#نزار آغري#
كل مرة يتم فيها التطرق إلى إمكان قيام دولة كردية في المنطقة، تعلو أصوات تعلن أن ذلك سيكون بمثابة إسرائيل ثانية. ماذا يعني ذلك؟ واضح أن القصد من هذا القول التحذير من هذا الاحتمال، احتمال قيام كيان كردي مستقل. فبما أن صورة إسرائيل في وعي ولا وعي الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين تقترن بكل ما هو مقيت، فإن سحبها إلى الحالة الكردية يهدف إلى تنفير الناس وتأليبهم وتجييشهم للنهوض ضد الكيان القادم.
إسرائيل، تبعاً للصورة المرسومة لها، والتي يتم بثها وإعادة بثها على مدار الساعة، هي: «كيان، استيطاني، استعماري، صهيوني، إمبريالي، زرعه الغرب في قلب الوطن العربي لتفتيته وتمرير المخططات الاستعمارية إلخ...».
هذه الوصفة المنتفخة الكاريكاتورية الراسخة في الأذهان نوع من فانتازيا نفسية لا صلة لها بالواقع. لم يهبط كلّ اليهود من السماء ليتم زرعهم في فلسطين. كانوا هناك جنباً إلى جنب العرب وقاوموا الانتداب البريطاني بعنفوان أشد من العرب، إذ اضطر البريطانيون إلى الانسحاب والإقرار بقيام دولة مستقلة لسكان المنطقة. لكن هذا موضوع آخر.
في 1948 قامت دولة إسرائيل. رسخ اليهود أسس دولتهم يوماً بعد يوم، فيما بقي مصير الكرد معلقاً في المجهول واستمر تعرضهم للتمييز والبطش وصولاً إلى محاولة إبادتهم على يد صدام حسين. في 1991، وبعد أن لاذوا بالجبال هرباً من بطش الجيش العراقي، أصدر مجلس الأمن القرار 688 الذي قضى بتشكيل منطقة محمية للأكراد شمالي خط العرض 36، أي عملياً معظم مناطق كردستان العراق. بعد ذلك أجرى الأكراد انتخابات وشكلوا حكومة محلية ما زالت قائمة حتى الآن. عملياً تمتعت المنطقة بحكم ذاتي واسع النطاق يقترب من حدود كيان مستقل. يمكن القول بقليل من الحيطة إن هناك دولة كردية ضمن الاتحاد الفيديرالي العراقي منذ أكثر من خمس وعشرين سنة، بكل ما للدولة من مقومات مادية ومعنوية.
حصل الكيانان، الإسرائيلي والكردي، على دعم أوروبي غربي وأميركي خصوصاً، وواجها، كلاهما، محيطاً معادياً ينتظر أقرب فرصة للقضاء عليهما.
بذل مؤسسو دولة إسرائيل جهوداً كبيرة لتعزيز وجودها وترسيخ بقائها. وهم سعوا منذ البداية لأن يتحقق ذلك على أسس ديموقراطية واستندوا إلى منظور دولتي، مؤسساتي، بعيداً من الوشائج العصبية، العشائرية أو العائلية أو الفئوية. وتشكلت أحزاب سياسية كثيرة راحت تخوض غمار التنافس الديموقراطي للوصول إلى الحكم. وانبثقت تجربة فريدة لا مثيل لها في أي مكان من العالم تمثلت في التجمعات السكنية التعاونية، الكيبوتز، لتسيير شؤون الناس وتنظيمهم في وحدات إدارية تعزز المشاركة في الأعمال الزراعية والاقتصادية.
شيئاً فشيئاً انبثق مجتمع جديد، متماسك ومزدهر، وخلال فترة قصيرة احتلت إسرائيل مكانة بارزة على جميع الأصعدة، السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والعلمية. وترسخت قواعد الأداء السياسي على آليات التبادل السلمي للسلطة بين الأحزاب المتنافسة. وتوطد الإعلام المستقل وحرية الرأي والتعبير والمعارضة بعيداً من أي سعي إلى الإقصاء أو النبذ أو التخوين.
