التبعية الثقافية أكبر غزو على الثقافة الكردية
مزكين دليلة
الثقافة هي ذهنية وفكر ولغة المجتمع، وكافة نتاجات القيم المادية، عندما نذكر القيم المادية نقصد هنا كافة الوسائل الجميلة التي تلبي حاجات المجتمع في الغنى الفكري، الاتصال والتواصل، الحماية وكافة أشكال العبادة وما شابه ذلك.
يعبر الاختلاف والتشابه في وسائل الذهنية الثقافية عن مستوى الحياة الثقافية، وبالتالي فهو تعبير عن شكل الحياة الاجتماعية بكل شمولية، وكذلك تعبر عن مستوى الغنى أو الفقر الموجود في حياة المجتمع، ويبين المستوى الثقافي عن مستوى التطورات الاجتماعية، وترتبطان بعلاقة فيما بينهما.
أثبتت جميع الابحاث بأن كردستان هي الجغرافية الأولى التي ولدت عليها الذهنية الاجتماعية وتطورت صياغتها ووسائلها وديناميكياتها الحياتية. وموزبوتاميا العليا هي المنبع الأول لظهور الثقافة الاجتماعية الآتية من الثقافة النيولوتية، وأحدثت الثقافة النيولوتية أو الثورة الزراعية قفزات نوعية في صياغة الحياة الاجتماعية، وتكوّن المجتمع بتحول الكلان القبيلة إلى عشائر، كما أحدثت انعطافات هامة في اللغة الرمزية، وأغنت الحياة الثقافية والاجتماعية بتطوير وتعدد الوسائل الثقافية، ويمكن الإدعاء بأنها أكبر ثورة في التاريخ. إن التحول الاجتماعي أي التحول الثقافي هو تحديد الإنسان مصيره بنفسه من خلال الثقافة ووسائلها والوصول إلى تكوين حياة جديدة، وتعبر هذه الثورة عن أكبر التطورات الثورية، قياساً بالثورات العصرية المسماة بالثورة الصناعية والتكنولوجية والرقمية التي تبهر الابصار، وبناء عليه فأن هذه الجغرافيا هي الخلية الأم لتكوين جذور اللغة والثقافة الانسانية، بالإضافة إلى كونها الخلية الأساسية للقيم الانسانية، وأعطت الإجابة حول ماهية الانسان وقيمه الإنسانية من بين الأحياء الأخرى.
لا ندّعي الأمر كوننا أكرادا،ً بل لأننا أصحاب مسؤولية عظيمة حيال حماية القيم الإنسانية الثقافية، ونهدف إلى تطويرها والحفاظ على الخلية الأم للإنسانية واضافة جهودنا إلى هذه الأرض التي تشكل منبع الإنسانية والحفاظ على الثقافة الكردية وقيمها لا تعني الحفاظ على الكرد فحسب، بل هو الحفاظ على القيم الانسانية وجذورها التاريخية، وحينها لابد لنا من الإشارة لمنبع الجمال الإنساني الموجود، وأن لا نقيمها كمفهوم قومي أو عرقي. المجتمعية والديمقراطية هما أولى أشكال الحياة الانسانية، وبالتالي فإن القيم الكومينالية الديمقراطية موجودة في ثقافة هذه المنطقة منذ غابر الأزمان، انطلاقاً من ذلك تحتوي الثقافة الكردية على قيم اجتماعية وديمقراطية ، وبالتالي فأن احياء الثقافة الكردية يعني احياء القيم الكومينا لية الثقافية. ومن الهام التقرب بمسؤولية لإحياء الثقافة الكردية تجسيداً للثقافة الكومينالية الديمقراطية. لكن مع الأسف تحجّمت وانحطت الثقافة الكردية ذات الدور الأكثر تأثيراً من بين ثقافة موزوبوتاميا العليا المكوِنة للخلية الانسانية الأولى في القرن الأخير.
اتبعت كل من الدولة التركية والفارسية والدول العربية سياسة امحاء الهوية واللغة والثقافة الكردية، واتخذوا من كردستان منطقة لاستيطان الترك والعرب والفرس، خاصة بعد ظهور الحداثة الرأسمالية وتصاعد تأثير القومية وتيارات الدولة القومية، ومارست الطبقات الحاكمة في القومية التركية والعربية الشوفينية هذه السياسة بمنهجية.
حاولت الدولة القومية التركية بعد الامبراطورية العثمانية – استرجاع ما خسرته من أراضي باتخاذ كردستان منطقة لتوسيع نفوذ القومية التركية وغزو الثقافة الكردية وارتكاب الإبادة العرقية بحقها، وحاولت القضاء على الثقافة الكردية )المنبع الأساسي للثقافة الانسانية( أمام مرأى الانسانية جمعاء، واتبعت الاستعمار العسكري والسياسي تحت شعار «اللغة الواحدة، الثقافة الواحدة، الوطن الواحد والقومية الواحدة » في كردستان، وتعرضت الثقافة الكردية للاضمحلال والإذابة وأصبحت ملك للغير في ظل سياسة الاستعمار السياسي والعسكري، وأحرزت نتائج هامة من سياسة امحاء الثقافة واللغة الكردية.
