فريق التحرير
توماس ماكي، باحث بريطاني في الشؤون الإنسانية، يركز في عمله على الوضع السوري عامة والوضع في المناطق الكردية خاصة. أقام ماكي في مدينة حلب مدة عامين قبل الحرب التي اجتاحت البلاد، وهناك تعلم اللغتين الكردية والعربية.
تدخل الأزمة السورية سنتها الخامسة ولا يزال الحل السياسي بعيد المنال، وليس هناك أفق واضح للحسم العسكري بين المتصارعين في البلاد، وفي إطار متواز تعثرت مؤسسات المجتمع المدني في التأسيس طوال سنين الأزمة لرؤى واضحة تمهّد لبناء قاعدة مدنية صلبة، ما هو تقييمك للأداء المدني في سوريا عموماً ومنطقة الجزيرة خصوصاً؟
أولا،المجتمع المدني له دور أساسي وحاسم في كل مكان، وهو من مكملات الدولة في المجتمعات الديمقراطية. بينما يتمثل دوره بوضع حدود للتصرفات الديكتاتورية في أماكن أخرى. عندما تنهار السلطة التقليدية في سوريا سيكون المجتمع المدني موجوداً لسد الفراغات الناتجة عن الانهيار. بشكل عام تعريفي للمجتمع المدني هو تعريف عام جداً وغير محدد بفكرة المؤسسات الرسمية وشعاراتها وأنظمتها الداخلية. فبينما تم تأسيس العديد من المنظمات الناجحة في سوريا، إلا أنها ازدهرت بشكل خاص في منطقة الجزيرة. وإن ما يترك انطباعاً جيداً لدي حول هذه المنطقة هي ثقافة المجتمع المدني والخبرات المكتسبة التي توافرت على مستوى المواطن، وهذا الأمر عائد نسبياً للفصل بين الأجسام العسكرية والمدنية داخل المجتمع الكردي المحلي.
كمراقب خارج الحالة السورية، كيف ترى مساهمة المنظمات الدولية المانحة في توفير بيئة مدنية تمهد لمفاوضات ذات جدوى، بعيداً عن الصراعات العسكرية، وخلق مناخات مناسبة لذلك، وتبني تجارب مدنية طبقت في بيئات أخرى شهدت نزاعات مماثلة، وهل هناك إمكانية للتعويل على المنجز المدني خلال السنوات الأربع الماضية؟
تستطيع المنظمات الدولية أن تؤمن الأماكن والأدوات إضافة إلى موارد أخرى تساهم في بناء السلام، وتستطيع أن تقوم بحملات مناصرة فعالة وتأثر على الرأي العام. ولكن الجهود الأكثر جدية المتعلقة بالسلام المستقر يجب أن تباشر من الجهات المحلية، فهي المعنية بهذا الوضع. فليس من المعقول أن تقوم المنظمات الدولية بحل الأزمة لوحدها، إلى جانب ضرورة وجود صيغة تعاون بين المنظمات الدولية والجهات المحلية. أيضاً يجب أن نكون حذرين من الآثار السلبية المُحتملة التي تسببها المنظمات الدولية: كتقوية الاقتصاد الحربي وإضعاف المبادرات المحلية من خلال تعيين الأفراد الأكثر فعالية عند الحاجة إلى إرضاء الممولين وتنفيذ المشروع المخطط في وقت ضيق. كما أن المنظمات الدولية لا تولي دائماً الأولوية للمبادرات التي تدعم الإمكانيات المحلية الرامية إلى السلام. هذه الفكرة تم شرحها في كتاب “لا للضرر: كيف تستطيع المساعدة أن تدعم السلام .. أو الحرب”، للكاتبة ماري آندرسون.
في ذات السياق، أُغرفت الكثير من المناطق السورية بالدعم الإغاثي، وأغفل الملف التنموي، الأمر الذي مهد لتنامي اقتصاد الحرب والابتعاد أكثر فأكثر عن اقتصاد ينحى باتجاه السلام، كيف يمكن تحقيق التوازن بين ملفي الإغاثة والتنمية في بيئة الصراع السوري والتخفيف من سيطرة طبقة أمراء الحرب الجديدة؟
هذه النقطة تبرز محنة دائمة، إذ أن الاحتياجات الإغاثية تكون غالباً ذات حجم وأهمية كبرى، ولا يمكن تجاهلها وخصوصاً في هذا الوقت الذي تمر به الأزمة السورية، وما لها من تداعيات على أوضاع النازحين. هذه الحالات تمثل الذين أجبروا على النزوح من منازلهم ولجأوا إلى أماكن مؤقتة للإقامة مثل المخيمات. بالنسبة لي إن تعزيز التنمية على المدى الطويل تتمحور حول النقطة الأكثر أهمية وهي؛ إيجاد سبل لاحتواء الناس المتضررة وتمكينهم من الانخراط في برامج المساعدة التي تهدف إلى توفير الدعم لهم. وطبعاً هذه ليست فكرة جديدة. أنا مندهش كثيراً من ضعف التقدم لجهة الاستجابة للقضايا المتعلقة ب “Imposing Aid” أي ما يسمى (فرض المساعدات على الناس)، لتسليط الضوء عليهم، وهذا ما شرحه الأكاديمية باربارا هارلبوند في 1986.
