خلف معّو
الحسكة – شمال شرقي سوريا
يبحث هذا التقرير في حريق سجن الحسكة الذي وقعت أحداثه في آذار/مارس 1993، معتمدا على بعض شهادات الناجين من تلك الحادثة.
حريق سجن الحسكة
في 24-03- 1993، نشب حريق كبير في سجن الحسكة المركزي، راح ضحيته، 61 شخصاً من الكرد السوريين في ظروف غامضة، لم تكشف عنها الحكومة السورية، إلى الآن، والذي مضى عليه ما يقارب 30 عاماً.
وربطت الحكومة آنذاك أسباب افتعال الحريق بمدمني المخدرات، حيث جاء في تقرير قائد شرطة الحسكة إلى وزارة الداخليّة تحت الرقم (1321|ص)، أنّ مسبّبي الحريق هم مجموعة من مدمني المخدرات. وبتاريخ 24 أيار نفذت حكم الإعدام بحق 5 من المعتقلين.
يعود تاريخ بناء سجن الحسكة إلى أعوام الستينات من القرن الماضي، وبني السجن من طابقين وقبو، وكان الطابق الثاني الذي وقع فيه الحريق مبنياً على شكل راحة يد، تتقابل خمسة مهاجع (غرف كبيرة يوضع فيها أسرة لمبيت السجناء).
وكانت السلطات الحاكمة في سوريا تزجّ في ذاك المعتقل، من أبناء محافظة الحسكة، معتقلين سياسيين ومدمني مخدرات ومرتكبي الجرائم الأخرى. وحشرت في كل طابق أكثر من 500 شخص،في حين أن سعة المهاجع كانت تكفي فقط لاستيعاب 200 سجين، وذلك في ظروف سيئة للغاية اضطر السجناء على تجشمها، بحسب شهود نجوا من الحادثة.
كيف بدأت الحادثة؟
بدأت الحادثة ليلة الثالث والعشرين من آذار/ مارس 1993، عندما احتج السجناء على ظروف السجن المركزي. فاقتحمت قوات الأمن السورية السجن في 23-03-1993، ونشب حريق أدى إلى حرق 72 سجيناً حتى الموت. وإعدام خمسة آخرين فيما بعد، ليرتفع عدد ضحايا ( مجزرة سجن الحسكة ) إلى 77 شخصاً.
ويؤكد أكثر من سجين في سجن الحسكة أنّ الحريق الذي نشب في حوالي الساعة السادسة مساء، كان خطة مدبرة من قبل ( عملاء تابعين لأمن السجن ) تم وضعهم بين المعتقلين، لافتعال الحريق.
و حسب عدة شهادات للمعتقلين، كانوا في السجن وقت ( الجريمة )، فإن إدارة السجن وزعت مادة الگاز “المفقودة ” على السجناء بكميات كبيرة، وتم رش الجدران بمواد قابلة للاشتعال على أنها مبيدات حشرية.
وتم إشعال الحريق من قبل مجهولين، بالتزامن مع مساعي اقتحامه من قبل الفرق الأمنية، وبعد اشتعال الحريق في أحد المهاجع التي شهدت “تمرداً” رفضت السلطات فتح الأبواب، رغم تعالي أصوات السجناء وثم احتراقهم ضمن المهجع.
وقال أحد الناجين من الحريق 62 عاماً، فضل عدم ذكر اسمه، أن النيران خرجت عن السيطرة، مع تواجد كميات كبيرة من مادة الكاز داخل المهجع.
وأضاف الناجي، أن أحد السجناء كان يدعى (قهرمان علي) تمكن من فتح باب المهجع الثالث لكن الوقت كان قد فات، فالنيران كانت قد امتدت إلى المهجع بأكمله، وأدى الحريق إلى مصرع حوالي 61 سجيناً وإصابة 90 آخرين بجروح متفاوتة وحالات الاختناق نتيجة الدخان المتصاعد.
