كرد إيران… تطلعات للحرية في ظل ولاية الفقيه
في عام 1920 قاد إسماعيل آغا شكاكي (سمكو) انتفاضة ضد الحكومة الإيرانيّة طلباً للاستقلال بكردستان على رأس 40 ألفاً من أبناء عشيرته الشكاك القوية، وتواصل مع الشيخ محمود الحفيد في السليمانيّة عام 1923، وفي عام 1925 أصبح رضا خان شاهاً على إيران، فطبّق سياسة التحكم بجميع الأقليات وصهرها، فجهز حملة عسكريّة اجتاحت مناطق سيطرته في أورميا واضطرته للجوء إلى العراق والإقامة في شمالي رواندوز. وظل سيمكو حتى عام 1930 يخوض الصراع المسلّح ضد القوات الإيرانيّة والتركيّة والعراقيّة وفي أيلول عام 1930 استدرجته الحكومة الإيرانيّة للتفاوض إلى مدينة شنو حيث اغتيل غدراً.
وفي خريف عام 1931 اندلعت الانتفاضة التالية في إيران؛ في الجنوب اندلعت انتفاضة بقيادة جعفر سلطان هورمان، من منطقة همدان. وتمّ إخمادها بقسوةٍ وأعلن بعدها ممثل كردستان في البرلمان الإيرانيّ أن ليس ثمّة مشكلة كرديّة في إيران. وزعم أنّ الكرد يعتبرون أنفسَهم إيرانيين، ويفكرون بإيران فقط. واُتخذت سياسة حرمت الكرد من استخدام لغتهم، ومُنعوا ارتداءَ أزيائهم القوميّة. وأُلقي بمخالفي هذه القواعد في السجون، وأُبعد آخرون خارج البلاد.
الانتفاضة الكرديّة الثالثة قادها الشيخ حمه رشيد خان عام 1941، كانت قبليّة محضة استغلت فراغ السلطة. واتبعت أسلوب الإغارة، فاستولى على مهاباد وإقليم سقز – بانه. وظل مستقلاً حتى طرده الجيش الإيرانيّ، فلجأ إلى العراق عام 1942، وعندما عاد إلى إيران عام 1945 على رأس قوة قوامها 200 فارس تحاشى الاصطدام المسلح مع الجيش الإيرانيّ.
جمهورية مهاباد محطة مهمة في تاريخ كرد إيران
في عام 1941 دخلت قوات الحلفاء إيران، ومعها القوات السوفيتيّة، وتمركّزت شمال البلاد، وأُطيح بالشاه رضا، ونُصِب ابنه محمد رضا بدلاً عنه. وفي عام 1945، أعلنت أذربيجان الإيرانيّة حكومةً يساريّةً مستقلة مدعومة من السوفييت، بقيادة الحزب الديمقراطيّ الأذربيجانيّ، وترأسها جعفر بيشواري. وفي 15-08-1945، تأسّس الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ الإيراني PKDI في مهاباد، بزعامة قاضي محمد علي قاسم. الذي تواصل مع الزعيم الكردي الشيخ عزالدين الحسينيّ. وفي 22-01-1946 قام بالإعلان عن قيام جمهورية كرديّة شعبيّة مستقلة عاصمتها مهاباد، واُنتخب قاضي محمد رئيساً للجمهورية، فبادر إلى مشاورة لتشكيل الحكومة، وفي 23-04-1946، عقدت معاهدة بين الحكومة الديمقراطيّة (اليساريّة) الأذربيجانيّة وبين الحكومة الوطنيّة الكرديّة، تأكيداً للصداقة والوحدة بينهما. واستمرّت الجمهورية حوالي 10 أشهر. فيما مارست الولايات المتحدة الأمريكيّة ضغطاً على الاتحاد السوفييتيّ لوقف الدعم للكرد وسحب قواته، ومع استجابة السوفييت، زحف الجيش الإيرانيّ بدعم بريطانيّ لاستعادة أذربيجان، واحتلال مهاباد، والقضاء على الجمهورية الفتية، وتمّ إعدام الشهيد قاضي محمد وثلاثة من مساعديه في 31-3-1947 في ساحة چرچرا بمدينة مهاباد. وخلال العمر القصير للجمهورية تأسست منظمات حكوميّة ومدنيّة وصدرت العديد من الصحف والمجلات باللغة الكرديّة، واتخذت الجمهوريّة علماً خاصاً ونشيداً وطنيّاً.
في منتصف عام 1967 ثار عدد من العشائر الكرديّة في غرب إيران واستفادت من دعم الحزب الديمقراطيّ الإيرانيّ واستمرت نحو عام، حيث أخمدت القوات المسلحة الإيرانيّة الثورة ولتثبت الوضع القائم في مهاباد (محافظة أورميا).
