الحرب الخاصة
حسين شاويش
الهدف الأساسي من الحرب الخاصة- النفسية هو السيطرة على الأذهان والقلوب وبالتالي على العقل والعاطفة معاً. من خلال هذه السيطرة تحاول القوى المهيمنة والمسيطرة خلق اليأس والتشاؤم وانعدام الثقة في النفوس، إلى جانب التشويش وخلط الأوراق والضبابية في الآراء والأفكار والمواقف. القضاء على الأمل بالمستقبل والثقة بالذات هو غاية استراتيجية لهذا النوع من الحرب .
كما أن تعميق التناقضات الثانوية والمصطنعة وتهميش التناقض الرئيسي وخلق الصراع الداخلي وفتح القلعة من الداخل هو من صلب نشاطات الحرب النفسية الخاصة.
توجيه المجتمع حسب مصالح وأجندات القوى العالمية والإقليمية المهيمنة يدخل في إطار الفعاليات الاستراتيجية المناهضة للثورات الشعبية الحقيقية.
تعريف هذا النوع من الحرب بهذه الجمل القليلة يبقى ناقصاً وبعيداً عن التكامل والشمولية، لأن تاريخ الدولة كمؤسسة معادية لمصالح المجتمع هو تاريخ الحرب الخاصة والنفسية. على الرغم من وجود اختلاف في الأدوات والأساليب فيما بين الحرب التقليدية أو ما يسمى بالنظامية والحرب الخاصة إلا أن تاريخهما يمتد إلى عهود ظهور الدولة ولأول مرة كمؤسسة فوقية تعتمد على العنف والكذب والاستغلال والتحريف . وبما أن الدولة تعتمد على الكذب والتحريف وقلب الحقائق والدعاية المغرضة إلى جانب القوة والعنف فإن هذه الأساليب جملةً وتفصيلاً هي أدوات وأساليب الحرب الخاصة منذ ظهور مؤسسة الدولة وحتى الآن على الرغم من التغييرات والتحولات الحاصلة في هذه المؤسسة وأساليبها . لا شك بأن ظهور نظام الدولة الرأسمالية القومية أو الليبرالية )الحداثوية( ساهم إلى حد كبير في بروز أساليب وأدوات معتمدة جديدة في هذا الطراز من الحرب إلى جانب تعميق وتوسيع العمليات التآمرية ودخول التكنولوجيا الحديثة وخاصة الديجيتال في ميدان الصحافة والدعاية والثقافة والفن والرياضة، كل هذا أوصل دوائر الحرب الخاصة إلى مستوى قوى تتحكم وتسيطر على القرار السياسي والمؤسسات الرسمية للدولة وكثير من المؤسسات الأهلية والمنظمات والأحزاب والرموز السياسية والثقافية والرياضية في العالم .
أهم نموذج لهذه الدوائر المختصة بالحرب النفسية الخاصة هو دائرة الحرب الخاصة المنظمة في بنية حلف الناتو بعد الحرب العالمية الثانية. هذه الدائرة تحتوي في داخلها على فروع لها في القارات والدول بالإضافة إلى الميليشيات والمجموعات المسلحة الخاصة التابعة لها من أجل تنفيذ المهام والعمليات السرية.
لقد تمكنت هذه الدائرة من تنفيذ عمليات ونشاطات في كل أنحاء العالم وخصوصاً في الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية …….الخ. ولقد استهدفت هذه الدائرة ومنذ البداية حركات التحرر الوطني للشعوب والنقابات العمالية والأحزاب والمنظمات والشخصيات الديمقراطية. واستعملت في نشاطاتها التآمر بشكل دقيق وعميق.