الحريق و علاقته بالعداء بينمسئول الأمن العسكري وعائلة كمال حسو
كانت محافظة الحسكة محكومة من قبل مؤسسة الأمن العسكري التي ترأسها شخص اسمه محمد منصورة. يفرض الأتاوات على المزارعين والتجار، ويفعل ما يريد دون رادع قانوني أو أخلاقي. كل من لم يكن يذعن لأوامره، كانت تتم محاربته، في منطقة لم يكن فيها قانون سوى نزوات رجال الأمن.
لم يرق لرجل الأمن السوري، توسع نفوذ رجل الأعمال الكردي كمال حسو في منطقة الجزيرة السورية. فعمدَ منصورة إلى افتعال نزاع عقاري بين كمال وشخص آخر اسمهسليمان غزالة حول ملكية قطعة أرض زراعية محاذية لملكيتهما في قرية متسلطن 7 كم جنوب شرقي الدرباسية.
أدى ذلك النزاع إلى مقتل المغدور سليمان على يدعبدي فرحان شقيق كمال، فاعتقل على إثرها، في العشرين من شهر شباط عام 1993، خمسة أشخاص من عائلة كمال حسو، قضوا جميعهم نحبهم بعد شهر واحد من الاعتقال، إثر حادثة حريق غامضة نشبت في سجن الحسكة المركزي في غويران 1993.
قال أحد أفراد عائلة كمال حسو، خلال شهادته، إن مسؤول الأمن السوري في منطقة الجزيرة السورية (محافظة الحسكة)، محمد منصورة، كان يضمر العداء لعائلته، بدوافع شخصية.
وأضاف الشاهد، أنه لم يكن لهم أي عداء مع عائلة المغدور. بل حتى أنهم توسطوا بين المغدور وبين عائلة الطفل الذي مات إثر حاثة سير تسبب بها سلمان. غير أن منصورة ظلّ يحرض سلمان ضد عائلة كمال حسو المشكيني.
حادثة مدبرة
وحسب أقوال الشاهد من عائلة كمال حسو، فأن أحد السجناء أخبره ذات مرة، أن ليلة الحادثة، أمر أحد الضباط المناوبين في السجن بإحضاره إلى مقره، وبعدها خرج الضابط وأقفل الباب وراءه.
وبعد مضي دقائق معدودة، سمع السجين، أصوات الاستغاثات من داخل السجن، وعويل بنشوب حريق، فتقدم السجين نحو الباب ليرى من فتحة المفتاح، أربعة أشخاص بثياب مدنية يحملون كمال على نقالة وهو يرفع رأسه كمن يريد أن يجلس.
وأضاف الشاهد أن رجلاً آخر كان يعمل في مقهى السجن، روى له أن شقيق كمال يدعى فرهاد، (كان حينها يبلغ 35 عاماً)، وكان معه في السجن أيضاً مع شقيقه الآخر (عبدي فرحان 57 عاماً) واثنين من ابنائه (بلند 24 عاماً ومصطفى 15 عاماً).
وكان فرهاد يرشي حراس السجن ليقضي أغلب وقته إلى حوالي الساعة التاسعة مساءً في ساحة السجن، إلا أن ليلة الحادثة، حوالي الساعة السابعة، أمره الضابط المناوب بدخول المهجع فتشاجرا بالأيدي نتيجة رفض فرهاد الدخول، لبقاء ساعتين على انتهاء موعد دخوله المهجع، إلا أن الضابط أجبره على الدخول.
وأوضح الشاهد من عائلة كمال حسو، أن الحادثة كانت مدبرة من محمد منصورة وبتنفيذ من قبل قائد الشرطة في مدينة الحسكة، مشيراً إلى أن منصورة كان حاقداً على عائلته وكان يطالب بإخضاعها لسلطته, على حد وصفه.
غضب في عيد النوروز
وقعت الحادثة، بعد يومين من عيد نوروز (عيد الثورة) القومي لدى الشعب الكردي وفي ليلة اليوم الأول من عيد الأضحى، ليستفيق الناس في اليوم الثاني على نبأ استشهاد 61 شخصاً، منهم 21 ضحية من مدينة الدرباسية، خمسة من عائلة كمال حسو.