بذلت الدولة القومية العربية والفارسية جهود كبيرة لإذابة الثقافة الكردية واكتسبت هذه الممارسة بعدا كبيراً، والإبادة الثقافية التي ارتكبتها الدولة التركية بحق الثقافة الكردية في شمال كردستان لا مثيل لها في العالم وتهديد لوجود الكيان الكردي، لو قارنا مابين الأجزاء الكردستانية الأربعة يجب أن نشير إلى الاختلاف التالي: حاز الاستعمار التركي نجاحات في صهر اللغة والثقافة الكردية، وشكلت تهديداً على الوجود والهوية الكردية، وانتهج الاستعمار العربي والفارسي نفس سياسة تركيا الاستعمارية، من قبيل سياسة انحلال الثقافة واللغة والهوية الكردية بشكل متأخر، وصولاً إلى اتباع سياسة الإبادة العرقية من قبل الأتراك والعرب والفرس بشكل مخطط ورؤيته كحق مشروع لهم، يفعلون ذلك من أجل تطوير ثقافاتهم وترفيعها والنظر للثقافة الكردية كثقافة رجعية ومتخلفة ليغترب الكرد عن حقيقتهم الثقافية ويتوجهوا صوب ثقافات أخرى، واتخذوا من هذه السياسة أساساً لهم، لذا سخرت هذه الدول كافة امكاناتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية لتوسيع وتشجيع ثقافاتهم واستبعاد الكرد عن ثقافتهم وهويتهم ولغتهم، واتبعت هذه الدول من خلال سياستها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية استراتيجية صهر الثقافة واللغة والهوية الكردية في بوتقة أنظمتها الدولتية الحاكمة.
واليوم لا يمكننا القول بأن الترك والعرب والفارس تراجعوا عن سياساتهم هذه، بل يستمرون بها بأشكال مختلفة، أدت سياسة الانحلال الثقافي الممارسة بحق الشعب الكردستاني إلى تصعيد المقاومة من قبل الكرد لحماية وجوده الوطني بحماية ثقافته، بالطبع أرادوا ارتكاب الإبادة الجسدية إلى جانب الانحلال الثقافي، في كل فرصة تسنح لهم لتوسيع وتوطين نفوذهم، والهدف الأساسي من سياسة الانحلال الثقافي بحق الكرد هو فصلهم عن هويتهم وثقافتهم ولغتهم وإذابتهم ضمن ثقافاتهم وهويتهم ولغتهم، وكذلك استغلال الثقافة الكردية بإبرازها على أنها ثقافة أخرى، وهذه من أهم ممارساتهم في تطبيق هذه السياسة.
يمكننا تعريف مقاومة الكرد ضد القوى الاستعمارية الإنكارية بأنها نضال لحماية الهوية والثقافة واللغة بالإضافة إلى حماية وجوده القومي، لا يمكن للشعب الكردي أن يحافظ على حياة حرة وديمقراطية من دون الحفاظ على كيانه الوطني بهويته وصونه بشكل حر، وكذلك لا يمكن للذين لا يمتلكون هويتهم وثقافتهم أن يكونوا أصحاب لفكر ديمقراطي حر، وبكل تأكيد لا يمكن للذين قهرت ارادتهم )من أفراد وجماعات( مواجهة الانحلال الثقافي الذي يعتبر من أقذر أشكال الإبادة، بالطبع لا يمكن بناء مجتمع حر ديمقراطي من أفراد وجماعات مسلوبة الإرادة، ولا يمكن تنظيمهم بشكل حر والوصول بهم إلى حياة حرة ديمقراطية.
أبدى كل من الشعب الكردي والثوار الاكراد والديمقراطيون والمقاتلون الأحرار الحرب ضد الهجمات التي استهدفتهم ، ويجب أن نقيم نضال ومقاومة الشعب الكردي المكثف ومواقفه اليومية كدفاع عن النفس ضد كافة الهجمات التي تستهدفه، لأنه لم يتم فرض سياسة الإبادة العرقية في أي وطن من أوطان العالم مثلما جرى فرضه بحق الكرد، وارتكبت أكبر التراجيديات على هذه الجغرافيا، بسبب وجود خطر الوجود الكردي كوجود اجتماعي شكل المنبع الأساسي للثقافات في تاريخ الانسانية، وتواجه الثقافة الإنسانية خطر الانحلال بانحلال الثقافة الكردية وعلى مرآى من العالم وهذه هي إحدى أكبر التراجيديات في ماضي ومستقبل الانسانية.
ازدادت الآلام والمعاناة بتطور الوسائل الثقافية للأنظمة الرأسمالية، وتحولت هذه الوسائل إلى كائن وحشي يلتهم الثقافة ويبيدها ويشكلها وفق ذهنيتها بشكل لا مثيل له في التاريخ، وبدأت الثقافة الحاكمة بالهجوم على الغنى الثقافي الآخر، ويلتهم النظام الرأسمالي خلايا بنية المجتمعات كورم سرطاني، وزادت كل من الدولة التركية والعربية والفارسية من حدة الإبادة العرقية بحق الشعب الكردي تصاعدا مع تطوير الرأسمالية لهذه الوسائل، ويظنون أنه بإمكانهم متابعة السياسة الاستعمارية باستخدام التكنيك الموجود والوسائل الثقافية المتوفرة بين أيديهم، حيال تصاعد نضال ومقاومة الشعب الكردي تجاه هذه الدول القومية ويواجه الكرد خطر الإبادات الثقافية وتهديدها أكثر من أي وقت مضى في تاريخهم، فرغم تطويرهم لنضالهم السياسي والاجتماعي الحر، وحماية قيمهم الثقافية ووصولهم إلى بعد كبير في هذا المضمار، إلا أن خطر وتهديد سياسة الانحلال الثقافي مازال قائماً، فالقوى الاستعمارية لا تستخدم وسائلها في حرب الصهر الثقافي، بل يلتجئون إلى وسائل الثقافة الرأسمالية العالمية، لإبعاد الكرد عن ثقافتهم بشكل كلي والتحكم بهم.