تقهقر قوى الهيمنة أمام نضالات الشعوب من أجل الحرية والديمقراطية أدى بها إلى سلوك هذا الطراز من الحرب بشكل قذر وتآمري إلى أبعد الحدود. كما استغلت هذه الدائرة نقاط الضعف في حركات التحرر الوطني والحركات الديمقراطية , ووظّفت التناقضات المذهبية والقومية والعشائرية لخلق بؤر التوتر ومن ثم تتدخل فيها بشكل تآمري عبر تحويل بعض الفئات المحلية إلى مجموعات من المرتزقة والعملاء المأجورين. ما حدث في تشيلي من انقلاب عسكري قام به الدكتاتور بينوشيت كان مؤامرة مدبّرة من قبل دائرة الحرب الخاصة لحلف الناتو. وقد تم قتل القائد الاشتراكي سلفادور أليندي الذي جاء إلى الحكم عبر الانتخابات الديمقراطية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي والذي دافع عن حكومته ببطولة وشجاعة كقائد اشتراكي ثوري . وقد تم استغلال الأوضاع المعيشية من قبل أدوات الحرب الخاصة لخلق معارضة شعبية ضد سلفادور أليندي وتشهيره وتصفية قاعدته الاجتماعية الكادحة قبل الانقلاب! أما بعد الانقلاب فقد انتشرت فرق الموت في جميع أنحاء البلاد وتم ارتكاب المذابح الدموية من قبل المجموعات المرتزقة وعصابات المافيا المرتبطة بدائرة الحرب الخاصة التابعة لناتو. كما تم تصفية القائد الوطني الأفريقي باتريس لومومبا من قبل هذه المجموعات في أفريقيا. أما في الشرق الأوسط فقد تم تطوير المنظمات والحركات الإسلامية الرجعية والحركات القوموية كصمام أمان بيد هذه الدائرة كي تمنع ظهور أو نمو الحركات الديمقراطية الشعبية في المنطقة وأهم مثال في هذا المجال هو دعم منظمات الأخوان والقاعدة في مصر وسوريا وأفغانستان وإيران واليمن وتركيا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي. كما دعمت هذه الدائرة كل الأنظمة الفاشية في المنطقة ودبّرت الانقلابات العسكرية لمنع أي تحرك شعبي ديمقراطي وخصوصاً في تركيا حيث نظّمت ثلاثة انقلابات عسكرية خلال عشرين سنة من 1960-1980. آخر انقلاب كان موجهاً ضد حركة حرية كردستان بقيادة حزب العمال الكردستاني .
بشكل عام على الرغم من المذابح والمؤامرات الدموية إلا أن الحرب الخاصة تسعى إلى كسب المعركة دون الخوض فيها وذلك حسب نظرية سون توسو )المفكر العسكري الصيني( . بمعنى آخر تستعمل الأدوات بشكل غير مباشر في كثير من الأحيان وذلك كي لا تنكشف جميع خيوط اللعبة! فهي «تحارب الكرد باسم الكرد كما تحارب الإسلام باسم الإسلام » حسب تعبير القائد آبو.
فعاليات الحرب الخاصة ضد المجتمع:
حاولت هذه الدوائر القيام بالنشاطات الرياضية والثقافية والفنية والفكرية والدينية حسب مقتضيات توجيه المجتمع نحو معاداة مصالحه وهويته وجذوره التاريخية. فهي تفرض الهجرة والهروب على المجتمع من خلال الدعاية لنمط حياة أوربا الغربية ونشر الخوف والقلق وعدم الثقة بالمستقبل في صفوف الناس. حيث أن هناك العشرات من شبكات المافيا تعمل من أجل إفراغ كردستان من سكانها الأصليين. الهدف من ذلك هو قطع علاقة الإنسان بموطنه الأصلي وتصفية أي عاطفة وطنية لديه وتحويله إلى كائن يعيش بيولوجياً فقط.
وفي ظروف ثورة روج آفا شاهدنا مثل هذه النشاطات على قدم وساق. تسهيل أمور تجارة الإنسان منذ سنوات على يد الاستخبارات التركية – السورية – الإيرانية هدفه إفراغ كردستان من الكرد ليس أكثر.
