#علي شمدين#
بعد أن استنزفت الفرص التي تهيأت للاستمرار في الثورة الكردية، وأخفقت المحاولات الرامية لإجهاض الاتفاقية التي حيكت في الجزائر بين النظامين العراقي والإيراني، والتي تم توقيعها بتاريخ (06-03-1975)، والقاضية بانهاء الدعم الإيراني للثورة الكردية، أعلن عن إنهيار الثورة ليظل الكرد في كردستان العراق أمام أحد أسوأ الخيارين: الانسحاب إلى داخل إيران أو الاستسلام للنظام العراقي، وحينها كان مام جلال موجوداً في الشام، فاستنفر كل جهوده وعلاقاته الدولية والإقليمية من أجل التخفيف من حجم تلك الكارثة التي حلت بالشعب الكردي في كردستان العراق، والمحافظة على روح المقاومة والاستمرار في الثورة.
فقد تهيأت للثورة الكثير من الفرص والمبادرات التي جاءت بشكل خاص من جانب (معمر القذافي وحافظ الأسد وأنور السادات ويفغيني بريماكوف..)، والتي كانت تصب كلها في إطار التشجيع على استمرار الثورة في مواجهة النظام الدموي في بغداد والاستعداد لتقديم كافة أشكال الدعم والمساعدات المادية والمعنوية والعسكرية، فإن الرئس الليبي معمر القذافي وخلال لقائه مع مام جلال أبدى استعداده الكامل لتقديم الدعم المالي اللازم لمتابعة الثورة ضد نظام صدام حسين، وكذلك الرئيس السوري حافظ الأسد هو الآخر التقى مام جلال ووعده بتأمين الأسلحة والذخيرة الممكنة، والسماح لهم بفتح المعسكرات التدريبية والمقرات في الشام والقامشلي وديريك، وإيواء مختلف قياداتهم السياسية والعسكرية، كما استعجل السوفييت أيضاً في الاتصال مع مام جلال ودعوته إلى موسكو والتعهد له بدعمهم إن استمروا في القتال ضد نظام بغداد، وقد التقى مام جلال بيفغيني بريماكوف الذي كان يعمل آنذاك مراسلاً لجريدة برافدا، ويذكر مام جلال في (دفاتر الثورة الكردية والعراق)، ويقول: (عندما التقيت بريماكوف في بيروت طلب مني مواصلة القتال وعدم الاستسلام لطلب الشاه، وقال أن الحركة الكردية باستسلامها ستسجل على نفسها كونها حركة عميلة وتابعة، وبمقاومتكم يمكننا التوسط بين الحركة الكردية وبغداد..).
ومع أن مام جلال حينذاك لم يكن يقود أي حزب سياسي، ولم تكن لديه أية مسؤولية في قيادة الثورة الكردية التي لم تستجب لتلك الفرص مع الأسف، سوى كونه عضواً في مكتب الشؤون العربية في بيروت، ولكنه مع ذلك وشعوراً منه بالمسؤولية التاريخية الملقاة على كاهله، وانطلاقاً من بعد نظره السياسي، وقراءته الدقيقة للأحداث وتطوراتها، فقد اتخذ قراره المصيري الذي غير مسار الأحداث خلال فترة قصيرة، وذلك عندما أدلى في بيروت بتصريحه الإعلامي بتاريخ (27-03-1975)، والذي دعا فيه إلى الاستمرار في المقاومة ومتابعة الثورة في وجه الطغيان، وقال بأنه سيعود في أقرب وقت إلى كردستان العراق من أجل شحذ همم المقاتلين ورفع معنوياتهم، وما شجعه أكثر على هذه الخطوة هو علمه بالتحركات التي بدأت بها (عصبة شغيلة كوردستان)، واستعدادها للمقاومة ومتابعة النضال داخل كردستان، والتي استشهد العشرات من كوادرها القيادية وأعدموا في سجون النظام الدموي ببغداد أمثال (شهاب شيخ نوري، وأنور زوراب وجعفر عبد الواحد)، الذين وكما يصفهم عادل مراد في كتاب (أصدقاء طليطلة)، فإنهم: (كانوا بمثابة دينمو الثورة الجديدة..).
