حسين جمو
ظهرت عشرات التعريفات التي تحاول تأطير مفهوم الهوية والانتماء في صياغات مُحْكَمة، لا تبدو كلاً منها على حِدَةٍ كافية إلا بشكل جزئي، أو يمكن الخروج بخلاصة من مجموع التعريفات البارزة بصياغات تنطبق على حالة محددة.
قبل أن نطرح سؤال الانتماء، لا بد من تعريفٍ بتدرج مراحله، فالانتماء نفسه هو من أحد أقدم الأسئلة في المسيرة البشرية، ويختلف تبعاً لبيئة وسياق كل مجموعة تجاه الأخرى، وكل فرد داخل المجموعة أيضاً، والعلاقة بالمحيط. فالاستغراق في تعريف دوائر الانتماء سيُفضي بنا إلى نقاش لا ينتهي حول الفرد والمجتمع، ضمن ظروف موضوعية. وبدلاً من ذلك، فضّلتُ في هذه الورقة التركيز أكثر على إيراد الأمثلة بدلاً من التعريفات الصرفة.
لمحة عن القبيلة المحاربة في الإسلام
لم يتبلور الإسلام في بداياته كهوية اجتماعية فوق الهويات الفرعية القبلية. إنّ أكثر الحروب الطاحنة التي مزقت الكيان الاجتماعي الإسلامي الهش، كانت تدور بين كتل اجتماعية هائلة تنتمي كل منها إلى أرومة قبلية مختلفة، كما في حالة الصراع بين القيسيين واليمانيين في «مرج راهط «قرب دمشق، في عهد مروان بن الحكم الذي اتخذ من القبائل اليمانية ذراعاً ضاربة ضد القيسيين المناوئين له في شمال سوريا في ذلك الوقت.
واستمرت حالة الصراعات الطاحنة بين الهويات الدنيا في الإسلام كأبرز ساحة تسيل فيها الدماء. ولا يختلف الأمر –كردياً- عن هذه الظاهرة، إذ بقيت الهويات القبلية أقوى بمراحل من الهوية القومية، وبرزت كأداة تدمير ذاتية، غير واعية لكيان قومي، كان يمكن البدء في وضع أسسه في وقت مبكر، بدلا من حالة الصدمة السياسية التي عاشها الكرد نهاية الحرب العالمية الأولى، حين باتوا معزولين عن أي نقاش مثمر حول مستقبلهم.
ما يمكن قوله، بناءً على صراع القيسية واليمانية في صدر الإسلام، وشمّر وعنزة في القرن التاسع عشر، والصراعات القبلية الكردية في العصور الوسطى وحتى مطلع القرن العشرين، إنّ الحروب الأهلية داخل الهوية العليا الواحدة، هي سمة التاريخ العام في المنطقة برمّتها (1)، وليس الأمر كما يشاع ظاهرة كردية خاصة، بل إننا لو عرَّجنا على تاريخ الإمارات التركمانية في الأناضول وشرقها، وفي العراق ومناطق شمال الشام بدءاً من القرن العاشر الميلادي، نرى أنَّ أشد الحروب الأهلية فتكاً كانت داخل قبائل التركمان.
وقد يكون مثال «الآق قوينلو» السنة، و»القرة قوينلو» الشيعة، أوضح النماذج حول خطورة الصراعات داخل الهوية الواحدة المفترضة. كل من القبيلتين تتحدثان لغة واحد ولهجة واحدة أيضاً. «القرة قوينلو» باتت في نهاية الأمر القوة الضاربة للصفويين، فيما تشتت «الآقو قوينلو» في أنحاء الأناضول والعراق، وتجاهلتها القبيلة العثمانية التي كانت في أوج قوتها مطلع القرن السادس عشر، حيث فضلت الكرد على كل تركمان الأناضول.( 2)
إذاً، لم تنجح القبائل المتحوّلة إلى الإسلام في الاندماج في هويات عليا أوسع، سواء قومية أو دينية كانت، لكن في كل الأحوال لعبت السلالات الحاكمة دوراً مهماً في رسم حدودٍ سياسية لانتماءات مجموعات قبلية ذات مكانة مرموقة، إما بسبب حجم أفرادها أو مواقع انتشارها. كما أنَّ هناك قبائل انقرضت وانحرفت هويتها، ولدينا هنا مثالان أحدهما كردي، والآخر عربي.