واستشاط أهل الدرباسية غضباً في ذاك الربيع، ليخرجوا في موكب كبير لاستقبال جثامين الضحايا، إلا أن الحكومة السورية، غيرت طريق الموكب القادم من الحسكة، ليلتفوا على القرى المحيطة بالدرباسية، إلى مقبرة المدينة التي أعدوها مسبقاً لدفنهم بعيداً عن أنظار الناس ودون معرفة ما إذا كان هناك جثامين داخل التوابيت، على حد تعبير الشاهد من عائلة حسو.
وتدخلت وساطات من قبل الحكومة ضمنها قيادات من الأحزاب الكردية لتهدئة الأوضاع، وتعويم الحادثة كقضاء وقدر. في حين أشاد الشاهد بمواقف شجاعة لبعض العشائر العربية، من بينهم شيخ عشيرة الجبور عبدالعزيز المسلط، الذي أسقط العقال عن رأسه في خيمة العزاء وأدلى بتصريحات مناهضة للحكومة ومتهماً إياها بالتورط في الحادثة، والذي نفي لاحقا إلى العراق بسبب مواقفه المناهضة للحكومة.
وبعد سنة من الحادثة، طالب رئيس فرع الأمن العسكري في محافظة الحسكة، محمد منصورة، اللقاء بعائلة كمال حسو، ونفى المنصورة علاقته بتلك الجريمة ، متهماً قائد شرطة الحسكة بتسببه في الحادثة، دون محاسبته.
إخفاء الأدلة
وعاد الشاهد من عائلة كمال حسو، بذاكرته إلى الوراء، ليروي لنا، قيام الحكومة بافتعال الحريق وإخفاء الأدلة دون محاسبة الجناة الحقيقيين إلى يومنا هذا.
مشيراً إلى أن محامي العائلة، أخبرهم بعد الحادثة، أنه ذهب في مهمة إلى القصر العدلي في الحسكة، بعد ثلاثة أيام من الحادثة، التقى بالقاضي خلف العزاوي الذي كان مكلفا بقضية اعتقال خمسة أشخاص على خلفية مقتل سلمان غزالة، وأن القاضي قد أخبره بتوقيعه على أمر إخلاء سبيل ثلاثة أشخاص من موكليه من عائلة حسو، الذين لم يكن لهم أي علاقة بحادثة القتل.
ويأتي ذلك بعد ثلاثة أيام من حادثة الحريق، وقال الشاهد إن المحامي كان قد قدم على طلب إخلاء السبيل لثلاث مرات، وفي وقفة العيد، طلب المحامي مجدداً من القاضي بإخلاء سبيل ثلاثة من موكليه، إلا أن القاضي ماطل الطلب وأخبر المحامي أنه سيخلي سبيلهم بعد العيد، وبعد الحادثة بأقل من شهر، تم ترقية القاضي خلف العزاوي من قاضي الإحالة إلى محامي عام بقرار وزاري.
وحول الحادثة، قال الشاهد أنه تم إدخال كميات كبيرة من مادة الكاز ورش الجدران بالمواد القابلة للاشتعال ليلة الحريق، ووقع الحريق في المهجع الثاني بطول 22 متراً وعرض 6 أمتار لينتشر الحريق في كامل المهجع معتلياً سقف المهجع بارتفاع 5 أمتار على حد وصف الشاهد.
وذكر الشاهد أن عبدي فرحان كان يقول لعائلته أثناء الزيارات، أنهم لن يخرجوا من السجن على قيد الحياة.
فقدان مادة الگاز
عبدالرحمن رمضان (71 عاما)، يعمل حالياً حلاقاً في مدينة الدرباسية، وهو يروي شهادته حول الحادثة، التي نجا منها، قال إنه تم قطع مادة الكاز بشكل مفاجئ قبل أيام من الحادثة، وبعدها تم إمداد المادة إلى كافة المهاجع.
وأضاف أن يوم الحادثة، في ساحة السجن من الطابق الثاني، والتي تطل عليها خمسة مهاجع، ويوجد فيها غرفة للحلاقة وأخرى كمقهى وغيرها.