سقوط حكم الشاه والانقلاب على الكرد
عاش الكرد حياة مريرة في ظل حكم الشاه محمد رضا بهلوي، وشاركوا معظم الشعب الإيرانيّ الحماسة للانقلاب على حكم الشاه الذي تجاهل كلّ تطلعاتهم للحريّة وتخفيف الضغوط عنهم، وحقيقة الثورة أنّها انطلقت من الجامعات وبريادة الشباب، ولكن سرعان ما قامت المؤسسة الدينيّة بالوصاية على الثورة ومصادرتها، وفي شباط أُعلن عن انتصار الثورة الشعبيّة الإسلاميّة بعودة “آية الله الخميني” إلى البلاد في شباط 1979، وتوقّع الكرد تحسين أوضاعهم العامة وتحصيل الحكم الذاتيّ، وهو أمرٌ رفضته السلطات الإيرانيّة بالمطلق، واعتبرت أنّ الطابع الدينيّ للدولة كفيلٌ بتحقيق ما تصبو إليه القوميّات الأخرى. في 3 -3-1979 عقد الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ (حدكا) مؤتمراً جماهيريّاً حاشداً في مهاباد، معلناً استئناف العمل السياسيّ، وحاول الحوار مع السلطة الجديدة لتحصيل حقوق الكرد.
اجتاحت موجة الحراك الشعبيّ الوطنيّ شرق كردستان بعد سقوط حكم الشاه، ووقعت سلسلة من الثورات المضادة للثورة في مختلف أنحاء البلاد (خوزستان، بلوشستان)، لتبشر بثورة شاملة. وفي آذار عام 1979، بادر الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ الإيرانيّ بصياغة خطة من ثماني نقاط للاستقلال الكرديّ وأعلنها على الملأ. واندلعت الثورة في منتصف آذار عام 1979، وسيطر الكرد المحتجون على مراكز الشرطة ومقرات قيادة الجيش وأجزاء من ثكنات الجيش في سنندج، وفشلت قوات الجيش في تفريقهم. ونقلت وكالات أنباء غربيّة أنَّ الثورة بدأت وتغلب رجال القبائل الكرديّة على الجنود الإيرانيّين في مدينة باوه. ثم انتشر الاضطراب إلى مناطق أخرى يسيطر عليها الكرد بعد استيلاء الثوار على المدن وحاميات الجيش في مدن ديوان داره وسقز ومهاباد. واختبأ العديد من القيادات الكرديّة بعد أن أمر آية الله الخميني بإلقاء القبض عليهم، وصرحت تقارير صحيفة إيرانية في هذه المرحلة أن عدد القتلى بلغ حوالي 600 قتيل.
وفي 28-3-1979 توجّه وفدٌ كرديٌّ إلى (قم) برئاسة الدكتور عبد الرحمن قاسملو (عضو مجلس الخبراء الذي شكلته الثورة الإسلامية، نائباً عن كردستان)، لعرض المطالب الكرديّة المتواضعة على آية الله الخميني، ولكن الوفد فُوجئ برفضه الاعترافَ بالحكم الذاتيّ للأكراد، في نطاق الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة، وأكّدتِ السلطة أن الطابع الدينيّ للجمهورية الإسلاميّة كفيل بتحقيق ما تصبو إليه القوميّات. فالخمينيّ كان يسعى إلى إضعاف حركات اليسار الإيرانيّ من خلال سحق القوى الكرديّة، فقد كانت هذه القوى -كما الحال في العراق وتركيا وسوريا ملجأ تقليديّاً لكلّ فروع الحركات اليساريّة والماركسيّة.