على خلاف باقي المناطق السورية، تشهد منطقة الجزيرة حراكاً مدنياً لافتاً، في ظل الأمان النسبي الذي تتمتع به، والتنوع المقبول كماً ونوعاً في مؤسسات المجتمع المدني، هل يمكن الحديث عن بيئة مدنية قادرة على ممارسة الدور المناط بها في الجزيرة، وما هي المعايير التي يمكن اعتمادها في قياس هذا الدور ؟
سؤال جيد: تعتمد كثير من المنظمات الدولية على “Organisational Capacity Assessments “OCA أي [تقييم الإمكانات التنظيمية]، ليتمكنوا من دراسة آداء الجمعيات المحلية وهئيات المجتمع المدني. هذا التقييم يركز وبشكل أساسي على الأنظمة الداخلية، سواء إدارياً أو مالياً … إلخ، والموجودة داخل المنظمة. وباعتبار أن هذه المعايير مهمة، فيجب أيضاً أن نفكر أولاً بأهمية الدور الذي تلعبه الجمعيات في السياق الذي تنشط فيه، وثانياً إمكانياتهم للاستجابة للتغيرات غير المتوقعة في بيئتهم. ومن الأمثلة الجيدة عن هذه النقطة، استجابة منظمات المجتمع المدني في منطقة الجزيرة لأزمة النزوح من مدينة الحسكة في شهر كانون الثاني/يناير من العام 2015، حين اشتد النزاع بين النظام وقوات حماية الشعب YPG، إذ كان التنسيق بين الجمعيات والمنظمات في العديد من المدن مثيراً للإعجاب.
كمهتم باللغة والثقافة الكردية ومتقن للغة الكردية، ما الذي جذبك نحو الانخراط ضمن الحالة الكردية والاهتمام بها، وهل يقتصر اهتمامك على الكرد أم على باقي مكونات المنطقة أيضاً؟
أولا من الناحية الإنسانية تهمني المساواة بين جميع مكونات الشعب السوري، كما يهمني مصير جميع المكونات السورية، وعلى نفس المستوى. ولكن على المستوى الأكاديمي هناك العديد من النقاط التي جذبتني نحو القضية الكردية، كالحركات الشبابية النشطة والثقافة الفلكلورية الغنية. وبصراحة قبل ذهابي إلى سوريا للمرة الأولى في العام 2009، لم تكن لدي فكرة جيدة عن الشعب الكردي. ومن خلال إقامتي في مدينة حلب تعرفت على الكثير من مكونات المجتمع وبعض أصدقائي الكرد كانوا من ضمن هذه الشريحة. وعلى اعتبار أني كنت مهتماً بدور الهوية في التطورات السياسية وبقضايا حقوق الإنسان، فكان من الطبيعي أن أكون مهتماً بالحالة الكردية. فأنا كتبت رسالتي في الماجيستير عن المعنى الثنائي لكلمة ال “هوية” أولاً (nifûs) أي الهوية القانونية، وثانياً (nas name) أي الهوية الفكرية السياسية، المتعلقة بالأجانب ومكتومي القيد في محافظة الحسكة، الذين لايزالون مجردين من الجنسية نتيجة الاحصاء في سنة 1962، وفي أوروبا لم يكن الكثير من الناس على دراية بهذا الموضوع، حتى الكثير من السوريين لم يكونوا على دراية بذلك. وإن صمود هؤلاء الناس في مواجهة المعاناة والصعوبات اليومية أبهرني، رغم تجريدهم من الجنسية وبالتالي حرمانهم من حقوق المواطنة رسمياً، إذ كان الكثير من الأجانب ومكتومي القيد الذين التقيت بهم ملتزمين بفكرة الاحترام لبقية الشرائح السورية، وكان طموحهم أن يكونوا نموذجاً للمواطن المثالي. وكما تعرفت على الشعب الكردي تعرفت أيضاً على باقي مكونات المنطقة.[1]