في كردستان العراق سارت الأمور على نحو آخر. شكل الحزبان الرئيسان، اللذان يحتكران النشاط السياسي هناك، الديموقراطي والوطني، الحكومة، لكن لم يمض وقت طويل حتى دب الخلاف بينهما وانخرطا في صراع دموي رهيب أودى بحياة الآلاف. لم تتأسس قاعدة تسيير ديموقراطي، تداولي، للمجتمع بل تكرس سلطان العائلة والعشيرة والوراثة. وانقسم الكيان إلى كيانين، واحد تسيطر عليه عائلة البارزاني وآخر تتحكم به عائلة الطالباني. عند قيام دولة إسرائيل تسلم رئاسة الوزراء ديفيد بن غوريون، الذي تلا بيان قيام الدولة. لم يورّث بن غوريون أياً من أبنائه أو أحفاده السلطة أو الحكم أو النفوذ. منذ ذلك الحين وإلى اليوم، تناوب على رئاسة الحكومة الإسرائيلية أكثر من عشرين رئيس وزراء. في كردستان كان مصطفى البارزاني أسس الحزب الديموقراطي عام 1946، ولكنه بقي رئيساً للحزب إلى يوم مماته عام 1979، وخلفه ابنه مسعود الذي ما زال رئيساً للحزب. وهو الآن رئيس للإقليم، فيما يرأس ابن أخيه، نيجيرفان البارزاني، رئاسة الوزراء، ويتولى ابنه، مسرور البارزاني، رئاسة الأمن العام، الآسايش، فضلاً عن تولي أبنائه الآخرين مناصب في الحكومة. وبدوره بقي جلال الطالباني رئيساً للحزب الوطني وبقي مسيطراً على مقاليد الحكم والسلطة والمال إلى أن أقعده المرض فورثته زوجته هيرو خانم، فيما يتولى ابنه بافل الطالباني رئاسة جهاز المخابرات، وابنه الآخر قباد الطالباني منصب نائب رئيس الوزراء، كما يتقاسم أبناء أخيه مناصب أخرى. يظهر الحزب أشبه بشركة تتأسس على يد كبير العائلة ثم يتوارثها الأبناء والأحفاد.
كان يمكن للمرء أن يغفر للإقليم وجود مظاهر حكم العائلة وتمجيد الزعيم على أساس أن الأمر وجد أرضيته كأثر من آثار العقود الطويلة من الحكم البعثي الذي انتعشت فيه هذه الظاهرة. غير أن الأكراد يحكمون في إقليمهم شبه مستقلين منذ قرابة ثلاثة عقود، وكان من المفروض أن تبدأ هذه المظاهر المقيتة بالتقلص ومن ثم الزوال. لكن الذي حدث هو العكس، فهي تزداد رسوخاً كما تتكرس السيطرة العائلية باضطراد وبلا توقف: عائلة الرئيس مباشرة، ثم أشقاؤه، فأبناء أشقائه، فأبناء عمومته وأخواله، فأنسباؤه، فأقاربه الأقربون.
ويتمتع رئيس الإقليم بالصلاحيات ذاتها التي كان يستحوذ عليها صدام حسين، فهو أيضاً رئيس الحزب ورئيس الأمن القومي والقائد الأعلى للجيش فضلاً عن رئاسة العشيرة. أما البرلمان فهو، على شاكلة البرلمانات العربية، مجرد ديكور لا يتمتع بأي قيمة فعلية لجهة صنع القرار. هو واجهة صورية لإضفاء طابع ديموقراطي، كاذب، على العملية السياسية. ولقد رأينا كيف أن رئيس الإقليم دعا إلى طرد رئيس البرلمان حين بدرت منه مجرد لفتة خجولة في معارضة الآليات غير الديموقراطية.
ليس هناك أي أمل، في المدى المنظور، في أن تأخذ الأمور منحى آخر إذا ما حصل الأكراد على استقلال فعلي وقامت دولة كردية. فالطبخة هي هي والطباخون هم هم، ولن يختلف الطبق، والحال هذا، سواء تم على «بابور» قديم أو على «بوتوغاز» حديث.
إذا قامت كردستان فلن تكون إسرائيل ثانية. الأرجح أنها ستكون فلسطين ثانية كالتي تتقاسمها بضراوة «حماس» و «فتح»، والله أعلم.[1]