابٌ عديدة على الفور وحجزت مواقع متقدمة في الانتخابات البلدية. وتوجت تقدمها في انتخابات 1950 حين عاقبت الطبقات الاجتماعية المهمّشة «الحزب الواحد» فدشنت الجمهورية حقبة جديدة تحت قيادة الحزب الديمقراطي وقادة مخضرمين كانوا أساساً من كوادر حزب الشعب الجمهوري وانشقوا عنه لاحقاً.
لقد كان نجاح تداول السلطة من حزب الشعب الجمهوري إلى الحزب الديمقراطي في العام 1950 لحظة معقدة في التشكل الاجتماعي الكردي والتركي في ظل الجمهورية. لم يصدق المبتهجون ما حققوه. فنهاية حكم حزب الشعب الجمهوري كان بمثابة نهاية للجمهورية في ظن قطاعٍ كبير من القاعدة الانتخابية المعارضة.
لم تعد هناك ازدواجية في النظام، كما كان أيام القصر السلطاني والباب العالي، إذ أن بنية النظام السياسي تحتمل منتصراً واحداً فقط. وانتهى زمن «النظام ذو الرأسين»، فأصبح هناك رأس النظام ورأس المعارضة. لكن لم تشهد هذه العملية مراحل أعلى، فسرعان ما أُجهضت في انقلاب عام 1960 وإعدام رئيس الوزراء عدنان مندريس.
خلال السنوات العشر العجاف في تاريخ حزب الشعب الجمهوري (1950 – 1960)، منح الكرد أصواتهم بشكلٍ جماعي للحزب الديمقراطي. على سبيل المثال، في انتخابات عام 1954 حصل الحزب الديمقراطي على 34 مقعداً من أصل 40 مقعداً في كردستان. لم يتمكن الكرد من الاستفادة بشكلٍ منظم من حقبة الحزب الديمقراطي. وكان توحدهم خلف قيادة مندريس من أكبر مظاهر وحدتهم السياسية منذ عام 1925. فالإطاحة بحزب الشعب الجمهوري من السلطة لوحده كان إنجازاً تاريخياً في تلك الحقبة لكلٍ من الكرد والتيار الإسلامي. فكلاهما عمل جاهداً، عبر الأصوات الانتخابية، لصناعة سلطةٍ أقل عنفاً ووحشية من النسخة الأولى للجمهورية، نسخة حزب الشعب الجمهوري. وخلق تهميش الكرد والإسلاميين بيئة لهما للبحث مجدداً عن رأسٍ ثان للسلطة وخلق دولتهما العميقة السلمية في قلب النظام. لكن هذا المسار فشل، إذ سبقهما تيارٌ جديد بزعامة سياسي شاب ذو خطاباتٍ متوغلة في التاريخ والعنف الاجتماعي، ألب أرسلان توركيش، يمكن اعتباره امتداداً أيديولوجياً لمجموعةٍ من الضباط العثمانيين المشاركين في تأسيس الجمهورية، وعلى رأسها المشير فوزي جقمق.
مرَّت فترةُ ما بين 1950 – 1980 بإثباتِ الكردِ لوجودِهم كأكبرِ قضيةٍ بالنسبةِ إليهم، إذ دارت كل السجالات وتمحورَت كل المقاومات حول سؤال: هل الكردُ موجودون أم لا؟
يمكن سرد الكثير بخصوص مصطفى كمال وحزبه، والسياقات المحلية والإقليمية لحكم الحزب الواحد، إلا أنه ينبغي توخي الدقة البحثية في سبر أغوار «الدولة العميقة» والتمييز بينها وبين التأسيس الدموي للجمهورية عام 1923، إذ كانت هناك طبقةٌ عسكرية مستاءة من قبول مصطفى كمال ومجموعته بتجميد «حدود الجمهورية» والالتزام بالجغرافيا التي أقرتها معاهدة لوزان. دائما كان هناك من ينظم نفسه لتجاوز ما اعتبرته المجموعة القومية المتطرفة «قيود لوزان».
القول بأن الكرد والإسلاميين سعوا لتأسيس دولتهم العميقة مختلفٌ عن النماذج الإجرامية التي استولت على مفاصل الجمهورية على مدى عقود طويلة. إذ انتصر المتطرفون اليمينيون بشكلٍ ساحق في النزال بدعمٍ من حلف الناتو وأجهزته الأمنية. ومع استيلاء الدولة العميقة على الجمهورية بشكل مؤسساتي منذ انقلاب 1960، تحت ستار محاربة الشيوعية، لم يعد هناك مجالٌ لصنع دولةٍ ذات رأسين بجسدٍ واحد كما كان يأمل المهمشون في الدولة، إنما دولة برأسٍ واحد وأربعة أذرع فتكت بالمجتمع بوسائل عنف غير مسبوقة.
إن الخراب الذي أحدثه حزب الشعب الجمهوري، حتى عام 1950، في بنية المجتمع الكردي كان أكبر من إصلاحه في أعوام الهدوء الأمني. بل إن التتريك انتقل في ظل سلطة الحزب الديمقراطي من مشروعٍ عنصري ذو اتجاهٍ واحد (من الأعلى إلى الأسفل) إلى مرحلةٍ أكثر خطورة، وذلك حين نجحت الدولة في خلق نواة في قلب المجتمع الكردي فضّلت «الاختباء إلى ما لا نهاية» خلف نسخةٍ أقل تطرفاً من السلطة، فكانت النتائج محدودة للغاية على الصعد كافة. وبالفعل، اعتُبِرَت القضيةُ الكرديةُ منتهيةً بعدَ ثورة 1925 وبتعبير زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان: «هكذا مرَّت فترةُ ما بين 1950 – 1980 بإثباتِ الكردِ لوجودِهم كأكبرِ قضيةٍ بالنسبةِ إليهم، إذ دارت كل السجالات وتمحورَت كل المقاومات حول سؤال: هل الكردُ موجودون أم لا؟» (خريطة الطريق – ص92).
لم تكن بنية حزب الشعب الجمهوري سلمية حتى بانتقالها إلى صفوف المعارضة، بل ظلت امتداداً عنفياً لجماعة الاتحاد والترقي، حتى وهو خارج السلطة بزعامة عصمت إينونو. وحاول بولنت أجاويد، منذ عام 1971، تحديث هوية الحزب، وحقق نجاحات محدودة حتى انفصاله النهائي عنه وتأسيسه حزبه اليساري.
استبعد حزب الشعب الجمهوري من رعاية الكمالية، مع انقلاب 1980. وبدأت الطبقة العسكرية الجديدة بقيادة كنعان أفرين بصياغة نسخة مغايرة من «تجديد الكمالية». وشمل ذلك في بعض الأحيان ملاحقة حزب الشعب الجمهوري وإيداع قادته السجون.
اليوم، مع تصدر حزب الشعب الجمهوري المعركة الانتخابية في مواجهة حزب العدالة والتنمية؛ من منهما الأقرب لعقلية النسخة الأتاتوركية من حزب الشعب الجمهوري؟ وهل يمكن تحديث الكمالية بدون مواجهة مع الأتاتوركية؟ وهل كلا الوصفين يحملان نفس المعنى؟
يتبع حلقة ثانية..[1]