ما حدث بعد الثورة يعيد للأذهان الانقلاب الأتاتوركيّ على كرد باكور لجهة التنكر للحقوق عام 1923، مع فارق بسيط هو شعار العلمانيّة الكماليّة، والدينيّة المذهبيّة الخمينيّة، وكان الانقلاب سريعاً وصار يُنظر للكرد نظرة تخوين، وأنّهم سبب زعزعة استقرار “الجمهوريّة الإسلاميّة” حديثة العهد، فيما امتنع الكرد السُّنة عن التصويت لقيام النظام الإسلاميّ في نيسان عام 1979 في الاستفتاء الذي أخذ شكل الأمر الواقع وأُغلق الباب أمام فرصة الحكم الذاتيّ. وتعمّقت الأزمة بعد الحرمان المتعمد للكرد ممثلين بالدكتور عبد الرحمن قاسلمو من المشاركة في اجتماع مجلس الخبراء عام 1979، والذي كُلف بمهمة صياغة الدستور، وكان السبب مذهبيّاً في أحد جوانبه. أدّى رفض الخمينيّ منحَ الكرد نوعاً من الاستقلال إلى تدهور الوضع في كردستان، وكان ردّ فعل الكرد المباشر أن طردوا القوات الإيرانيّة من مدنٍ كرديّةٍ، وفي نيسان عام 1979اندلعتِ الاشتباكاتُ بين قوات الحرس الثوريّ وقوات البشمركه الكرديّة الإيرانيّة في المقام الأول الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيرانيّ (KDPI) وكومله اليسارية (منظمة ثوريّة من كادحي كردستان). وقبل نهابة نيسان اندلع قتال طائفيّ أيضاً بين الفصائل الكرديّة والآذرية في المنطقة، ما أسفر عن سقوط مئات الضحايا بمدينة نقده، التي يقطنها الكرد والآذريون. وقام الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ بتعبئة الجماهير، بينما بدأت حملة عسكريّة حكوميّة بعد فتوى للخميني يوم 17-08-1979 دعا فيها إلى “الجهاد ضدّ الكفرة في كردستان” استمرّت الحملة العسكريّة ثلاثة أسابيع بهدف سحق الكرد في معاقلهم سقز ومهاباد بشكلٍ أساسيّ. واشتدت المصادمات وتصاعدت فصرّح الخمينيّ: “إنّ ما نواجهه ليس قضية كرديّة إنّما قضية شيوعيّة”.
في 20-08-1979، بدأ الجيش الإيرانيّ حصار مهاباد. وقبل ال 30 من آب، ذّكر أنهم تمكنوا من تطويق المدينة بالكامل وانتهت ثلاثة أيام من المفاوضات إلى الفشل، ودخلت القوات الإيرانيّة المدينة يوم 3 من أيلول تدعمها مقاتلات F-4 وأكثر من 100 دبابة. وبغطاء مدفعيّ، تمكنوا من السيطرة على المدينة بعد عدّة ساعات من القتال. كان الانكسار العسكري في مهاباد خسارة كبرى للثوار، وبعد ذلك واصلت القوات الإيرانيّة الزحف إلى المدينة الأصغر وهي بانه. وخلال الحصار قتلت أكثر من 500 شخص.
كان الانكسار العسكريّ للثوار نتيجة القوة الفائقة للهجوم الإيرانيّ، واستخدام المدفعية الثقيلة والدبابات والغطاء الجويّ، ولكن المقاومة كانت قوية. ورغم الخسائر الفادحة، هرب الجزء الأكبر من البشمركه الكرديّة من الاعتقال وتراجعوا إلى الجبال. استأنف الكرد هجومهم بعد ستة أسابيع، عائدين إلى مهاباد ومقاتلين بفعالية القوات الإيرانيّة المدرعة بقنابل المولوتوف والقذائف الصاروخية. وفي نهاية تشرين الثاني هاجموا أيضاً سنندج وسقز وغيرها من المدن والبلدات الكرديّة. واستمرت المبادرة الكرديّة الفعالة في حين كانت الحكومة الإيرانيّة منصرفة عنها بأحداث أخرى في الدولة، مثل أزمة رهائن السفارة الأمريكيّة في طهران.
فتوى الخمينيّ وتكفير الكرد
وفي خطاب ألقاه الخميني في 17-12-1979، نادى فيه بمفهوم تعارض الأقليات العرقيّة مع المذاهب الإسلاميّة. واتّهم أيضاً أولئك الذين لا يرغبون في اتحاد الدول الإسلامية بخلق قضية القوميّة بين الأقليات. وقد تمّ تبادل وجهات نظره من قبل الكثيرين في القيادة الدينيّة ففتحت السلطة الإيرانيّة جبهاتِ حربٍ داخليّة ضدّ الكرد.