انقسمت القبائل القيسية في القرن العاشر الميلادي شمال سوريا إلى عدة فروع، أكبرها «كلاب». واتخذت هذه القبيلة الأراضي الواقعة بين دير الزور وحلب، مناطق تتنقل فيها، لكن بعد مرور قرنين من الزمن، لم يعد هناك أي ذكر لهذه القبيلة في أخبار المستكشفين العرب. فأين اختفت؟
يورد «ماكس أوبنهايم» في موسوعة «البدو» آراء تفسر هذه الظاهرة، وهو أنَّ قبيلة كلاب قد جاورت مجموعات تركمانية واندمجت بها حين انتقلت إلى سهل العمق (الاسكندرون) ثم بات أفراد هذه القبيلة العربية العريقة يتحدثون التركمانية، لتختفي من مسرح التاريخ بهويتها القديمة وتظهر بهويةٍ جديدة.
الحالة الثانية، هي قبيلة الموالي ذات الأصول الغامضة. لكنّ الدكتور «أحمد خليل» استنتج في دراسةٍ له، معتمداً على مرويات النسابين، انحدار هذه القبيلة من البرامكة الكرد، وأنها اعتزلت في مناطق صحراوية نائية فترة طويلة من الزمن، ثم باتت هذه القبيلة واحدة من أكبر الجماعات المقاتلة في الشام في عهد المماليك، وكان لهم دور بارز في هزيمة المغول تحت قيادة «آل مهنا». ورغم الأصول الكردية للقبيلة، إلاّ أنّها تبنّت، مع الزمن، هوية جديدة عربية، بل ويجهد رؤوس القبيلة لإيجاد نسب لهم يصلهم بالأمراء العباسيين .(3)
هذه الأمثلة ليست سرداً للتاريخ، إنما نماذج لإمكانية انقلاب الهويات، وتبنيها هوية جديدة، قد تتسع لعناصر أخرى أوسع، وآفاقٍ أرحب، عسكرياً وسياسياً، وقد يحدث العكس أيضاً. لذا، قبل البت في مسألة الانتماء، لا بد من التخلص من مقاربة خاطئة وقاصرة معرفياً، وهي أنّ الانتماء الكردي، مثلاً، هو انتماء سلالي (قائم على السلالة). في الواقع لا يصح ذلك، كردیاً أو عربياً، نظراً للتمازج الكبير بين العناصر، وتجاورها لفترات طويلة من الزمن. وعدم التخلص من هذا الخطأ يؤدي إلى نتائج مهينة لكثير من العناصر المندمجة، فعلى سبيل المثال: هل يمكن لأحدٍ التشكيك في كردية (أليس الأفضل كردايتيّة؟) الفنان «محمد شيخو» لأنه من أصول محلمية ؟. هل يمكن خلع صفة الكردايتي عن سلالات الكثير من زعماء العشائر لأنهم ينسبون أنفسهم إلى آل البيت؟.
بالتالي، الانتماء خيار حر يخضع لظروف ذاتية وموضوعية، لكنه ليس ثابتاً وليس أبدياً. والواقع، إنّ فكرة الانتماء تشبه فكرة الأرض الخاصة أيضاً، فلا توجد مجموعة بشرية في المنطقة حافظت على كيانها الأصلي كما هو، بل حدثت انزياحات بشرية جلبت قبائل «الغز» التركية كاملة من وسط آسيا إلى تركيا الحالية. صحيحٌ أنه ربما كان مشروعاً قبل (800) عام مجادلة الترك حول هذه الحقيقة، وأنّ عليهم العودة إلى أراضيهم الأصلية، لكن في الوقت الحالي لم يعد هناك أراض أصلية لأي من شعوب المنطقة إذا قارنّاها قبل ألف عام من الآن، بمعنى أنّ هذه الأراضي إما توسعت، أو تقلصت، أو تم تهجير سكانها كلياً، وحل آخرون فيها.
إنّ فكرة الانتماء، بناءً على التاريخٍ ذي الصلاحية المنتهية، لا تصلح لتأسيس تعايش بين مكونات المنطقة. وبما أنّ عنوان هذه الندوة(4)يتعلق بالأقليات، فإنّي أسجل تحفظي على التسمية من الناحية المبدئية، إذ ليست هناك أقلية لم تكن أغلبية يوماً ما في الماضي، ولو ضمن إطار جغرافي محدد.