حيال هذه السياسات تلقى مسؤولية مناهضة الانصهار الثقافي، على عاتق الشعب الكردي وقواه الديمقراطية ومنظماته المناضلة في سبيل الحرية وكافة مؤسساته وأبنائه، وتطوير ثقافتهم ولغتهم وإعلان حرب الوجود تجاه هذه السياسة، وذلك اعتمادا على الثقافة الحقيقية وتجديد الثقافة الكردية ضد النظام الاستعماري الإنكاري والتصدي لهجمات الثقافة الامبريالية، عليها أن تبدي أعظم المقاومات في الخندق الثقافي، فهذا الخندق هو حماية المجتمعات من خطر الانحلال الثقافي وإنكار الهوية ومنع اللغة.
التسلح الثقافي، هو الذي يحمي ذاته إلى آخر رمق ضد هجمات العدو، وبقدر استمرار هذا الخندق على الصمود فبإمكان الشعب أن يحيا ثقافته وهويته ولغته، ودون ذلك لا يستطيع الحفاظ على غناه الثقافي، ولن يشكل أرضية لتكوين حياة ديمقراطية حرة، ولا يمكن لأية سياسة اجتماعية أو ثقافية أن تبني تلك الحياة، اذا أردنا حماية وجودنا وتأمين مستقبلنا وسد الطريق أمام كافة المخاطر المهددة لوجودنا، علينا أن نبني خنادق الثقافة بشكل متين، فالنصر في مواجهة القوى الاستعمارية الهادفة إلى الإبادة الثقافية وكسب الغنى لإثبات وجودها استناداً على ثقافتهم، هامة للغاية.
يمكننا النجاح في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إن انتصرنا في الميدان الثقافي وحافظنا على استمراريتنا، لا يمكننا القول بأن أكراد كردستان بأجزائها الأربعة وفي المهجر أبدوا الاهتمام المطلوب في الحفاظ على وجودهم الثقافي بشكل كافي ضد الهجمات الثقافية التي تعرضوا لها، فأبناء الشعب الكردستاني القاطنين في المستوطنات وفي مدن أوربا لم يحافظوا على ثقافتهم ولغتهم، وأن جاهدوا في سبيل ذلك، فأن جهودهم ستذهب أدراج الرياح بسبب تكبلهم بسياسة الانصهار الثقافي، ويعانون مخاطر جمة.
هناك فئة من الأكراد تتكلم باللغة الكردية وهويتهم كردية، ولكن نمط حياتها وثقافتها بعيدة كل البعد عن الحقيقة الكردية، وبدوره أدى إلى ظهور مجموعة عجيبة كردية في الشكل ومغتربة عنها في الجوهر، ويتعدى هذا إلى المناطق الكردستانية ولا ينحصر في المستوطنات فقط. وكلنا على علم اليقين بوجود مقاومة حيال سياسة الصهر التي تقوم بها الدول الاستعمارية في كردستان، وأن لم تكن كافية وبالسوية المطلوبة، نتيجة عدم ايلاء الاهتمام وابداء روح المسؤولية في هذا المضمار.
توجد تقربات ومفاهيم تخلق الأرضية لتعريض الهوية واللغة الكردية لتأثير النظام التركي وثقافته ولغته ونمط حياته، وهناك مفاهيم تدل على الاغتراب عن الثقافة واللغة والهوية الكردية في كل من سوريا وايران )وإن لم تكن بالسوية الموجودة في تركيا(، والسلطات الاستعمارية تستخدم الصلاحيات وجميع الوسائل التي بحوزتها، ولا تعطي المشروعية للممارسات، بل العكس من ذلك لابد من تصعيد النضال في ظل الحركة الديمقراطية الحرة ضد الانحلال الثقافي في شمال وجنوب وشرق كردستان، ونشير إلى أهمية هذا النضال مرة اخرى.
يجب دراسة ومعالجة الاغتراب الثقافي الذي يعيشه الكرد، ونقف في وجهها وخاصة في جنوب كردستان والمخاطر المحدقة بهم، وتوضيح أساليب النضال، ففي الجنوب تحطم الاستعمار السياسي والعسكري، وخلقت الفرصة لسد الطريق أمام الانحلال الثقافي، ولكن لدى النظر لذاك الجزء سنلاحظ حاكمية زمرة من الأغوات والبكوات والطبقة الغنية الكردية من الناحية السياسية والاقتصادية ويمكن تسميتهم بالاوليغارشية، ولا يمتلك الشعب القوة وحق الحكم في المجالات السياسية والاقتصادية، ويعيشون في فقر مدقع. فسابقاً كان يعيش خارج السياسة واليوم أيضاً هو بعيد عن دائرة السياسة، أي أن الحكومة الفيدرالية الكردية لم تعمل على خطو خطوات نحو ديمقراطية المجتمع الكردي وتقويته اقتصادياً وهو بحد ذاته موضوع جدل ونقاش.
لا يمكن القبول بالرضوخ للانحلال الثقافي من قبل شعب بقي وجهاً لوجه أمام سياسة الانصهار، في منطقة لم تعد ترضخ الاحتلال العسكري والاستعمار السياسي، وهذا يوضح عن تراجيديا عميقة في الجنوب، وينم عن اللامبالاة حيال تعاظم سياسة الاستعمار التركي والعربي والفارسي في كردستان من الناحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ولا يمكن القبول بالتراخي أمام المخاطر الكبيرة وخاصة على المستوى الثقافي وانحلالها في الحياة الاجتماعية مع مرور الزمن.
تشكّل جيل متلهف لثقافة الغرب في جنوب كردستان، وعن معرفة يحاولون خلق جيل بعيد عن الثقافة والهوية الكردية وتخديرهم بنمط حياة الغرب بدلاً من نمط الحياة الكردية، ورؤية حياة الغرب كحياة رفيعة والاغتراب عن المجتمع، وقد يكون هذا الجيل فئة معينة ولا تمثل المجتمع بأكمله، ولكن تكلف هذا الجيل بمهمة تغيير الثقافة والهوية الكردية بثقافة غريبة عن كردستان، فهم يتداولون اللغة الكردية ويعبرون بها عن أنفسهم، ولكن نمط الحياة والثقافة والعواطف بعيدة كل البعد عن الحقيقة الكردية.