في هذه الأثناء تولّى أبو الحسن بني صدر الرئاسة الإيرانيّة الجديدة. في أواخر كانون الثاني عام 1980، ولم تنجح وحدات الحرس الثوري والكرد المناصرون للحكومة في قمع الثوار في المنطقة، ما أدى إلى استمرار الأزمة حتى الربيع. استعادت قوات الحكومة معظم المدن الكرديّة من خلال حملة عسكريّة ضخمة، وإرسال الفرق العسكريّة المنظمة إلى المدن الكرديّة بما في ذلك سنندج وباوه ومريوان. ودمّرت قرى ومدن بأكملها لإجبار الكرد على الخضوع. وحكم آية الله خلخالي على الآلاف بالإعدام بعد محاكمات موجزة. وبحلول شهر أيار عام 1980، كان الثوار الكرد لا يزالون يسيطرون على جزء كبير من طرق المنطقة وعلى المناطق الريفيّة وحرروا مرّة أخرى عاصمتهم مهاباد، واستمرّت سيطرتهم عليها مع توقف القتال في الصيف، وتعرضت مدينة سنندج للقصف الجوي بطائرات الفانتوم، في أيار عام 1980، فأُلحقت بالأهالي والمدينة خسائرُ كبير في حين زادت التوترات الإيرانيّة العراقيّة. وبعد سقوط المدن والمعاقل الكرديّة في سقز ومهاباد وسنندج وسردشت في يد القوات الإيرانيّة انتقل المقاتلون الكرد إلى الجبال لتبدأ مرحلة حرب طويلة الأمد. حيث كانت الطائرات العموديّة تغير على معاقل الكرد والقرى التي يأوي إليها البشمركه. وشنَّتِ القواتُ الإيرانيّة هجوماً واسعاً في 17-08-1980، في منتصف شهر آب، سار الحرس الثوريّ إلى باوه التي كان يسيطر عليها ثوار القبائل دون استعدادات كافية فوقع في كمين كبير. ودفعت هذه الهزيمة الخميني للاقتراب من رؤساء الجيش والحكومة. ولم تحتمل القيادة الإيرانيّة الإسلاميّة الجديدة المطالب الكرديّة واختارت الأسلوب العسكري لسحق الاضطرابات. وأعلن الخميني فتوى الجهاد (الحرب المقدّسة) ضدّ الكرد، واعتبر بعض الشخصيات القوميّة الكرديّة الرئيسية “أعداء للدولة”، وشن هجوماً على القرى والمدن الكرديّة بدأ من باوه في محافظة كرمنشاه، بذريعةِ ضرب النشاطات اليساريّة وصرّح مهدي بارزكان، أول رئيس وزراء إيرانيّ بعد الانقلاب على الشاه، قائلاً: “إنّ التعبئة العسكريّة ضد الكرد قد أمر بها الخمينيّ بصفته قائداً أعلى للقوات المسلّحة الإيرانيّة، وكانت مبنية على معلومات مغلوطة”. في أواخر شهر آب عام 1980، فشل الجيش الإيرانيّ في استعادة مهاباد، التي سيطر عليها الكرد بالفعل لمدة 10 أشهر. واستمروا في الاحتفاظ بها لمدة خمسة أشهر أخرى، كما أصبحت مقاطعة كردستان مسرحاً للحرب العراقيّة الإيرانيّة. وعلى الرغم من أمر الرئيس بني صدر بوقف إطلاق النار على الكرد، في أعقاب الغزو العراقيّ، إلا أنّ الباسدران تجاهل ذلك واستمر في حملات مكافحة الانتفاضة.
الحرب العراقيّة الإيرانيّة والهدنة مع الكرد
في 22-09-1980 شنّ العراق حرباً على جبهة واسعة ضد إيران وتلقى صدام حسين فيها دعماً عربيّاً وغربيّاً ، لكن الحكومة الإيرانيّة لم تنشغل عن الكرد فلم تألُ جهداً في قمع ثورة الكرد التي استمرّت وتزامنت معها انتفاضات الأقليات العربية والبلوشية والتركمانية، فبدأت القيادة الإيرانيّة بالتعامل مع الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ العراقي بزعامة مسعود البارزانيّ المقيم في طهران، واتفقت معه على العمل سويّاً ضد أكراد إيران وضد نظام صدام وتصفية العناصر اليساريّة من حزبه، وألا يتدخل في شؤون كردستان إيران، وبالمقابل يحصل البارزانيّ على المال والسلاح والتسهيلات ويمكّن من تجميع قواته في زيوه وتُدفع لهم الرواتب.
لم يبتعد الكرد في إيران عن خطهم الوطنيّ، فقد ساهموا مع الشعب الإيرانيّ في الإطاحة بنظام الشاه بهلوي، ووجدوا أنّ حرب صدام تستهدف الوطنيّة فعرض الدكتور عبد الرحمن قاسملو على الحكومة الإيرانيّة الانضمام إلى جانب القوات الحكوميّة الإيرانيّة في الحرب، مقابل ضمان حقوق الكرد. ولكنّ السلطة الإيرانيّة لم تبدِ حماساً لهذا العرض. ونفذت عدداً من الإعدامات بحق الكرد في قرية باوه بقضاء نقده.