قامت الشرطة ليلتها بضرب أحد السجناء في تلك الساحة، وكان يدعى علي، مما دفع بسجين آخر اسمه كاميران بالتهديد باحراق السجن في حال لم تتركه الشرطة.
لاحقا، اندلع الحريق في السجن من مصدر مجهول، وظلت الشرطة تتفرج على تفشي النيران في المهجع دون أن تبادر إلى المساعدة في إنقاذ السجناء أو طلب المساعدة لإخماد الحريق.
وقال الشاهد، إنه سارع بالزحف تحت الأسىرة الحديدية للهروب إلى غرفة المطبخ والمراحيض، وفجأة انقطعت الكهرباء من داخل المهجع، وكانت النار قد التهمت نصف المهجع واحترقت البطانيات.
وأشار الشاهد، إلى أنه بالزحف استطعت الوصول إلى المطبخ والمراحيض وتبعني آخرون عددهم قليل لا أذكرهم ،لأن الكهرباء كانت مقطوعة، وصلت للمطبخ وقمت بفتح صنبور الماء، فلم ينزل الماء، حيث انقطعت المياه مع انقطاع الكهرباء.
وتابع الشاهد، بقينا نحو عشرين دقيقة في المطبخ، والنيران تلتهم الأرواح والدخان يملأ المكان في المهجع، إلى أن قام أحد السجناء كان يدعى قهرمان بفتح باب المهجع.
الأكراد على جنب
وقال الشاهد الذي كان يقوم بالحلاقة في السجن: خرجنا أنا وبعض الناجين، فنادى أحدهم من الطابق العلوي بصوت عال، الأكراد على جنب!.
ويقطن أكراد سوريا، وهم مجموعة متمايزة عرقياً ولغوياً، مناطق قريبةً من الحدود التركية والعراقية، على الرغم من أن مدناً أخرى عدة في أجزاء أخرى من البلاد، خصوصاً دمشق وحلب، تقطنها مجموعات كردية كبيرة أيضاً، دون اعتراف بوجودهم وحقوقهم في دساتير سوريا، كما جرّد نحو 300 ألف كردي من الهوية السورية في إحصاء حكومي في الستينات.
وبالعودة إلى شهادة الناجي، يقول إنه بعد الحادثة بنحو 14 يوماً، تم إطلاق سراح الحلاق، من قبل رجل في الأمن السياسي برتبة لواء، كان قد قدم من مدينة دمشق، دون أن يسألوه عن تهمته الأساسية.
وكان الحلاق قد اعتقل في عمر 43 بتهمة الانتماء السياسي لحزب العمال الكردستاني قبل شهرين من الحادثة، هو وثمانية من الدرباسية وعشرة آخرين من عامودا بنفس التهمة في نفس الليلة.
وبعد التحقيق بأسبوعيين تم إعدام نحو سبعة أشخاص من مدمني المخدرات (اتهمتهم الحكومة بالتسبب بالحادثة) لكنها وضعت بين المتهمين أيضا الشاب القاصر كاميران الذي تم ترحيله
إلى سجن إدلب، وقبل أيام من انتهاء محكوميته تم تسليم جثته إلى أهله ميتاً (وسبب الوفاة توقف كلوي، وفقا لرواية الحكومة).
وبعد مضي ما يقارب ال 30 عاماً على حادثة حريق سجن الحسكة دون عدالة، يترقب ذوو الضحايا فتح تحقيق دولي في الحادثة لينال الجناة الحقيقيين جزاءهم.
وتضاف إلى هذه الحادثة المئات من القضايا التي راح على إثرها ضحايا أبرياء في سجون الحكومة السورية قبل اندلاع أزمتها المستمرة منذ عام 2011، ولايزال المشهد الدموي يحصد أرواح السوريين رغم تدويل الأزمة السورية دون حل وعدالة لدماء السوريين التي أريقت مئات الآلاف منها على يد الحكومة وفق تقارير دولية.[1]