عدم تجسيد الثقافة الأولى المتكونة في هذه الجغرافيا، مهد الحضارات بكل قيمها الرائعة والاستخفاف بها وتآكل قيمها الاجتماعية، إلى جانب الإعجاب بثقافة تنتهك الثقافة الكردية بمثابة، هي بمثابة مرض جرثومي يستهلك ويتطفل على القيم الاجتماعية الجوهرية، والذين يستثمرون هذه القيم ويلعبون دور العملاء والتابعين لسياسة الانحلال الثقافي ضد الكرد، يرغبون بفرض سياسة الانصهار والقبول بها بطواعية من قبل الشعب الكردي في هذه المرة، بشكل مغاير عن الأساليب السابقة التي سارت بالاحتلال العسكري والاستعمار السياسي والاقتصادي. وتفشي المفهوم الفردي والانانية بهذا المستوى في المجتمع الكردي يعني الهجوم على الثقافة الكردية الاجتماعية. بنيت بعض المستوطنات ) Gato ( في جنوب كردستان، ولا تشبه المستوطنات المبنية في أوربا للفقراء والمساكين وذوي الهويات المختلفة الأخرى، بل على العكس فقد بنيت للحكام والارستقراطيين الأكراد وللاوليغارشيين المنقطعين عن المجتمع الكردي، فلا يمكننا مشاهدة انقطاع الحكام عن مجتمعاتهم بهذا القدر في العالم بالشكل الشبيه في كردستان، وحدث شرخ عاطفي وفكري عميق بين البنية السياسية الحاكمة والشعب، وتجاوزوا اغتراب زوجة ليون السادس عشر بعد الثورة الفرنسية والتي قالت لأبناء شعبها الجائعين: «كلوا الكعك بدلاً من الخبز »، ويدل عن عزلتهم من الناحية السياسية والاقتصادية الكردية وعدم معرفتهم بأحوال المجتمع الكردي، كيف يعيش وماذا يأكل وماذا يشرب؟ أنه اغتراب بسوية القول القائل «من لا يملك خبزاُ فليأكل الكعك .»
الاغتراب الحاصل ناتج عن اختيار وترجيح ثقافة أخرى، فقد تكون لغته كردية ولكن يقلد الغرب في الملبس والموسيقا ونمط الحياة، فسابقاً كان العرب والفرس والترك يظهرون ثقافتهم بأنها متطورة ومتقدمة ويشجعون الكل على قبول ذلك، وحينها هرع قسم من الأكراد وراء سياسة التتريك والتعريب والتفريس، أما الآن فيهرعون وراء الثقافة الاوروبية ويقلدونها، لأنهم يجدونها عصرية، وهذا بدوره يخلق أرضية لاستهلاك الثقافة الكردية.
فمن جانب تنخر الثقافة الغربية ومن جانب آخر ثقافة الأرابيسك كالسرطان في خلايا الثقافة الكردية، خاصة لدى اختيار وتجسيد أبناء الطبقة الكردية الحاكمة في جنوب كردستان الحياة الاوروبية وتقليد موديلاتها إلى جانب تشجيع الشبيبة الكرد إلى ذلك وجذبهم لذاك النمط، لا يوجد وضع مأساوي وتراجيدي وخطر بقدر هذا الوضع، لذا فهم مضطرين إلى اتباع سياسة تهجين المجتمع -وفي المقدمة فئة الشبيبة والنساء- بالثقافة الكردية، رغم وجود حقيقة قومية على أرض الواقع ضد الذين يتبعون سياسة الانحلال الثقافي بحقه، ومن الواجب احياء الثقافة الكردية والابتعاد عن الثقافة الاوروبية وثقافة القومية الحاكمة والسمو بقيم الثقافة الكردية من قبل فئة الشبيبة.
أرادوا القضاء على الثقافة الكردية عن طريق سياسة الانحلال الثقافي. وقاوم الكرد حفاظاً على قيمهم الثقافية، وتشبثوا بخندق الثقافة اعتماداً على جوانبهم الثقافية القوية، وأن تلقوا الخسائر في الميادين السياسية والاقتصادية والعسكرية، وهذه المقاومة شكلت أرضية للنضال التحرري للشعب الكردي في كافة الأجزاء الكردستانية، ولولا تلك المقاومة لما كان بمقدور الكرد ابداء نضالاً تحررياً ديمقراطياً في كافة الأجزاء الكردستانية، فلا نستطيع الاستخفاف بالحقيقة الثقافية الموجودة وأن طبعت بجانب المأساة والتراجيديا، ولا نقبل الاستخفاف بها أو اتباع سياسة ثقافية تنتهك وتميع الحياة الثقافية الكردية، وحتى أنها تعتبر خيانة بحق تاريخ المجتمع الكردي.