وعندما فرضت الضرورة على الحكومة الإيرانيّة التفرغ للحرب مع العراق، والتوصل إلى هدنة مؤقتة مع الكرد، أصدر الخمينيّ نداءً في 4 تشرين الثاني عام 1980، دعا فيه إلى التفاهم وحلّ المسألة الكرديّة سلميّاً. واستجاب الحزب الديمقراطيّ الكردستاني في إيران PDKI لهذا النداء ببيان عنوانه “لبيك”، وتوقف القتال نتيجة لذلك. وتبع نداء الخمينيّ عقدُ سلسلةٍ من المباحثات بين قيادة الثورة الكرديّة وممثلين عن الحكومة الإيرانيّة، ولكنها لم تفضِ إلى نتائج إيجابيّة. واستمرت مجموعات من مقاتلي الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيرانيّ في القتال بمستوى منخفض حتى عام 1983، كما تم تحويل القوات الإيرانيّة إلى الجبهة العراقيّة، مع تصاعد وتيرة الحرب العراقية الإيرانيّة.
مجدداً تلقى الكرد ممثلين بالحزب الديمقراطيّ الكردستاني في إيران الدعمَ من الاتّحاد السوفيتيّ ولكنه كان محدوداً، على خلفية موقف الحكومة الإيرانيّة المعارض للتدخل العسكريّ السوفييتيّ في أفغانستان، والمناهضة لحكومة أفغانستان الشيوعية.
ومع نهاية عام 1980، أطاحت القوات النظاميّة الإيرانيّة والحرس الثوريّ بالثوار الكرد في معاقلهم، وقُتل نحو 10 آلاف كرديّ أثناء الانتفاضة، من بينهم 1200 سجين سياسيّ، تم تنفيذ حكم الإعدام بحقهم في المراحل الأخيرة من الثورة، فيما استمرت مجموعات المقاتلين بتنفيذ هجمات متفرقة. وإذ لم تكن وحدات الباسدران فعّالة في مواجهة الكرد، فتمّ إسناد المهمة للوحدات المدعومة من الحرس الثوريّ في القتال مع العراقيين وبعض الكرد في أواخر كانون الأول.
رفض مطالب الكرد وسياسة الاغتيال
في ربيع عام 1981، التقى وفدُ الحزب الديموقراطيّ الكردستانيّ الإيرانيّ برئاسة غني بلوريان برئيس الجمهوريّة الإيرانيّة أبو الحسن بني صدر، وقدّم له مطالب محددة في ست نقاط أساسيّة، والذي عرضها على مجلس الثورة الإيرانيّة ولكنها قوبلت بالرفض.
أدّى موقف السلطة الثوريّة الإيرانيّة الرافض للحقوق الكرديّة إلى توتر الوضع في كردستان، فقاطع الكرد الاستفتاء الذي جرى على الجمهوريّة الإسلاميّة. فأمر الخميني، في تشرين الأول عام 1981 بسحق “التمرد الكرديّ” وسقطت مدينة بوكان الإستراتيجيّة، ليعود المقاتلون الكرد إلى الجبال من جديد.
في أواخر عام 1982، وأوائل عام 1983، استولت قوات الحكومة الإيرانيّة على طريق بيران شهر -سردشت، وقطعت طريق الإمدادات الكرديّة من العراق والتي كانت الشريان الحيويّ لتموين قوات الحزب الديموقراطيّ الكردستانيّ الإيرانيّ. وأصدر بسبب ذلك الدكتور عبد الرحمن قاسملو بياناً من إذاعة بغداد، في نيسان عام 1983، ناشد فيه العالم لنصرة الشعب الكرديّ ضدَّ الحكومة الإيرانيّة.
كثّفت طهران المواجهة ضد الكرد مع اندلاع الحرب العراقية الإيرانيّة، حيث كانت إيران تواجه الدعم العراقيّ للانتفاضة الكرديّة في إيران مع شنّ حملتها الخاصة لتشجيع انتفاضات جماعات مختلفة داخل العراق. وكان من المفترض في البداية أن الكرد العراقيين وإخوانهم الإيرانيّين سيتعاونون لاستغلال نقاط الضعف في كلا الجانبين. ولا عجب أن لم تكن بغداد ولا طهران على استعداد لقبول هذه النتيجة. وبدلاً من ذلك، أصر كلا الجانبين على تنظيم وحدات عسكرية كرديّة موالية لهما خاصة لزجّها في الحرب. وانقسم الحزب الديمقراطيّ الكردستاني العراقيّ والكرد الإيرانيّون، لتبدأ سلسلة من الصراعات الداخليّة.
في كثير من مراحل الحرب العراقيّة الإيرانيّة تحوّلت المناطق الكرديّة على الحدود إلى جبهات، فتعرضت القرى والمدن الكرديّة للخراب والتدمير على يد قوات دولتين اختلفتا في كلّ تفاصيل السياسة ولكنهما اتفقتا في عداء الكرد، وقصفت قرى مثل حاجي عمران ومهران وشلير بقضاء بنجوين. ومُسحت قرية مريوان وقصر شيرين من على الأرض. وشنّت غارات على حلبجة وسيد صادق في شهر زور.