أقليتان .. واحدة توسعية، وأخرى مهددة بالزوال
في مطلع القرن العشرين، برزت قضايا أقليات قومية في المنطقة إثر خروج شعوب عديدة بلا دول من مسرح الجغرافيا السياسية المعترف بها رسمياً، ففيما خضع العراق للانتداب البريطاني، فإنّ الكرد خضعوا للطبقة العراقية الحاكمة الواقعة تحت الانتداب. لكن، رغم ذلك، كان هناك تمايز لدى نوعين من شعوبٍ تحولت إلى «أقليات»، الأول يعبر عنه الكرد والثاني الآشوريون.
خلال هذه الحقبة، نرى تعريفا جديداً للعروبية، والانتماء إلى العروبة يبرز في العصر الحديث فيما بين الحربين العالميتين، على أساس ثقافي هذه المرة، وليس على أساس سلالي عرقي، ومن شأن هذا الأساس الجديد أن يدمج في السلالة العربية جميع العناصر المستعربة بعد الإسلام التي استبعدت عنها.
هذا التعريف الأحدث، الموضوع لأغراض اندماجية من قبل زعماء سياسيين، يعتبر عربياً كل فرد متمثل، على الصعيد الثقافي، يتكلم العربية، ويسكن بلاداً عربية، ويقول عن نفسه إنّه عربي. وهذا التعريف الثقافي الموسّع جداً للعروبة يتيح لنا أن ندرج في عداد الأمة العربية – التي لم تعد مرادفة لكلمة العرق والسلالة النقية – العناصر غير العربية، المستعربين من فُرس، وباكستانيين، وأكراد، وأتراك، وتركمان؛ وشراكسة).
لم يكن ادّعاء الكردي أصله العربي، في القرون السابقة يشكّل خطراً على فكرة «الاجتماع الكردي» الممتد على مساحة واسعة، لأنّ العرب ما قبلوا هذا التطفل على سلالاتهم غير الغامضة، من وجهة نظرهم. بالتالي نشأ من النظرة القديمة السلالية واقع جديد، وظاهرة فريدة. قبيلة عريقة في وقائعها وأدوارها الحاسمة، وهي قبيلة «الموالي» كما ذكرنا، التي كانت تشكل الرديف العسكري غير النظامي، والأقوى في الوقت نفسه للجيش المملوكي النظامي أثناء اجتياحات المغول للمنطقة.
النتيجة أنه في التعريف الثقافي المعاصر للعروبة تم إلغاء الواقع الأقلوي دفعة واحدة، ما خلق تحدّياً هائلاً أمام الشعوب التي تحوّلت إلى أقليات.
في الحالة الكردية، لا يُعدّ تحقق الدولة خطراً وجودياً على الرابطة القومية المشتركة التي بدأت تفرض نفسها بفضل نخبة كردية، فقدت مكاسبها أواخر السلطنة العثمانية، وبدايات التدخل البريطاني والفرنسي في الشرق الأوسط. بقي الكرد في العراق عقوداً طويلة تحت هيمنة طبقة حاكمة تتبنّى القومية العربية الراديكالية، لكن لم يتآكل المجتمع الكردي هناك بشكلٍ مدمّر، حيث بقيت العربية غير جذابة كلغة حاكمة، فيما حافظت على مكانتها كلغة التدين الشعبي بين الكرد.
كما أنّ التمدد البشري العربي لم يخترق الأراضي الكردية الجبلية سوى في مناطق سهلية قرب كركوك وشرق الموصل. في الواقع كانَ الانتماءُ إلى ما بات يعرف ب «الأمة الكردية» ذا طابع توسّعي، رغم أنها قومية تحت الاحتلال، فاندمجت مجموعات صغيرة عديدة في المدن، بالكرد، وباتت تُعرّف نفسها بأنها كردية، مثل المجموعة التركمانية المتحضرة وسط أربيل في محيط القلعة التاريخية. في شمال كردستان كانت المعادلة مختلفة، حيث كان النظام التعليمي التركي فعالاً للغاية في دفع قطاعات كبيرة إلى اتخاذ التركية لغة للحياة اليومية، نتيجة حملاتٍ واعية قائمة على دراسات استغرقت سنوات، وقامت بها نخبة أكاديمية، على رأسها أكاديمي كردي يدعى «ضيا كوك آلب»، رائد القومية التركية القائمة على اللغة. في الحالة الكردية الأولى، يكفي سيادة النظام الديمقراطي حتى تزدهر الرابطة القومية وتترسّخ، لكن في حالة أكراد شمال كردستان؛ فإنّ الديمقراطية التمثيلية في البرلمان غير كافية لإعادة بناء التخريب الواعي الذي تعرضت له البنية الاجتماعية للقومية الكردية على نطاق واسع.
