#عزيز الحاج#
الفصل الثاني: محمد بشقة..
ليست هذه الفصول سيرا للشخصيات التي تتناولها، ولكنها لمحات وصور من حياة كل منهم كما عرفتهم، وما تخطر على البال من ذكريات معهم، أو أحاديث سمعتها عنهم. ومثالي في كتابة هذه الفصول كتاب هكذا عرفتهم لفقيد الأدب والصحافة جعفر الخليلي، وكنت قد كتبت عن كتابه أكثر من مرة، وله في كتابي هذا مكانه بالطبع.
للراحلين الطيبين ديون في أعناق محبيهم من الأحياء، شخصيات سياسية كانت، أو أدباء و فنانين ومفكرين وكتابا، أو رجال دين مصلحين منفتحين، أو أثرياء يعينون المحتاجين، أو أفرادا في العائلة، ألخ.. وحين أذكر الأثرياء هنا، تحضرني أخبار كارثة هايتي ومأساة سكانها المروعة، وأنظر إلى تسارع المساعدات الغربية، وبالمقابل، عدم اكتراث دول العرب والمسلمين النفطية وأثريائهم. وقال لي صديق: هل تأمل أن يساعدوا أهالي هايتي وهم مسيحيون، وفوق ذلك سود، وهم، عندهم، مجرد عبيد...؟!!!
كما توصلت وأنا في أواخر العمر إلى أن البطولات درجات وأنماط، فمن استشهد من أجل قضية عادلة هو بطل يستحق التمجيد، ورجل الإطفاء، الذي يلقي بنفسه في النار المشتعلة لإنقاذ طفل أو امرأة او عجوز، هو بطل على طريقته، والعائلة التي تأوي مناضلا في سبيل الشعب، تطارده قوى الأمن، هي أيضا بطلة على طريقتها، وبدون وعي منها.
لم يكن محمد بشقة، [ توقفت عنده في كتابي بغداد ذلك الزمان]، رجلا سياسيا، ولا من الشخصيات العراقية العامة، ولكنه، مع ذاك، كان من أكراد الفيلية البغداديين المعروف بينهم، هو وشقيقه إبراهيم بشقة الذي كان من مؤسسي الجمعية والمدرسة الفيليتين ببغداد.
رجل سامق القامة، بعينين زرقاوين، وشعر ذهبي، ووجه صارم جاد بلا تجهم، يلقي النكتة دون أن يبتسم وكأنه يحادث نفسه،ويكبت عواطفه، فهو يطرب للموسيقى دون أن تبدو عليه علامات النشوة سوى دندنة خفيفة مع النفس كما كان يفعل كلما سمع تلك الأغنية التركية الجميلة، الناعمة، التي لا يزال صداها العذب يطرب كياني. وعائلة بشقة كلهم منفتحون على الغير، مهذبون للغاية، ويحبون المرح، والسينما، كما أنهم جميعا، نساء ورجالا، من ذوي العيون الزرق والشعر الذهبي وكأنهم وفدوا من بلد إسكندينافي.
عرفت الراحل في طفولتي وصباي الباكر وبداية شبابي وبعد الأربعين، حين خروجي في منتصف 1969 من معتقل قصر النهاية. وسواء هو، أو زوجته المرحومة خيزران، فهم من أقاربنا المقربين، وكان التزاور بيننا مستمرا.
شغل محمد بشقة في العشرينات وظيفة ملاحظ إداري في السليمانية، وقد ساهم في وضع قواعد اللغة الكردية باللهجة السورانية مع خبراء أكراد وإنجليز. وأذكر يوم سافرنا لزيارتهم في السليمانية في منتصف الثلاثينات، وكان في استقبالنا في كركوك، وركبنا السيارة معا. ولن أنسى قراءته لوالدي بيت شعر عربي جاهلي دون أن أعرف المناسبة. البيت هو :
هوى ناقتي خلفي وقداميَ الهوى فإني وإياها لمختلفانِ
ولما كان حريصا جدا على نقاوة اللغة الكردية بمختلف لهجاتها، وكان يتكلمها بلا كلمات غريبة، فقد أنشد لنا أيضا بيتا للشاعر الكوردي فائق بي كس يستهزأ فيه بمن يتكلمون كردية نصفها عربي. والبيت يقول على لسان هؤلاء:
وزارة أشغال خوش جَهِد كِردي طريقْ سياراتْ لبنجوين بِردي
أي إن وزارة الأشغال بذلت جهدا طيبا بإيصال طريق السيارات إلى بنجوين. ربما ثمة نكهة قومية ضيقة في هذا الحرص على نقاوة اللغة. والحق، أن الكثيرين من الشبان الفيلية في بغداد كانوا يتكلمون كردية فيها كلمات عربية غير قليلة وذلك بحكم المعايشة اليومية والثقافة العربية. وكنت من هؤلاء.
ومرة أخرى ونحن في الطريق من السليمانية إلى مصيف سرجنار، رأيته يقول للوالد فجأة بالكردية الفيلية: اشتر لنا وابورا، وكان يقصد أسطوانة محمد عبد الوهاب : يا وابور قل لي رايح فين. هكذا كان يصوغ جمله. وقد علمت منذ عامين أنه أرسل ذات مرة في بداية الخمسينات زوجة ابن عمي المحامي محمود شكر إلى قريبنا الشخصية السياسية المعروفة حبيب محمد كريم لتردد له باللهجة الفيلية المثل الكردي: يا ديك، يا ديك ، اختبئ، اختبئ، حذرا من بطش الأسد.، وكان بذلك يحذره من مراقبة رجال الأمن له بسبب نشاطه في الحزب الديمقراطي الكردستاني، الذي كان جعفر محمد كريم، شقيق حبيب، من مؤسسيه عام 1946- علما بأن العائلتين تقربان لبعض. وبعد السليمانية، وقبل بغداد، كان الفقيد قد اشتغل سنوات في كربلاء أيضا.