تعتبر السلطات الإيرانيّة الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ خارجاً عن القانون، وتصف أعماله ونشاطاته بالإرهاب، وبأنها لا تخدم المصلحة الوطنيّة، ولذلك تقوم المؤسسات الأمنيّة والاستخباريّة بملاحقة عناصره وتعقب نشاطاته، والحكومةالإيرانية منفتحةً على أطرافٍ كرديّة في هذا الصدد، كما تواصل القوات المسلّحة الإيرانيّة استهداف معاقل الحزب كما حدث في عمليات عامي 1994، 1996. كما لم يسلم قادة الحزب في الخارج إذ طالتهم يد الاستخبارات الإيرانيّة، فتمَّ اغتيال الدكتور عبد الرحمن قاسلمو، رئيس الحزب، واثنين من رفاقه في فيينا عام 1989، وباغتيال الشهيد قاسملو عاد النزاع المسلّح. وفي عام 1992 اغتيل صادق شرفكندي رئيس الحزب مع أربعة من القيادة الكرديّة، بمدينة برلين الألمانيّة.
رغم أنّ معظم النشاط العسكريّ والسياسيّ في إيران قد تمّ إخماده بالقوة بعد ثورة 1979-1981، إلا أنّ جذوته لم تنطفئ، واستمرّ الحزب الديمقراطيّ الكردستانيّ الإيرانيّ في نشاطه المعارض طيلة فترة الثمانينيات. وفي عام 1989 جدّد الحزب عملياته العسكريّة وأبرزها حادث عام 1990 الذي قتل فيه نحو 300 جندي إيرانيّ. ومنذ عام 1996 وبعد حملة سياسيّة وعسكريّة فعّالة، تحوّل الصراع بين الحزب الديمقراطيّ والنظام الإيرانيّ إلى معارضة سياسيّة في الخارج. واعتباراً من نيسان عام 2004 تجدّدت انتفاضة كردستان الإيرانيّة بقيادة حزب الحياة الحرّة الكردستانيّ (PJAK) الذي عاود النضال المسلّح رغم محاولات إيران التعتيم على كلِّ أخباره، ويتمركز في المنطقة الحدوديّة مع إقليم كردستان-العراق بعد العدوان الإيرانيّ على قواعد الحزب عام 2011، واشتبك مع الحرس الثوريّ الإيرانيّ “الباسدران” ، وتنظر وسائل الحكومة والإعلام الإيرانيّة إليه بوصفه حركة انفصاليّة وتروّج لذلك لتبرير ممارسات العنف والعمل المسلّح، وتتجاهل حقيقة أنَّ هذا الحزب يسعى لتوفير مزيد من حقوق الإنسان للأكراد في إيران، ولولا انسداد الأقنية السلميّة وسياسة الرفض والإلغاء والحوار لما لجأ لحمل السلاح.
عموميّة النص الدستوريّ لغاية سياسيّة
الواقع أنّ الكرد في إيران يتعرضون لاضطهادٍ منظّمٍ من قبل السلطات الإيرانيّة، والسياسة هي ذاتها لم تتغير، سواء كان شخص الرئيس راديكاليّاً محسوباً على مرشد الثورة أو منتمياً للتيار الإصلاحي المنفتح، ولا فرق يُذكر بين أحمدي نجّاد وروحانيّ، فتعليم اللغة الكرديّة ما زال محظوراً في المدارس، ولم ترفعِ القيود عن الأدب الكرديّ، وما يصدر من منشورات كرديّة يتمّ بإشراف المخابرات، وذلك على الرغم من أنّ البند 15 من الفصل الثاني ينصّ على حقّ الأقليات في استعمال لغاتها في المجالات التعليميّة والثقافيّة.
وعلى الرغم من أنّ المادة 19 من الفصل الثالث من الدستور الإيرانيّ تنصّ على عدم التمييز بين المواطنين الإيرانيّين على أساس عرقيّ، إلا أنّ المواطنين الكرد يعانون تمييزاً ضدّهم في فرص العمل والقبول في الجامعات، وأن من يشغل المناصب العليا في المناطق الكرديّة هم من غير الكرد، وأنّ مناطقهم هي الأقل حظاً من حيث التنمية والتأهيل والأعلى من حيث البطالة، وأنّ الكرديّ مهمّش بشكلٍ كبيرٍ ولا يسمح له بالتعبير السياسيّ الحرّ عن نفسه، حيث تقوم السلطات بحظر تشكيل الأحزاب الكرديّة، وقد أيّدت مطالب الكرد هذه وأكّدتها منظمات حقوقيّة معروفة. وبذلك فإنّ النص الدستوريّ جاء على نحو فضفاضٍ يمكن التلاعب بمضمونه وفق مقتضيات السياسة، وأُفرغ من محتواه، ليكون لصالح قوميّة على حساب آخرين.