أما من الناحية الثقافية فقد وصلت الحالة إلى درجة الإبادة الثقافية في أعلى مستوياتها. من المعروف بأن مرحلة الإبادة الثقافية بدأت في كردستان منذ عام 1800 . وفي ظل سياسة التتريك والتعريب والتفريس تم تغيير أسماء جميع القرى والمدن والبلدات ومنع اللغة والفلكلور والفن والأدب الكردي واعتباره مخالفاً للقانون والشرع. فرضت دولة البعث في سوريا من خلال سياسة التعريب أسماء غريبة وعجيبة على المدن والقرى الكردية لغاية تغيير جميع معالمها الأصيلة : مثلاً تم تغيير اسم «تربسبية » إلى «قحطانية « نسبةً إلى آل قحطان في اليمن، كما تم تغيير اسم «تل كوجر » إلى «اليعربية « للتأكيد على انتمائها إلى يعرب! مع العلم بأن هذه المصطلحات ليس لها علاقة بمعالم المنطقة لا من قريب ولا من بعيد بل كلها تسميات مصطنعة. تغيير أسماء بعض القرى الكردية وتسميتها بدير ياسين وأندلس وحيفا …… له معنى واحد فقط وهو الانتقام من الشعب الكردستاني وجغرافيته وهويته، وكأن الكرد كانوا السبب في الانهيار العربي في الأندلس أو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
هذه القوموية مرض نفسي يحوّل صاحبه إلى كائن متوحش فاقد لكل حس أو إدراك ……. وبما أن اللغة الكردية هي الإطار الثقافي والأدبي والفني للهوية الكردية على مر 15000 سنة فإن نظام البعث قد استهدف تصفيتها بشتى الوسائل . ولكن الأمر المؤسف للغاية هو نجاح البعث في مسخ بعض الفئات الكردية العميلة وتحويلها إلى كلب الأمير ، وكما هو معروف فإن كلب الأمير ، أمير أكثر من الأمير نفسه لقد واجهنا هذه الفئات في بداية ثورة روج آفا حيث حاولوا الوقوف في وجه تعليم اللغة الكردية وحاولوا فرض الثقافة البعثية على المجتمع تحت اسم الثورة والوطنية السورية بالاستناد إلى الأجندات الإقليمية ! هذه الفئات حاولت التستر وراء بعض القيم التي لم تؤمن بها في يوم من الأيام . لذلك نرى اليوم بأن بعض العائلات لا ترسل أبناءها إلى المدارس لتعلم اللغة الأم بحجة عدم وجود مستقبل لهذه اللغة، هذه هي أسوأ حالات الإبادة الثقافية. مثل هذه الفئات والعائلات ترى مستقبلها في المؤسسات الدولتية التي فرضها البعث على المجتمع بالقمع وسياسات الحرب النفسية والصهر القومي .
الهجمات الشوفينية و الكوسموبولتيكية على الألوان والأعلام والرموز والثقافة والفن الكردي منذ بداية ثورة روج آفا كانت ممنهجة ومبرمجة، ولكن المؤسف هو دخول بعض الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين والكتّاب والفنانين في هذه اللعبة كأدوات رخيصة ضد مجتمعهم وهويتهم تحت ستار الوطنية السورية الكاذبة حيث استخدموا أسلوب البعث نفسه.
عندما كنا ندرس الثانوية العامة بمدينة قامشلو وتحديداً في «مدرسة العروبة » تم فصل طالب كردي بحجة أنه غنّى أغنية كردية للفنان محمد شيخو, طبعاً أغنية محمد شيخو كانت تهديداً للوحدة العربية وجريمة يُعاقَب عليها في القانون البعثي. العملية نفسها حصلت في قامشلو بعد15 آذار 2011 حيث تم اتهام كل من رفع العلم الكردي بأنه ضد الثورة السورية وعميل للنظام البعثي ! غريبة وعجيبة ألاعيب الحرب الخاصة! حيث تستعمل كل القيم وكل الأقنعة لتمرير مخططاتها.
غياب الدور الإيجابي الفعال للمثقف والفنان والكاتب والأديب سهّل مساعي الحرب الخاصة النفسية ضد ثورة روج آفا منذ أربعة أعوام. ناهيكَ عن مثل هذا الدور فقد تحول بعض الذين سموا أنفسهم مثقفين وكتّاب وفنانين إلى أدوات للدعاية المغرضة والحرب الإعلامية ضد ثورة روج آفا. كما ساهم المال السياسي المافياوي في تحويل بعض الشخصيات المنحطة اجتماعياً وثقافياً وسياسياً إلى فنانين ومثقفين ومفكرين وما شابه ذلك دون أن يليقوا بهذه الألقاب.
وقد لعبت القنوات التلفزيونية التابعة لشيوخ البترو- دولار- والمليونيرية الكردية في جنوب كردستان دوراً تخريبياً في انشقاقات الحركة السياسية الكردية ومحاولات نقل مرض اقتتال الأخوة المتفشي في جنوب كردستان إلى روج آفا عبر مجموعات من المرتزقة الإعلاميين والسياسيين. الارتزاق السياسي والإعلامي ضد ثورة روج آفا تجاوز كل الحدود والخطوط الحمراء في تاريخ نضال الشعب الكردستاني. إذا لا يمكن فصل إجراءات الفئات التي تحولت إلى مرتزقة ضد مجتمعها من النواحي العسكرية أو السياسية أو الثقافية أو الفنية أو الإعلامية عن إجراءات الحرب الخاصة. يمكن سد الطريق أمام هذه النشاطات التخريبية ضد ثورتنا ومجتمعنا عبر إعلام واقعي وجماهيري فعّال ونشاط ثقافي وسياسي ودبلوماسي على قاعدة تفعيل المؤسسات الديمقراطية في إطار تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية وجذب كل الفئات الاجتماعية للمشاركة في هذه التجربة.[1]