ومع أن بشقة لم يشتغل بالسياسة أبدا، فإنه هو الذي ساعد المناضل الدكتور جعفر محمد كريم على الهروب في أواخر 1948 على ما أتذكر، وكان قد صدر على الفقيد جعفر أمر بإلقاء القبض عليه، وربما تسفيره أيضا. وقد اختفى أياما في دار محمد بشقة حتى دبر له الأخير الهروب لإيران من خانقين بواسطة أقاربنا هناك، ومنهم أحد أعمامي. وكنت أنا أيضا قد اختفيت في دار بشقة في الكرخ لمدة أسبوعين من أواسط 1948 قبل انتقالي لدار حزبية. وفي الخمسينات، لجأ إليها أيضا لبضعة أسابيع شقيقي الشهيد لطيف الحاج. كل ذلك، ومحمد بشقة يستقبلنا الواحد بعد الآخر بكل سماحة وكرم وكأننا ساكنون معه أصلا وجزء من عائلته، ودون أن يخطر بباله أن ثمة خطرا عليه من وراء حمايتنا. كان يفعل كل ذلك كأمر طبيعي، وبلا تأفف ولا امتعاض ولا تردد.
كان محمد بشقة من المثقفين البارزين بين الكورد الفيلية البغدادية، وكان يتقن الإنجليزية والتركية والفارسية والفرنسية، فضلا عن الكردية والعربية. وخلال الحرب العالمية الثانية وبعيدها، كان يشغل وظيفة مدير تحريرات في المديرية العامة للدعاية، وكان لها اسم آخر،[ربما مديرية المطبوعات]، ويرأسها- حسب ذاكرتي- ناجي القشطيني. وخلال وجودي لديهم عام 1948، كان يجلب لي كل يوم من الدائرة صحفا عربية وإنجليزية، ويطلب مني أن أؤشر له على ما يخص العراق منها.
بعد خروجنا من السجن في عهد ثورة 14 تموز كانت دار محمد بشقة في مقدمة من زرتهم، وعلمت منهم أن ابنته الطبيبة، المرحومة الدكتورة فضيلة بشقة، لها مع المرحوم زوجها، [ وكان طبيبا أيضا ومن الأسرة النجفية المعروفة آل عجينة]، عيادة طب في النجف. ولما أخذني للنجف، في الأسابيع الأولى للثورة، الشهيد سلام عادل بمعية الشهيد محمد حسين أبو العيس، ورفاق آخرين، فقد كنت أتمنى لقاء فضيلة بعد غياب عشرة أعوام. وبالفعل، التقيت في مقهى بالصديق الشهيد حسن عوينة، فأخذني ذات ليلة لعيادة الدكتورين، وبقيت معهما بضع دقائق لكيلا أشغلهما عن عملهما. وحسن عوينة كان ممن تعرفت عليهم في السجون وأحببتهم كثيرا. وقد كان مثالا للمناضل الصلب الذي يهب نفسه للقضية وهو دائم الابتسامة، وكان معروفا بالمرح، ونظم الشعر، وإلقاء النكات. وقد استشهد هو الآخر عام 1963 على أيدي زبانية الحرس القومي الأوغاد. فسلام على ذكراه، وعلى ذكرى رفاقه الميامين.
كان محمد بشقة نموذجا لأناس طيبين بالفطرة، يخدمون الغير دون انتظار البدل، وهو بمخاطرته بإيواء سياسيين مطلوبين لرجال الأمن، كان، ومن حيث لا يدري، أحد أبطال شعبنا المجهولين، وما أكثرهم، من نساء ورجال.
وفي كتابي عن بغداد لم أنس ذكر طرف من هوس الراحل بالنظافة، فكان يتجنب مصافحة أحد، فإذا صافحوه، كان يبقي يده ممدودة حتى تسنح له فرصة غسلها. وقد استغل أبي وناجي يوسف هذه الناحية للمزاح مع الفقيد، فكان ناجي يوسف يظل يشد على يده مطولا المصافحة هن عمد، ومحمد بشقة محرج لا ينبس بحرف. ومن الصدف، أن السينما الأميركية ابتكرت مؤخرا شخصية محقق بوليسي خاص، اسمه مونك، هو شديد الذكاء، وخارق الملاحظة، وله قدرات هائلة على تشخيص المجرم رغم تعقيدات الجريمة، ولكنه، في الوقت نفسه، مهووس بالنظافة، فلا يصافح أحدا، فإذا صافحوه، سارعت مساعدته لإعطائه ورقة تنظيف طبية.
من المؤلم، أن صورة محمد بشقة لم تكن عندي عندما طبعت آخر كتبي، شهادة للتاريخ، وإلا، لكان لها في الكتاب مكان بارز. أما ما يؤلم أكثر، فهو أنني شخصيا لم أطلع في الملفات المنشورة عن الفيلية ذكرا للراحل، وهو الذي يستحق فيها ذكرا بامتياز.[1]