ومن جهة أخرى فإنّ نحو 60% من الكرد في إيران هم من السنة أتباع المذهب الشافعيّ، ويتمّ التعاطي معهم على أساس المذهب لتضيع الخصوصيّة القوميّة، كما أنّ دستور الدولة يتخذ المذهب الشيعيّ مذهباً رسميّاً له، ووظيفة السلطة هي حماية المذهب ونشره، ما يعني حرمان بقية الأديان والطوائف ومن بينهم الكرد من حقوقهم السياسيّة، ضمن التوصيف المذهبيّ إضافة إلى العرقيّ. ولعل الكثيرين انطلت عليهم أبعاد هذه السياسة، فتماهوا في سياسة الدولة، لأنّها تنطوي على تذويب قضايا المكونات العرقيّة الأخرى في الإطار الدينيّ، وبالتالي محو خصوصيتها الثقافيّة والتاريخيّة، وتُواجه كل المطالب بتهم الانفصاليّة والتكفير والانتماء لجماعاتٍ سلفيّة. ولهذا نجد أنّ قضية الكرد الإيرانيّين كانت أقل حضوراً من قضية نظرائهم في العراق وتركيا، وبهذا تختلط مطالب الكرد مع القوميّات الأخرى التي غلب عليها الانتماء المذهبيّ السنيّ مثل العرب والبلوش والتركمان، والذين يشكون جميعاً من انعدام الفرص أمامهم، فضلاً عن ذلك هناك بعض الجهود بين هذه القوميّات لإيجاد صيغة من التعاون ولكنها أقل من أن تُحدث تغييراً في الواقع العام.
الإعدامات سياسة لتصفية المعارضة
وقعت العديد من حوادث الإعدام لنشطاء من الكرد في إيران بينهم الداعية شهرام أحمديّ الذي اعتقل في عام 2009 واتهم بالانتماء لجماعات تكفيريّة وارتكاب أعمال إرهابيّة ، وحُكم عليه بالإعدام بسبب نشاطه الدعويّ في المساجد السنيّة الكرديّة، ثم أُلغي ولكن أُعيد الحكم نفسه في محكمة صوريّة لم تستغرق دقائق وتمّ تنفيذ الحكم بحقه مع 28 آخرين من الكرد في 03-08-2015, وآخر عبارة قالها شهرام “أنا لم أرفع السلاح بل كنت أمارس الدعوة”، وقال والده: “لقد أعدمتم ولدي بهرام اتركوا لنا شهرام” هاتان العبارتان تكشفان حقيقة عميقة عن الأزمة والمعاناة.
ملف إعدام الأقليات في إيران يتجاوز السلطة القضائيّة، بل هو سياسة تتبعها الحكومة الإيرانيّة لإضعاف المعارضة، وبالتالي فهذه الحادثة ليست منفردة، فالإعدام الجماعيّ أضحى صفة ملازمة للسلطة الإيرانيّة، وقد شهد عام 2015 تنفيذ الإعدام بحق 6 نشطاء من الكرد الإيرانيّين، وهم كل من حامد أحمدي وكمال ملائيّ وجمشید دهقاني وجهانغیر دهقاني وصديق محمدي وهادي حسيني، بتهم لا تختلف كثيرًا عن تهم الداعية شهرام أحمدي ومن أعدموا معه.
وجاء في تقرير المركز العربي الأوروبيّ لحقوق الإنسان والقانون الدوليّ أنّ: “الحكومة الإيرانيّة اعترفت رسميّاً بتنفيذها 246 حكماً بالإعدام خلال عام 2015، فيما أشارت تقارير إلى صدور 448 حكماً بالإعدام في هذه الفترة الزمنية”، وأضاف تقرير المركز بأنّ المعطيات الرسميّة تؤكد أنّ إيران أعدمت 289 شخصاً في 2014، ولكن «تقارير موثوقة أشارت إلى أنّ الرقم الحقيقيّ هو 743 شخصاً على الأقل».