ويصح القول هنا، إنّ القومية الكردية في جنوب كردستان أكثر سعة من الأكراد الأصليين، بينما في شمال كردستان، فإنّ المنضوين في الدعوة للقومية الكردية أقل من نسبة العدد الكلي للكرد هناك. بالتالي، قد تلعب الديمقراطية التمثيلية وظيفة عكسية تبعاً لكل حالة، إذ لا بد في حالة كرد تركيا القطع مع النظام السياسي التركي (الديمقراطي البرلماني) من أجل تخليص الهوية الكردية من مآزق قانونية دستورية.
النموذج الثاني من القوميات في المنطقة، هي الهوية المهددة بالزوال، ومثال ذلك الآشورية.
تجلّت النزعة الكيانية الآشورية ثلاث مرات خلال المئة سنة الأخيرة، تحديداً مع اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، وانتهت في نكبة «سميل» عام 1933.
كان من المفترض أن تكون هناك محاولة رابعة خلال السنوات العشر الماضية، لكن مشروع إقليم نينوى أخفق، ولم يحظ بفرصة حتى للنقاش العام. كان المشروع يقضي بإعادة إعمار الجزء المسيحي التاريخي من سهل نينوى، وهو يشمل منطقتي الحمدانية وتلكيف شمال شرقي الموصل بشكل أساس، مع اجتهادات مبالغ فيها بأن يضم قضاء الشيخان الواقع ضمن إقليم كردستان العراق عملياً، وأجزاء واسعة من محافظة دهوك.
تولى تنفيذ هذا المشروع السياسي الآشوري «سركيس آغاجان» منذ عام 2004، حيث كان يشغل منصب نائب رئيس حكومة إقليم كردستان، وكانت الأموال التي صرفت على المشروع من أموال الإقليم، وفق اعتراف سركيس نفسه عام2009. بعدها اختفى صاحب المشروع ليقيم في عزلة، بعيداً عن الإعلام، في إحدى قرى «السهل المسيحي». صرفت ملايين الدولارات على الجزء المنجز من عملية استحداث الإقليم، تضمنت تشييد (105) قرية، استوعبت (20) ألف مسيحي هجروا بغداد والموصل بعد موجة تفجيرات طالتهم منذ عام 2003.(5)
الخلافات التي نشبت بين الآشوريين أنفسهم كانت كفيلة بوأد المشروع، عدا عن معارضة بغداد. فالحساسية التاريخية التي يراها معظم الآشوريين مع الأكراد، تجعل من الأخيرين نسخة مستحدثة من «داعش»، ويرون في سيطرة البيشمركة على أجزاء من الحمدانية وتلكيف «احتلالاً كردياً» وفق شعارات رفعها آشوريون في المهاجر.
كانت – وربما لا تزال – هناك فرصة للإبقاء على موطئ قدم جغرافي للمسيحيين في العراق عبر إقليم صغير وإلحاقه بكردستان لاحقاً، كما كان يخطط «سركيس آغاجان»، وإلا فإنّ أفضل عرض مقدم، هو العرض الفرنسي باللجوء إليها إبّان سيطرة الدولة الإسلامية على أجزاءٍ واسعة من العراق.
وإذا آثرنا رصد التجربة المسيحية في العراق من خلال الآشوريين، فذلك مرده إلى عدم انفصال الديني عن السياسي والعسكري. ويتبدى ذلك بوضوح من حركة الدوران الديموغرافي التي فرضتها عليهم نكبة الحرب العالمية الأولى وما تلتها.
مصطلح «مسيحيّو الموصل» حديث بمعناه الحالي. ليس كل من نزح عنها هو موصلي تاريخياً. وليس الآشوري سليلاً، لا شك فيه، لامبراطورية آشور بانيبال، ولا الكلدانيّ من رعايا نبوخذ نصّر. لكن كليهما يعتبر نفسه كذلك.