لدى النظر إلى المفهوم والتقرب الثقافي في جنوب كردستان وخاصة مع تصاعد مفهوم الشبيبة الثقافي المصبوغ بالثقافة الخارجية، سنتأكد من وقوف الثقافة الكردية أمام الانحلال وجهاً لوجه، وتولد فينا الشكوك والمخاوف، فهناك قلق من تمكن القوى الامبريالية والأنظمة الدولتية من النيل من الثقافة الكردية في الجنوب، رغم فشلها سابقاً في فرض الانصهار عليها، فالقوى الامبريالية التي فشلت في امحاء القومية الكردية، تسعى إلى القضاء على الثقافة الكردية، بعد انزياح الاستعمار العسكري والسياسي بنسبة مهمة في جنوب كردستان. ويريدون قتل الكرد بالكرد. فالأغاني المؤلفة باللغة الكردية بعيدة كل البعد عن الموسيقا والروح الكردية، وبها يريدون قتل القيم الكردية الجميلة، فالجانب الثقافي لدى الكرد هو الأقوى لديهم ويمتد بجذوره إلى التاريخ، وتمكنوا من الحفاظ على وجودهم من خلال ثقافتهم الكومينالية الديمقراطية أمام جميع الضغوطات والهجمات، واكسبتهم القوة للحفاظ على وجودهم ومجتمعيتهم، وولدت لديهم فكرة وجودهم الاجتماعي وحمايته فبالرغم من كافة الهجمات على الكرد، إلا أنهم حافظوا على وجودهم بحماية ثقافتهم، وأن عدم رؤية الانحلال الثقافي ناتج من عدم المعرفة والإدراك، لذا يستوجب الخلاص من تسريب الثقافات الأخرى الغريبة عن الثقافة الكردية إلى المجتمع واعاقة الهجمات على الثقافة الكردية.
لا يمكن القبول بالهجمات المتصاعدة على الثقافة الكردية في جنوب كردستان، وكذلك التهجم على القيم الكومينالية الديمقراطية، ولا يمكن القبول باستخدام اللغة الكردية ضد الكردية، وعلينا مواجهة هذه المفاهيم بكل قوتنا، وعلينا رفض تسريب الثقافة الغربية إلى جنوب كردستان والشرق الأوسط، وعدم السماح بالقضاء على الثقافة الكردية واستهلاكها ولعب دور العمالة والتبعية الثقافية فيها، ويشغل هذا الموضوع قائمة المواضيع الهامة والمتوجب التوقف عليها بشكل سريع، ويجب التصدي للانحلال واستعادة الثقافة الجوهرية التابعة للشعب الكردي والنابعة من جوهره الثقافي الديمقراطي الاجتماعي. تقع مسؤولية التصدي لهذه الهجمات الثقافية على عاتق المثقفين والشبيبة الكرد، بالقيام بحملة كبيرة ضد هذه الهجمات وتوضيح حقيقتها المناهضة للثقافة الكردية، فلنتخلى عن النظر لها بأنها رفيعة ومتطورة، بل يجب النظر لها أنها السبب في تراجع الحياة الاجتماعية الكردية، فمثلما خلقت هذه الثقافة حياة بعيدة عن الحياة الكردية، فالمجسدين لهذه الثقافة بعيدون كل البعد عن القيم الاجتماعية والكردية الإنسانية.
على الكرد معرفة الجوانب القوية لديهم وتطويرها بشكل أكبر، فالأرضية الثقافية للكرد هي من أقوى الجوانب لديهم، كما أن ظاهرة الثقافة هي من أكبر الظواهر التي تعرف الرفعة إلى جانب الظواهر الأخرى. لذا فعلى الكرد أن يكونوا مثالاً يحتذى به لمجتمع ديمقراطي حر في الشرق الأوسط بالاعتماد على ثقافتهم، فهي تمتلك الثقافة الكومينالية الديمقراطية في نواة ثقافتها، وتشكل قوة ديناميكية لحماية الإنسانية من براثن الفردية التي تنهش بها. تتفشى الرأسمالية الفردية كالسرطان بين صفوف المجتمع للقضاء عليها، وهذا يُكسِب الثقافة الكردية المعنى القوي والقيمة الكبيرة، فهي تحمل قيمة للإنسانية. وترويج الثقافة الغربية ومناهضة القيم الكومينالية الديمقراطية بالفردية في المجتمع الكردستاني هو عمل عدواني تشبه عدوانية الرأسمالية السرطانية في المجتمع.
هناك الآلاف من الذين انقطعوا عن قيمهم وهويتهم وثقافتهم في كردستان في يومنا، ويزدادون يوما عن يوم، قد يكون عددهم قليلا بالنسبة إلى نسمة المجتمع بشكل عام، ولكنهم يجبرون فئة الشبيبة )شباب وشابات( على تقليد موديلاتهم، لأنهم يعتبرون أنفسهم نموذجاً متطوراً وعصرياً في المجتمع الكردي، ويحتقرون ويستخفون بالذين لا يصبحون مثلهم، ويعتبرون أنفسهم مبدعي أعمال جميلة ذات اعتبار في المجتمع، لقد انقلبت القيم النبيلة في جنوب كردستان، فانحطت القيم المستوجب السمو بها، ورفعت من مكانة القيم المستوجب رفضها، وتقدمت البعض منها للأمام في حين يتوجب أن تتقدم القيم الأخرى إلى الأمام، وإن لم يتم تصحيح هذا الوضع فلا يمكن حماية الكيان الكردي ليس في الجنوب فحسب، بل في كافة الأجزاء الكردستانية الأخرى أيضاً. لا يمكن للشعب أن يتصدى لأية هجمات خارجية عسكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، إن لم يحيا المجتمع بثقافته وهويته ويبني حياة حرة وديمقراطية وفق هذه الأسس، والمجتمع الذي انفصل عن قيمه الثقافية محكوم بالخضوع لحاكمية قوى أخرى في النهاية، أن تفشي الميوعة والانحلال الثقافي في جنوب كردستان خطير للغاية، وخاصة لو فكرنا في منطقة مثل منطقة الشرق الأوسط التي تحكمها السلطة القومية الشوفينية وتمارس الضغط والظلم على الشعب الكردي بشكل مستمر.
