فتح الله حسيني
تشّخص الروائية الكوردستانية كلاويز في قصتها الطويلة، الجديدة، كنة آته خان الصادرة للتو عن مؤسسة حمدي للطباعة والنشر في مدينة السليمانية، واقعاً كوردياً صرفاً بإمتياز، هو واقع عايشته وتعايشه راهناً أيضاً آلاف العوائل الكوردية التي لها فرد أو محب ما في الغربة، أي غربة كانت، سواءً أكانت قسرية أو طواعية، رغم أن المنفى الأول، القسري، يظل أكثر قساوة.
عندما تلملم آته خان كل أهالي الحي، والجيران والأحباب والمعارف استعداداً لاستقبال ابنها المغترب في لندن للدراسة وزوجته الأجنبية في مطار بغداد، انما ترسم حالة كوردية صرفة لها وقعها ورنينها الاجتماعي الكوردي، فواقع الحال الكوردي يحب الحالة الاجتماعية أن تكون على ألقها، وربما هذا ما فعلته آته خان، وهي وجاراتها الفقيرات والثريات، يجهزن أنفسهن وأولادهن من أجل استقبال شعبي مهيب للقادمين الجديدين، حسن أبن آته خان الذي أنهى دراسته في بلد أجنبي، وزوجته جيني، الأجنبية أصلاً التي تعرف عليها حسن بمحض صدفة فتزوجها دون تردد.
يبدو قلق آته خان واضحاً منذ بداية رشفها للشاي في بداية القصة، ولكن كثرة حركاتها وشخصيتها القوية والطاغية على أفراد أسرتها وجيرانها، وكل من هم حولها تبدد كل قلقها عبر شغفها برؤية ابنها القادم من سفر طويل ورؤيتها لأول مرة لكنتها الأجنبية جيني وحفيديها.
مفارقات شتى تحدث في الطريق من السليمانية الى كركوك فبغداد، خاصة وأن الموكب الذي يذهب الى بغداد، كل امرأة فيه لها تفكيرها، فالجيران مقبلون، بفرح عارم، على حالة اجتماعية لا مفر منها، وهي تلبية دعوة آته خان لاستقبال ضيفيها الجدد، وقلق ميرزا علي زوجه آته خان، وتوتره من هذا الحشد، وقلق شقيقه، وسؤاله المتكرر: لماذا كل هذا الحشد الجماهيري من السليمانية الى بغداد؟ لاسيما وأن الطريق محفوف بمخاطر شتى، خاصة وأن جل الحشد من النساء، كما يثير رفض بخشان، ابنة ميرزا وآته خان، الحائرة في ثقافة أمها والمتباهية بثقافتها، وشتان ما بين الثقافتين، فتلك تمثل حالة سائدة في واقعنا الكوردي، بينما بخشان هي حالة أكثر من سائدة، ففي كل منزل كوردي ربما نلحظ هذه المفارقة، وهي رفض الإبنة لثقافة الأم، والثقافة تتطور بتطور الحالة الاجتماعية والتعليمية لواقع متطور، عاصف به التطورات والمتغيرات من أوجه شتى.
ينزل الموكب في مدينة كركوك، لأخذ قسط من الراحة، فينزلن النسوة بأثوابهن المزركشة، فتتهافت على أجسادهن مئات الأعين الكركوكية، فتتمتم بخشان أن هذا معيباً لهكذا ناس، فيكون جواب والدها، ولما لا، أليس تواجد كل هذه النسوة يشي بأننا حالة غير مألوفة، ليقول حتى لو كنت مكانهم لفعلت ما يفعلون!..
ينطلق الموكب، الذي تقوده آته خان، بسياراته وباصه الوحيد منطلقاً الى بغداد، وبعد غثيان وتقيؤ بعض النسوة وصداع رأس بعضهن الأخريات، يستقر الموكب في بغداد، في فندق أحمد أحد أقرباء آته خان، الذي يحتار كيف يؤمن الغرف لكل هذا الحشد الذي انهال عليه فجأة، بلا استئذان، وتمضي الليلة بسلام، بعد حركة كثيرة للموكب الزائر في ردهات الفندق وممراته وغرفه، يفطر الموكب المرافق لآته خان صباحاً، ويتركون ورائهم فراغاً هائلاً ، ليتوجه آته مع سرب من النساء وبشكل رسمي الى المطار، ولينتظر بعد ذلك هبوط الطائرة التي تقل ابن آته خان وكنتها الأجنبية، وهنا يتبدل السيناريو رأساً على عقب، فإذا الموكب المحتشد في المطار كان مشهداً غير مألوف في كركوك، ومشهداً يبدو نوعاً ما مألوفاً في وسط بغداد، فان المشهد في المطار يبدو شاذاً، لا سيما وأن هكذا أمكنة تتطلب رسميات لا غنى عنها، فتتألق القاصة كلاويز في رسم الملامح الريفية للنسوة المرافقات لآته خان، بشكل واقعي بلارتوش، كأمينة لنقل الواقع في أنه واقع ريفي بامتياز، وهي حالة يفترض بها أن ترسم بواقعية لأن الإبداع نتيجة واقع مختلف، خاصة وأن الواقع الكوردي الذي تحاول القاصة والروائية الكوردستانية كلاويز تقديمه وتصويره بكل أمانة، بعيداً عن الزيف الذي يهدد فحوى القصة عبر سيناريوهات غريبة عن واقعنا، يشي بانه واقع روائي، له اقاصيصه اكثر من رومانسيته، وعلى الرغم من أن القصة كتبت في لندن إلا أن قارئها لا يبدي اهتماماً للمكان الذي كتبت فيه القصة بقدر ما يعير جل اهتمامه لتفاصيل تحركات أفراد الحشد الكوردي بأثوبهم المختلفة والملونة في مطار دولي، وهم يريدون استقبال زائرين لا يعرفون تفاصيل وجهيهما.