بنى الآشوريون النساطرة رؤاهم القومية على الريف وليس المدينة. وخلال المئتي سنة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية، كانوا بمثابة رأس الحربة المسيحية. كان الاستقرار في المدينة بمثابة نهاية لحلمهم الكياني. لم تكن غايتهم الأمان، بل الكيان. على عكس أقرانهم الكلدان الذين استقر قسم كبير منهم في المدن (بغداد – الموصل – البصرة). ينأى الكلدان بأنفسهم عن السياسة المتطلعة إلى الخصوصية، مستفيدين من تجارب مريرة في التاريخ لم ينسوها كما في عام/ 1295/، عندما تعرض المسيحيون في الجزيرة والموصل وتبريز، إلى تدمير منهجي، نتيجة تعاطفهم مع القائد المغولي المتمرد «بايدو»، ضد امبراطور المغول «أرغان»، وفق تفاصيل يرويها «ابن العبري» في مخطوطة «تاريخ الأزمنة». حينها تم فرض اللباس المميز عليهم (إزار في الوسط)، ودفع الجزية. وكان ذلك بداية لما سيلاقونه فيما بعد على يد «تيمورلنك» .(6)
ولأنّ مسألة الانتماء خيارٌ حر، فإنه لا دلائل على أنّ آشوريّي اليوم ينحدرون من الامبراطورية الآشورية، ولا الكلدان كذلك، بل اتخذ كل منهما تسمية، بناءً على انقسام الكنيسة الشرقية في القرن الخامس عشر في دياربكر.
لم يكن العدد الضئيل للآشوريين، مقارنة بالكرد والعرب والتركمان، يعطيهم أي أفضلية لخوض حروب كبيرة، في سبيل الانتماء لكيان جغرافي خاص. فقد انضم زعيم الآشوريين «مار شمعون» إلى الحرب العالمية الأولى رسمياً منتصف عام 1915 إلى جانب روسيا القيصرية، وخاضت قواته غارات ناجحة على القوات العثمانية المتمركزة بين هكاري ووان، بمؤازرة من أرمن الطاشناق.
رد الفعل كان ساحقاً حينما انسحب البلاشفة من الحرب عام1917 . كانت كارثة مفجعة على البطريرك ورعاياه الذين لم يصمدوا أمام هجمات العشائر الكردية المدعومة بقوات عثمانية. فكان قرار الانسحاب عسكرياً ومدنياً من قدشانس (مقر الكنيسة النسطورية) في هكاري إلى ضفاف بحيرة أورمية في إيران عام 1918، وهناك تسلم الانكليز الملف الآشوري، من دون وجود خطة بعيدة المدى لكيفية توظيف هذه القوة العشائرية غير المنظمة.
لم يطل المقام في أورمية حتى دفعتهم هجمات التركمان والأكراد إلى النزوح الجماعي جنوباً باتجاه همذان حيث قتل ثلثا العدد. وتتباين المصادر التاريخية في ذكر العدد الكلي لهذا الانزياح الديموغرافي بين (50) إلى (200) ألفاً، وتم نقل الناجين إلى معسكر أنشأه البريطانيون في بلدة بعقوبة العراقية .(7)
انتهت فصول الكفاح الآشوري بمجزرة «سميل»، وفرار الناجين منهم إلى تل تمر برعاية فرنسية. حيث كانت تلك الضربة الساحقة أقعدتهم نهائياً عن خيار المطالبة بكيان قومي خاص، واكتفوا بالتعويل على الحفاظ على الانتماء عبر أدوات التواصل اليومي ذات الطابع غير المرئي سياسياً.
حقوق الأقليات وازدواجية القانون
إنّ الانتماء، مهما كان لمجموعة مميزة ثقافياً ولغوياً، فإنّ هذه المجموعة قابلة للاندثار إذا تبنّت الدولة خططاً محكمة لذلك، وعن ذلك، على سبيل، المثال ما أورده الدكتور «أحمد الخليل» حين كان يقوم بالتدريس في جامعة خليجية، حيث انضمّت طالبة تركية إلى الصف، ورحب بها الدكتور. وحين سألها عن مدينتها في تركيا أجابت «أورفا».
طرح عليها الدكتور «أحمد» بأن أورفا مدينة كردية. لم تنفِ الطالبة ذلك، وقالت: نعم هناك الكثير من الكرد فيها لكنها هي تركية. فقال لها: بلغي سلامي لوالدك واسأليه عن أصلكم.