ينبغي أن يتحول جنوب كردستان إلى أرض لتوسيع الثقافة الكردية وحمايتها والتصدي لكافة الهجمات التي تستهدف ابادتها ومركز للنضال ضد الانحلال الثقافي، كذلك ينبغي النضال ضد تغريب الثقافة الكردية وتمييعها وسد كافة الثغرات المعرضة للهجوم وحماية وتجديد خصوصيات الثقافة الكردية الجوهرية، ينبغي تسخير كافة الإمكانيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية لبناء مراكز ومؤسسات قائمة على خدمة ترفيع الثقافة الكردية وتعظيمها، لنترك تشجيع الثقافة الغربية والفن الآرابيسك وقيمها جانباً. ولنعطي القيمة والأهمية لكافة الفنانين والمثقفين والكتاب الذين يمثلون الثقافة الكردية مقابل هذه الثقافات.
ليس من المهم أن تؤلف الموسيقا باللغة الكردية، بل من الخطورة أن تمثل ثقافة أخرى بهذه اللغة، من الأهمية استخدام الثقافة الكردية ككل متكامل، فلا يمكن القبول بأولئك الذين يستخدمون اللغة الكردية للتغني بالآرابيسك وفكرة ترفيعهم إلى مثابة مفكرين وعلماء المجتمع وتسخير الإمكانات السياسية والاقتصادية في خدمتهم، فلو كان الاقتصاديون والسياسيون ذوي كرامة ويحملون قيم ثقافية عالية عليهم مناهضة فن الآرابيسك وأولئك الفنانون المقلدون للثقافة الغربية والمشجعون للشبيبة الولهانة بالثقافة التركية والفارسية على حساب الاغتراب عن ثقافتهم، وسنعلنهم في حال عدم قيامهم بذلك شركاء لمتبعي سياسة الانحلال الثقافي، وكذلك عملاء ومتواطئين معهم، ولكن إن لم يرغبوا في أن يكونوا عملاء وتابعين لمتبعي سياسة الانحلال الثقافي عليهم وفي الحال التصدي للفنانين الذين يعكسون هجمات الثقافة الغربية وثقافة الدول الاستعمارية القومية ويؤيدون مفاهيمهم الفنية، لا يكفي مناهضتها فقط، بل يجب تأييد الفنانين والفن الذي يحاول احياء الثقافة الكردية وتشكيلها من جديد بنهج ديمقراطي حر.
بالطبع لن تحيا الثقافة الكردية بحماية جوهرها الأصلي فحسب، بل يجب تجديدها وإغنائها في المجتمع الكردي بشكل أكبر، وبناء على هذا الأساس لا يمكنها التصدي لثقافة الغرب في حال عدم ابداعها لنتاجات ثقافية جديدة، ينبغي الاعتماد على جوهر الثقافة الكردية، ولكن من الضروري خلق آثار فنية عظمية لتطوير المستوى الاجتماعي ورفعها، إلى جانب ذلك، الفن يعني الانبعاث، وكذلك تغذيتها بجوهر الثقافة الأصيلة واكسابها غنى أكبر، بقدر ما تخلق الثقافة الكومينالية الديمقراطية الجديد وتنتجها، بإمكانها أن تضعف من تأثير الثقافات الأخرى وتواكب العصر والتحديث، ولكن العصرنة لا تعني تشويق وتشجيع الفردية والقيم الغربية، وكذلك ليس النظر إلى الكردي كإنسان رجعي وليست تلك القيم الثقافية التي خلقها العرب والترك والفرس. فالعصرنة تعني احياء الميراث الثقافي للمجتمع البدائي الكومينالي الديمقراطي الحر للإنسانية. واحياء قيمها الحياتية الأولى المبنية على أسس حماية الحياة الإنسانية، وكذلك احياء النضال الثقافي الديمقراطي الكردي الحر الذي يمارسه الشعب الكردي منذ عشرات السنين، عندما نذكر النهضة الكردية يجب خلق ثقافة كردية قائمة على تجديدها وتحديثها وتجسيد الحياة الديمقراطية الحرة وتحقيق الحياة الحرة والديمقراطية للشعب الكردي، لا يمكن تحقيق ذلك بما يتم ترفيعه من الانتاجات الثقافية في جنوب كردستان اليوم، فالفنانون الموجودون في الجنوب بالأغلب منقطعون عن حقيقتهم ويتلاعبون بعواطف المجتمع وتوسيع الفردية وتعميقها، ولا تساهم في خلق حياة ديمقراطية حرة، بل استبعاد الناس عن جيرانهم وقريتهم وأحيائهم ومجتمعهم.
الثقافة التي تحاول التحكم في شكل الحياة في جنوب كردستان وفي حالة هجوم على الثقافة الكردية، تهاجم المرأة بطبيعة الحال التي طورت المجتمعية، فالمرأة أكثر من أن تكون خالقة للإنسانية والمجتمعية فهم يستغلونها كسلعة جنسية، وبهذا هم في حالة تصاعد انحطاط المرأة في كردستان، لا يستهدف هذا الهجوم المرأة الكردية التي تحمل الثقافة الديمقراطية العادلة والمساواة ورؤيتها كسلعة جنسية فحسب، بل يستهدف المجتمع بأكمله، ويحاولون نشر نتاجات الثقافة الرأسمالية الغربية وثقافة الآرابيسك في تركيا عن طريق الفنانين الذين يسمون أنفسهم بفنانين كرد والمُساقين من قبل عملاء الابادة العرقية في المجتمع الكردي.