وظهر حسن بهندامه وأناقته وهو يدفع عربة محملة بالحقائب وفوقها ولده الصغير، وكانت تمشي وراءه امرأة شقراء رشيقة القد وعلى عينيها نظارة سوداء وبجانبها طفلة لم تبلغ السابعة بعد.
قيهتف الحشد، وينتفض البعض الآخر، مما يؤدي الى تدخل قوات حفظ النظام في المطار، وتوقيف إحدى النسوة، لبعض الوقت، ثم يبدأ لحظات العناق....
في السليمانية، تظل جيني قلقة على مصيرها، ولكنها اكثر وثوقاً بزوجها حسن، الذي يبدو أصيلاً مع نفسه ومع زوجيته التي باتت هي مغتربة، ولكن قلق لا يستمر كثيراً، حيث يكون بخشان أنيستها، عندما يخرج حسن وحتى عودته الى المنزل.
القصة بمحاورها الداخلية والخارجية، تتعدد فيها الأمكنة، والزمن واحد، يتحرك الشخوص على راحتهم، بعفوية، وببساطة بلا تعقيد.
فبعد فترة مكوث غير طويلة، في السليمانية، وحلول أوان سفر ابن آته خان وكنتها الى انكلترا، لقضاء فترة اجازة، تسنح الفرصة لشقيقة حسن بخشان بالسفر معهما، لقضاء فترة عطلة والاطلاع على واقع جديد، في لندن، لاسيما وأنها تتقن اللغة الانكليزية، ولكنها تبدو أكثر اضطراباً في الطائرة، ولكن هدوء سوزان يمنحها الاطمئنان.
في لندن تصبح بخشان المحور الأساس للقصة، وتقضي وقتاً لا بأس به مع بهار، الكوردية، زوجة الكوردي المغترب في لندن سردار، وتسرد لها بهار حكايا عن عالم جديد، تعيشه في لندن، لتقدم لها نماذج من نسوة مختلفات، كل منهن تعيش على طريقتها الخاصة، بل الخاصة جداً، لتثير فضول بشخان للتعرف أكثر على هذا العالم بطريقة شفهية عبر قصص صديقتها الجديدة بهار.
بين الهدوء الذي يطفى على المنزل الذي توجد فيه بخشان مع بهار، والضجيج الذي يطفى على بيت حماة حسن هناك خوف ما، وهو خوف جيني، من السفر مرة أخرى الى السليمانية، ومحاولة اقناع حسن بالاستقرار التام في لندن، ولكن حسن يبدو أكثر عناداً خاصة وانه يذكره بشقته الصغيرة أثناء مرحلة الدراسة أنتم نسيتم بأني من كثرة اشتياقي الى بلدي وعادات أهلي كان أصدقائي قد سموا شقتي الصغيرة باسم إحدى محلات مدينتي.
تنتهي القصة لتترك اسئلة كثيرة، لا سيما اتفاق الزوجين على قضاء فترة العطلة فقط في لندن ومن ثم السفر الى السليمانية، عودة حسن وبخشان الى السليمانية دون جيني والأطفال، وفضول بعض النسوة والغمز واللمز من عدم عودة جيني، فبعضهن تقول انها اتصلت بالشرطة في لندن واشتكت على حسن طالبة الطلاق فوراً، وأنها لاترغب في العودة الى بلدنا ويقولون أن الحج ميرزا وآته خان سيسافران الى لندن ليعيدا جيني والطفلين، ثم المشهد الأكثر لذة وحنكة هو وقوف سيارة أمام باب منزل آته خان بشكل مفاجئ، تلك السيارة التي كانت تقل حسن وجيني والطفلين.
لتبقى القصة مفتوحة، خاصة وأن هناك زائرة جديدة، هي حماة حسن.
الكتاب: كنة آته خان
المؤلف: كلاويز
الترجمة الى العربية: المؤلفة نفسها
مراجعة : مصطفى صالح كريم
من منشورات مؤسسة حمدي للنشر والتوزيع /السليمانية.[1]