لا شك بأن الموقف الإيجابي لكل من (معمر القذافي، وحافظ الأسد)، ودعمهما (المادي والعسكري)، اللا محدود لمام جلال كان له الدور الرئيسي الحاسم في تشجيعه على تغيير مسار المقاومة نحو الاعتماد عليهما وعلى الدعم السوفييتي بدلاً من الاعتماد على شاه إيران الذي خذل الثورة الكردية وخانها في منعطف خطير من نضالها التحرري، فقد كانت قراءة مام جلال للعلاقة مع حافظ الأسد تحديداً تنطلق من عمق التناقضات الاستراتيجية والخلافات الطائفية والقومية الجذرية التي كانت تفصل بين النظامين البعثيين في سوريا والعراق، والتي جعلت حافظ الأسد أقل حساسية تجاه القضية الكردية في العراق كما ذكره مام جلال في كتاب (لقاء العمر).
استقر مام جلال في الشام بعد انهيار الثورة الكردية، واتخذ منها منطلقاً رئيسياً للعمل من أجل تأسيس تنظيم سياسي يستوعب حجم اليأس والإنهيار الكارثي الذي خلفته اتفاقية الجزائر وراءها، فيراسل مام جلال (عادل مراد، وعبد الرزاق عزيز ميرزا)، ويدعوهما للمجيء من طهران إلى الشام، فيصلان إليه بتاريخ (07-04-1975)، كما دعا مام جلال الدكتور فؤاد معصوم أيضاً الذي كان حينذاك موجوداً في القاهرة كممثل للثورة الكردية، للحضور إلى الشام، وبعد وصولهم بدأت اللقاءات بين هؤلاء الأربعة حتى تمخضت في الأخير عن ولادة الاتحاد الوطني الكردستاني في الشام، وحول ذلك يقول عادل مراد في كتاب (أصدقاء طليطلة): (اتصل مام جلال من الشام بالعشرات من كوادر الشعب الكردي..
وبعد العشرات من الحوارات والاتصالات الهاتفية والرسائل والرسل والاجتماعات التداولية بين المؤسسين الأربعة ومئات الشخصيات الوطنية الكردية والعراقية والعربية الصديقة والحليفة، عقد الاجتماع الرسمي الأول بتاريخ 22-05- 1975، في مقهى طليطلة وسط الشام برئاسة مام جلال وحضور الدكتور فؤاد معصوم وعبد الرزاق عزيز وعادل مراد، وبعد نقاشات وتبادل الآراء قررنا ان نسمي التنظيم الجديد بالاتحاد الوطني الكردستاني..)، وبعد ذلك تواصل مام جلال مع كل من (د. كمال فؤاد، ونوشيروان مصطفى، وعمر شيخموس)، الذين كانوا متواجدين في أوربا، وأقنعهم بالإنضمام إلى الهيئة التأسيسة للاتحاد الوطني الكردستاني، فأصبح بذلك عددهم سبعة أعضاء.
وما أن وضعت اللمسات الأخيرة على البيان التأسيسي للاتحاد الوطني الكردستاني الذي أعده مام جلال في مقهى (طليطلة)، حتى بثته إذاعة صوت العراق من الشام بتاريخ ( 01-06-1975)، ونشرته أيضاً الصحافة السورية واللبنانية بكثافة، فأعطى البيان صدى مدوياً بين أبناء الشعب الكردي مزق شعور اليأس وفقدان الأمل الذي كان قد خيم عليهم إثر إنهيار ثورتهم بذاك الشكل التراجيدي المحزن، وبين أصدقائه والمؤيدين لقضيته العادلة في كل مكان، وكان البيان بمثابة صرخة قوية في وجه الطاغية صدام حسين الذي لم يوفر حينذاك حتى السلاح الكيمياوي إلا واستخدمه في إبادة شعبنا الذي بات يعيش كارثة حقيقية، وكان نداء مسؤولاً لشحذ همم المناضلين والبيشمركة، واستنهاض روح المقاومة والأمل لدى أبناء الشعب الكردي الذين باتت المشانق والسجون والمنافي والمهاجر تتقاذفهم بين أمواجها المخضبة بالدم.[1]