وصل هذا الوضع إلى حد عدم الحاجة إلى دخول عملاء الثقافة ومتبعي سياسة الانحلال الثقافي إلى كردستان، فما يصبو إليه هؤلاء وعملائهم ينفذها أولئك الذين يدعون الكردية بكل طواعية، وحتى السياسيين والاقتصاديين يؤيدونهم، إن الثقافة التي خلقوها هؤلاء هي لإضفاء المشروعية على نهج حياة أولئك السياسيين والاقتصاديين ويظهرونها حياة طبيعية في المجتمع الكردي، حتى يمكننا القول بأن هناك اتفاق مابين هؤلاء السياسيين والاقتصاديين ومتبعي سياسة الانحلال الثقافي، وهناك عمالة متبادلة فيما بينهم، والواحد يواصل الآخر، لا يمكن للمجتمع الكردي الذي بقي وجهاً لوجه أمام الانحلال الثقافي القبول بذلك. فقد قدم تضحيات غالية الثمن في هذا الخصوص منذ عشرات السنين، وقدم الشعب الكردي في جنوب كردستان الآلاف من الشهداء ضد النظام العراقي الاستعماري الظالم والانحرافات والميوعة الثقافية والقيم الغربية حفاظاً على ثقافته وحماية وجوده وإحياء قوميته. واليوم يستخف بالثقافة الكردية ويرفع من شأن الثقافة الغربية وثقافة الآرابيسك تضادا مع أحلام وأهداف الشهداء تماماً.
لم يكن النضال الموجود منذ عشرات الأعوام في كردستان لأجل السياسيين والاقتصاديين القائلين «اضرب فلينفلق، واعزف ليرقص في الحياة »، أن هذه الجغرافيا بقيمها الموجودة ليست عائدة للسياسيين والاقتصاديين، بل عائد للشعب الذي قاوم بثقافته وضحى بروحه في تلك الحروب، وبالتالي يجب ابداء الاحترام والتقدير لقيم هذا الشعب.
لا أحد يقدم كل هذه الامكانات والتضحيات في كردستان لإحياء الثقافة الغربية وقيم القومية الاستعمارية. إن تجسيد قيم الغرب بكل طواعية في كردستان والتبعية له بهذه الطواعية وإحياء ممثليها في كردستان هو تعبير عن الوقوف ضد مقاومة ونضال وميراث شهداء الشعب الكردي.
إن الاستعمار العربي والفارسي والتركي المنحدرين من جذور الشرق الأوسط يظلمون الكرد، ولكن هذا لا يعني بأن الشعب الكردي ليس بشعب شرق أوسطي ولا يحمل ويجسد قيمها، بالعكس فإن الكرد لا يشكل قيم للإنسانية فحسب، بل يشكل القيم الأم لثقافة الشرق الأوسط أيضاً، في الحقيقة أن ثقافة موزوبوتاميا العليا أثرت على كافة الثقافات الأخرى، مثلما ذكر قائد الشعب الكردي «عبدالله اوجلان » تأتي الثقافة الآرية قبل الثقافة السامية، وأثبت بأن الحضارة السومرية والمصرية متأثرة بثقافة موزبوتاميا العليا تاريخياً.
في الأساس أن تكوين الإنسانية والمجتمعية في الشرق الأوسط عائد لهذه الجغرافيا وتمتد إلى جذور المجتمع الكردي، وأن استطاع الكرد حماية خصوصياتهم – في هذه الناحية- واعتمدوا على الأسس التاريخية لها، فبإمكانهم أن يكونوا أصحاب دور أكثر فعالية في المستقبل، وبهذا سيضيفون قيماً أخرى إلى قيم الإنسانية والشرق الأوسطية أيضاً.
بإمكان الجميع أن يكونوا مقلدين والحصول على بعض المكتسبات من خلال تجسيدهم لثقافات أخرى في العالم، ولكن الكرد لن يحصل على شيء، ويمتلك الجانب الأقوى من القّيم كونه صاحب أول ثقافة انسانية، وصاحب لأول ثقافة خاصة انسانية، وصاحب لأول ثقافة خاصة به، فالكرد هم الممثلين للثقافة الخاصة في الشرق الأوسط، وليس العرب والترك والفارس، بالطبع لا ننكر بأن الشعب العربي والفارسي أصحاب أدوار هامة في تكوين ثقافة الشرق الأوسط، وللشعب التركي أيضاً دور في إضافة القيم الثقافية إلى قيم ثقافة الشرق الأوسط، لكن الكرد أصحاب دور فعال وهام لذا عليهم الوثوق بأنفسهم.
لنضع التأثر بالثقافات الأخرى وتقليدها والتشبه بها جانباً، وعلى العكس عليهم أن يبتعدوا عنها ليتعرفوا على حقيقتهم والوصول إلى جوهرهم الكوني ليزيدوا الإنسانية قيم أعظم.
جعلتنا كل من الدول العربية والفارسية والتركية نستخف ونستصغر مجتمعنا. وحاولوا دوماً خداعنا بهذه النظرة وكذلك زرعت اوروبا الغربية في ذهنية المجتمع الشرق الأوسطي مثل هذا الاستخفاف والاستصغار، وهو تفكير خاطئ جداً وعلينا رفضه بكل تأكيد، ورفض كل ما كلفت به كل من الدول القومية العربية والفارسية والتركية من قبل الغربيون في الشرق الأوسط، ويتوجب علينا خلق حياة ديمقراطية حرة في الشرق الأوسط وتطويرها دون أن نتكابر على الشعوب الأخرى أو ننحاز إلى المفاهيم الشوفينية والقومية. ولكي نرى عظمة قيمنا والقيم الموجودة في حياتنا الاجتماعية بشكل صحيح، وهذه هي العظمة بعينها، ولا تكمن العظمة في تقليد وتجسيد والعمالة والتبعية لثقافة أخرى، فلإبداء الاحترام واكساب الغنى للثقافات الأخرى، في البداية علينا أن نحب ونجسد ونحيا قيمنا ونوحدها مع طرح الثقافات الأخرى لتصبح أكثر غنى.