لم تكن الطالبة الجامعية تقول ذلك بدافع الخجل من أصلها، بل إنها لا تعرف فعلاً، كما تبين لاحقاً من أحاديث بينها وبين أستاذها الجامعي، الذي طلب منها أن تسأل والدها عن عشيرتها. فعادت في اليوم التالي لتقول بأنها من عشيرة «شدادان»، وهي عشيرة كردية ضمن تحالف «البرازية .(8)
حين سرد الدكتور «أحمد» جوانب من حياتها الاجتماعية، بحسب ما روتها الطالبة، بدت جليّةً، الخطة التركية المحكمة لإذابة العائلة الكردية في إطار الدين الإسلامي، والدين الإسلامي في تركيا له لغة، ولغة الإسلام هي التركية، إذا عجز المرء عن تعلم العربية.
هل تركيا ليست دولة قانون؟ هل تركيا دولة غير ديمقراطية بالمفهوم المتداول عن الديمقراطية وهي تداول السلطة أو انعدام الفصل بين السلطات؟ كل عناوين الحكم الديمقراطي متوفرة هناك. وهنا نأتي إلى المشكلة الأعمق، الكامنة في الديمقراطية نفسها، ومعايير القيمة المعروف عنها، بالتالي معركة الحقوق يجب خوضها في النظام الديمقراطي قبل الدكتاتوري.
في النظام الدكتاتوري بحسب التعريفات القانونية المتداولة، فإنَّ الصراع يتم خوضه ضد دولة اللاقانون، أما في النظام الديمقراطيِّ ذي النمط القومي، كما هو النظام التركي، فإنَّ الكفاح يكون ضد القانون نفسه، وهذا القانون معترف به ويحظى باحترامٍ دولي، وهو ليس محل نقاشٍ فعلي، عدا انتقادات حقوقية بين الفينة والأخرى، وهنا تكمن الورطة الكبرى للجماعات المجردة من حقوقها بقوة القانون.
العلّة ليست في النظام الديمقراطي في الدول الغربية، بل في تفاوت التطور السياسي بين بلد مثل تركيا والدول الغربية، فالتعددية في الغرب هي تعددية حزبية مؤسساتية، وتعدد في مدارس الفكر السياسي، قائمة على تباين غير جذري في نمط إدارة الحكومة، والعلاقة مع المجتمعات المحلية. تأتي الدول المضطربة بالهويات القومية والمذهبية وتأخذ المبدأ الغربي من حيث افتراض أنّ لا مشكلة بنيوية في الدولة نفسها. فالتعددية في دولة مثل تركيا، أو سوريا، لا تعني مجرد تعددية الأحزاب في البرلمان، كما يتم الترويج له، بل لا بد أن تكون التعددية في الشعوب المشكّلة للدولة، والإقرار بذلك، وما يترتب على ذلك من حقوق.
في دياربكر، زرتُ رئاسة حزب «هدى بار» الذي تأسس على أنقاض حزب الله التركي، ويتألف أعضاؤه من الكرد فقط. اللافت في هذا الحزب، الذي لديه أجندة إسلامية، هو تغلّب كرديته، كما هو حال معظم الأحزاب الإسلامية، غير أنّ لغته الحزبية هي الكردية، وله مطبوعات باللغة الكردية إلى جانب العربية والتركية. هذا الحزب، وإن كان سياسياً يفترق عن مشروع القومية الكردية، من حيث الطابع الديني لشكل المجتمع الذي يريده، غير أنه ليس مسخّراً من قِبل الدولة التركية لإنهاء عنصر اللغة من الهوية الكردية.
الأقليات ونزع فكرة المقاومة المسلحة
تبقى مسألة الديمقراطية والأقليات متمايزة بين دولة وأخرى، ففي دول أوروبية لا توجد قضايا تحتاج إلى حلها بالكفاح المسلح، نظراً لأنّ القوانين نفسها، بل الديمقراطية وتداول السلطة، تكمن فيها غاية أساسية بتفادي الثورات العنيفة. لذا، فإن مظاهرات حاشدة قد تطيح بحكومات عريقة ومنتخبة، لأنّ النظام السياسي لا يسمح بثورات داخلية. رغم ذلك، فإنّ قضية الأقليات اللغوية لم تنتهِ تماماً في أوروبا أيضاً.