تؤكّد الحوادث التي اندلعت بعد 15 أيار عام 2015 أنّ الحل الأمنيّ هو الخيار الأوحد في مواجهة الكرد. ووقعت الحوادث إثر مقتل امرأة كرديّة تدعى فاريناز خسرواني في الخامسة والعشرين من العمر، سقطت من الطابق الرابع في فندق في مدينة مهاباد أثناء محاولتها الهرب من محاولة اعتداء ضابط إيرانيّ عليها – وعمّت موجات الاحتجاجات المدينة واندلعت اشتباكات واسعة في مدينتي «مهاباد» و«بوكان» وعموم كردستان إيران احتجاجاً على الحكومة بين الشباب الأحرار وأهالي المدينة من جهة وبين عناصر وزارة المخابرات ورجال الأمن “الباسيج” من جهة أخرى. الذين اقتحموا منازل المواطنين واعتقلوا 200 شخص من الأهالي جراء الاشتباكات. ولقيت أصداء داعمة من الكرد في تركيا وسوريا وكردستان العراق الذين نظموا احتجاجات مماثلة، فتمّ إرسال تعزيزات أمنيّة إلى مدن إيرانيّة كرديّة أخرى مثل بوكان، مريوان، سقز وسنندج لمنع خروج هذه الاحتجاجات عن السيطرة.
التوظيف السياسيّ للدين
ثمّة قضية يجدر التوقف عندها إذ أنّها تنطوي على مفارقة صارخة، فإيران تعتمد المذهب الإماميّ الشيعيّ مذهباً رئيسيّاً في البلاد، وتأطير ذلك قانونيّاً أدّى إلى تبنّي “ولاية الفقيه” وتمّ استحداث منصب مرشد الثورة ليكون أعلى سلطة في الدولة ومرجعيّة تتجاوز القانون.
من المهم جداً التفريق بين إيران الدولة والكيان السياسيّ الذي يعمل على أجندة سياسيّة خاصة بالمنطقة، وينكر على المكونات الإيرانيّة خصوصياتها القوميّة والثقافيّة، ولكن التسليم المطلق لولاية الفقيه يفترض أنّه استحصل العصمة من الخطأ والزلل واتصف بالعدل، ولا يمكن لأيّ جهة شرعيّة أن تقطع بعصمته أيّاً كانت، ويذكر التاريخ أنّ الإمام علي الرضا وهو الإمام الثامن رفض الخلافة وقبل كرهاً ولاية العهد شريطة ألا يكون شريكاً في الحكم فلا يعيّن ولا يقيل، أيّ أنّه نأى بنفسه عن السياسة، وهو الإمام المعصوم وفق عقيدة الإماميّة، والإمام علي أوصى محمد بن أبي بكر عندما ولاه إمارة مصر بالقول: “الناس إما أخٌ لك بالدين أو نظيرك بالخلق”، فالإمام لم يحكم بتكفير أحدٍ من أهل مصر بما فيهم الأقباط، فكانت توصيته صريحة بعدم التمييز بين المواطنين وفق معتقداتهم.
وفي الإطار العقائديّ يركّز الخطاب الدينيّ على سرد قصصيّ لأئمة أهل البيت، ومنها واقعة كربلاء “الطف” والترويج لمظلوميّة الإمام الحسين، في حين أنّ المهاتما غاندي الهندوسيّ قال: “تعلمت الثورة من الحسين” فقاد ثورة الهند ضد المحتل البريطانيّ وانتصر وحرّر البلاد، فيما الشعوب الإسلاميّة لم تستطع أن تتحرر من تبعيتها للخارج ولا استبداد حكامها. هي مفارقة في غاية الغرابة.
وبذلك لا تختلف السياسة الإيرانيّة بحقِّ الكرد عن السياسة التركيّة في توظيف الخطاب الدينيّ سياسيّاً، ليكون الدين الخط الموازي للقوميّة، وأحد دعائم الدولة القوميّة القائمة على أحاديّة اللون.
تشهد منطقة الشرق الأوسط اليوم مخاض تغيرات بدأت منذ عدة سنوات، وبالتوازي معها فإنّ جغرافية كردستان هي ميدان حراك سياسيّ مميز، وصحوة باتجاه المطالبة بمزيد من الحرية والإدارة الذاتيّة، فالكرد في سوريا والعراق وتركيا يمرّون بتغييرات كبيرة، كما أن طبيعة وشكل السياسات الكردية في تلك الدول المذكورة تغيرت بشكل دراماتيكي في غضون أشهر قليلة. ولذلك فمن المستغرب جداً أن كردستان إيران تقف ساكنة وسط كلّ هذه المعمعة وتسونامي المتغيرات التي تعصف ببلدان المنطقة حتى على الضفة الأخرى للخليج في البحرين والسعودية، وبذلك فإنّ الحلقة تبقى ناقصة مع صمت كرد إيران في ظل حكومة الباسيج والباسدران. لكن هذا لا يمثل الحقيقة، بل هو بسبب التعتيم الإعلاميّ، فتوالي تنفيذ أحكام الإعدام ينبئ بأنّ هذا الصمت لا يعكس واقع الحال، وسيكون إرهاصات لمرحلة تختلف عن الحاضر.[1]