إننا نحترم الثقافات الأخرى في العالم، ولكي تكون صاحبة معاني أكبر، علينا أن نحمي ثقافتنا ونطورها، في الحقيقة بقي الشعب الكردي وجهاً لوجه في بوتقة الانحلال والانصهار الثقافي دائماً لذا ينبغي التقرب بكل حساسية من القيم الثقافية.
قد نتحمل الخسارة في الميدان السياسي والاقتصادي ولكن لن نتحمل خطورة الانحلال الثقافي. لأن التراجع الثقافي وانحلالها قضية الوجود واللاوجود في الشرق الأوسط. إن هذا النضال في الأصل هو نضال ضد الهجمات التي تشن ضد ثقافته وهويته ولغته، فلا يليق بالكردية ما آل إليه جنوب كردستان، رغم ضعف حكم الاستعمار السياسي والعسكري فيها ووجود امكاناتهم للتنظيم الثقافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي بأنفسهم، لذا يجب التحقيق في الميوعة والتبعية المتسربة إلى الثقافة بكل تأكيد، وينبغي خلق سياسة ثقافية جديدة بعد التحقيق في ذلك.
فلو لم يتم ذلك ستكون النتائج على الشكل التالي : ستتقدم المقاومة الدوغمائية الاسلامية حيال هجمات الثقافة الغربية وميوعتها، فكما تقوقع وانكمش مجتمع الشرق الأوسط أمام الهجمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وانغلق أمام كافة التطورات العالمية، فسيحدث مثيلها في كردستان أيضاً، وستضع نتائج التبعية والانحلال الثقافي المجتمع في مواجهة سلبيات كبيرة، علماً بأن سبب تأثير الإسلام السياسي هو تحويل السياسيين والاقتصاديين الموجودين في المجتمع الكردي إلى آلة في يد متبعي سياسة الانحلال الثقافي واغتراب المجتمع الشرق الأوسطي رويدا وتهيئة الأرضية للممارساتهم، لو لم يتم تحرير هؤلاء السياسيين والاقتصاديين من ذلك، فإنهم سيتراجعون أمام دعم دول المنطقة للقوى الإسلامية السياسية، نحن كقوى كردية ديمقراطية وقوة نضالية تحررية ديمقراطية وككتّاب ومثقفين، علينا أن نتصدى لهذين المفهومين السلبيّين، والتصدي ضد التبعية الثقافية الغربية ومحاولات القوى الاستعمارية القومية نشر وتوسيع ثقافتها في المجتمع الكردستاني.
من جانب آخر، إن مواجهة القوى اللاديمقراطية والمستثمرين للقيم الاسلامية في المجتمع الكردي والشرق الأوسطي والتصدي للذين يصبحون آلة للفكر والمفاهيم غير الديمقراطية، تعني الحفاظ واحياء الثقافة الكردية بكل معانيها، ومستثمري الدين في خدمة السياسة ضد الحياة الكومينالية الاجتماعية الديمقراطية للشعوب يعيقونها لمواجهة الهجمات الخارجية التي يتعرضون لها. بالطبع نحن نحترم الثقافة الاسلامية، ونؤمن بأن قيم الثقافة الاسلامية هي قيم للمجتمع الكردستاني في نفس الوقت، ونؤمن بأنها ستكون صاحبة دور ايجابي في الحياة السياسية والثقافية للمجتمع الكردي، ولكننا نناهض استغلال الإسلام في خدمة السياسة، فجعل الإسلام كآلة في خدمة السياسة هو القضاء على الجوانب الجميلة والغنية لشعوب الشرق الأوسط والقضاء على الديناميكيات الموجودة في المجتمع وتحويلها إلى قوالب دوغمائية وإضعاف قوة المجتمع في مواجهة الهجمات الخارجية، نصف الذين يسعون إلى خدمة مصالح فئة حاكمة باستعمارية معتقدات الشعوب ووضعها ضمن قوالب دوغمائية لتسير حكمهم بالمتاجرة بالسياسة، ونسمي أولئك الذين يستثمرون قسم من الثقافة الكردية والشرق الأوسطية، بمعيقي تطور ثقافة الشرق الأوسط، وبهذا تضعف الثقافة الكردية والشرق الأوسطية في مواجهة الثقافة الغربية الاستعمارية وتقضي على ديناميكياتها، فهم يأخذون أماكنهم في جبهة المهاجمين على الثقافة الكردية.
على ضوء هذه الحقائق، على كافة المثقفين والكتّاب والفنانين في الجنوب أن يناهضوا سياسة الانحلال الثقافي والمفهوم الدوغمائي ويحيوا التراث الثقافي الكردي ويناهضوا سياسة الانحلال الثقافي الغربي بشكل جدي، فالذين لا يناهضونهم لا يستطيعون مناهضة القوى الدوغمائية القالبية والمُحافِظة، يمكن للذين يحاربون ويتصدون للتبعية والانحلال الثقافي الغربي أن يقفوا ضد الذين يفرضون الرجعية الثقافية والقوالب على المجتمع، ننادي القوى السياسية والاقتصادية الداعمة للانحلال الثقافي والتبعية الغربية بالتراجع عن ممارساتهم، وكذلك ننادي كل المثقفين والكتّاب والديمقراطيين والإعلاميين بالوقوف ضد كافة الهجمات التي تستهدف انحلال الثقافة الكردية والتصدي للفردية وحماية قيم المجتمع الكردي الكومينالي الديمقراطي. ونأمل منهم اتباع سياسة ثقافية قائمة على حماية القيم الاجتماعية الثقافية الديمقراطية وتحويلها إلى شكل الحياة الاجتماعية وتعظيم قيمها بشكل أكبر.[1]