وبحسب تشخيص المفكر الراحل «جورج طرابيشي»، فإنه من منظور الاعتراف بالهويات الثقافية المناطقية، تبدو فرنسا متخلفة عن إسبانيا التي أقرّت في دستورها بالذات، مبدأ التعدد القومي للشعب الإسباني، ومنحت أشكالاً متباينة من الحكم الذاتي لمقاطعات كتالونيا وغاليسيا والأندلس وبلاد الباسك. ولكنّ قصب السبق، في تعليم اللغات الأقلوية، يعود إلى السويد حصراً، إذ أباحت تعليم (265) لغة في مدارس السويد، بما فيها لغات الجاليات المهاجرة، كالعربية، والسريانية، والتركية؛ فضلاً عن اللابونية التي ينطق بها سكانها القطبيون. وقد امتدت عدوى هذه التعددية اللغوية والثقافية الى كندا، التي أقرت منذ عام 1988 لسكانها الهنود البالغ عددهم (850) ألفاً يتوزعون بين (600) قبيلة، بوضعية ثقافية خاصة .(9)
خلاصة هذه الورقة أقتبسها من «يوسف يعقوب»، وهو مدرس كلداني الأصل، في جامعة ليون الكاثوليكية، وقد اختص بدراسة مسائل الأقليات، وأصدر عام1998 موسوعة كبرى عن «الأقليات في العالم». وهو يرى أنّ الاعتراف بالحقوق الثقافية، اللغوية، والدينية؛ وحتى السياسية للأقليات، هو شرط لاتقاء شر التكاثر اللامتناهي للدول في العالم، وللحفاظ على وحدة هذا العالم وتنوّعه في آنٍ معاً، وللتحول من الدولة الإثنية الصلبة إلى الدولة المدنية المرنة، وبالتالي المتعددة القوميات.
مصادر ومراجع
1- لمطالعة تبدلات مواقع القبائل وهويات البعض منها، أنظر: ماكس أوبنهايم، آرش برونيلش، فرنركاسكل – البدو – دار الوراق للنشر- الطبعة الأولى- الجزء الأول – القسم الأول، سوريا، ص 409 – 542
2 – لتفصيل أكبر حول الصراع بين القبائل التركمانية الشيعية والسنية في القرن الخامس عشر، انظر: كولن تيرنر – التشيع والتحول في العصر الصفوي – ترجمة حسين علي عبدالساتر – منشورات الجمل – الطبعة الأولى 2007 – الفصل الثاني ، الدين في إيران.. القروسطية وبزوغ نجم الصفويين – ص 85، 129
3- أوبنهايم – مرجع سابق- ص 413 – 427
4 – يشير الكاتب هنا إلى الجلسة الحوارية لمنتدى شانشين عن الانتماء والأقليات وعلاقتها بالديمقراطية .
5- مسيحيو العراق بين اضطراب الإقامة واضطراب التاريخ… «داعش» ليس السابقة الأولى – حسين جمو – صحيفة الحياة، 17-08-2014/.
6 – ابن العبري – مخطوطة تاريخ الأزمنة – المركز القومي للترجمة (مصر) – ترجمة: شادية توفيق حافظ – الطبعة الأولى، 2007 – ص 209 – 227
7- مسيحيو العراق.. مرجع سابق
8 – أحمد الخليل – الصياد التركي والطرائد الكوردية (زيلان الكوردية والفخ التركي) – الجزء الرابع – المركز الكوردي الأميركي للدراسات الاستراتيجية
9 – جورج طرابيشي- الاعتراف بحقوق الاقليات اعتراف بوحدة العالم وتنوعه- صحيفة الحياة – 29/4/2001
– حسين جمو، مسيحيو العراق بين اضطراب الإقامة واضطراب التاريخ… «داعش» ليس السابقة الأولى– صحيفة الحياة، 17 -08-2014.
– كولن تيرنر – التشيع والتحول في العصر الصفوي – ترجمة حسين علي عبدالساتر – منشورات الجمل – الطبعة الأولى/2007/ – – الفصل الثاني ، الدين في إيران.. القروسطية وبزوغ نجم الصفويين – ص 85، 129
– ماكس أوبنهايم، آرش برونيلش، فرنركاسكل – البدو – دار الوراق للنشر- الطبعة الأولى- الجزء الأول – القسم الأول، سوريا، ص 409 – 542.[1]