#علي شمدين#
التقى مام جلال خلال وجوده في الشام أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم برفقة عبد الرحمن ذبيحي، وكمال فؤاد (الذين كانوا حينذاك يمثلون الحزب الديمقراطي الكردستاني، ورئيسه البارزاني)، بالعديد من الشخصيات العربية، الحكومية منها وغير الحكومية، البارزة في الساحة السورية، للتباحث معها حول القضية الكردية، في سعي منه إلى اقناعها بعدالة هذه القضية وكسبها إلى جانبها والدعوة إلى حلها حلاً ديمقراطياً عادلاً، وكان عبد الحميد سراج إحدى أهم تلك الشخصيات التي التقاها مام جلال في الشام آنذاك.
حينذاك كان عبد الحمید السراج مسؤولاً عن الاستخبارات السوریة، وأحد الضباط المتنفذین فيها، وله علاقة مصاهرة مع الكرد الشاميين لأن زوجته كانت من (آل زلفو)، وصار يتمتع بدور خطير في إدارة البلاد في زمن الوحدة (السورية- المصرية)، وتسبب في قمع الشعب الكردي في سوريا، وملاحقة حركته السياسية بالسجن والملاحقة والاعتقال ومختلف أشكال الظلم والإضطهاد.
فيقول مام جلال في كتاب (لقاء العمر)، بأن السراج أبدى لهم خلال ذاك اللقاء الذي تم في عام (1957)، استعداده ومن دون أي تحفظ لدعم النضال الكردي في (العراق، وإیران، وتركیا)، ويذكر بأنه كان یجول في ذھنه مخطط لتحقیق تعاون كردي عربي في هذه الدول، ويضيف قائلاً: (ٔأما حول سوریا فقد كان لدیه مقترح آخر، وهو أن كرد سوریا لیست لدیھم رقعة جغرافیة متصلة وموحدة، وھم متفرقون ھنا وھناك وأعدادھم قلیلة.. وكان السراج یستحسن فكرة وجود حزب كردستاني تركي ولا مانع أن تكون مقراته داخل سوریا لیستقطب كرد سوریا أیضا، ویستطیع هذا الحزب أن یساعد سوریا أیضا ویدعم سیاساتھا..).
وبينما كانت الجهات الشوفينية تسعى بشكل مخطط ومدروس منع الكرد السوريين، بالترهيب والترغيب، من امتلاك أداتهم النضالية الخاصة بهم، والعمل بكل طاقاتها من أجل توجيه أنظارهم نحو خارج الحدود إهتداء بمخطط السراج واقتداء به، في هذا الوقت، ومنذ أن وطأت قدما مام جلال أرض الشام عام (1955)، ولقائه عن طريق الصدفة بكل من (أوصمان صبري، وعبد الحميد درويش)، ظل يشجع بناء الشخصية الإعتبارية للشعب الكردي في سوريا، ويدعو بكل إمكانياته من أجل إبراز خصوصيته القومية المستقلة، ومساعدة المؤسسين الأوائل من أجل تأسيس حزبهم الذي أعلن عنه رسمياً في (14-06-1957)، بعكس ما كان يخطط له السراج وأحفاده، وفي هذا الإطار يقول مام جلال في اللقاء الذي أجراه معه (علي كريمي)، والمنشور في كتاب (سيرة حياة عبد الرحمن ذبيحي)، بأنه: (في ذاك الوقت- أي أواسط الخمسينيات من القرن المنصرم- كان هناك فقط شخص وحيد في دمشق يعمل من أجل الكردايتي وهو المرحوم أوصمان صبري، وكان هناك أيضاً بين الشباب في القامشلي شاب نشيط.. واسمه عبد الحميد درويش، حقيقة كان هو أيضاً أحد الذين عمل بنشاط في هذا المجال..).
لم يتوان مام جلال ورفاقه، وخاصة (عبد الرحمن ذبيحي)، عن تشجيع المؤسسين الأوائل للتفكير جدياً في تأسيس حزب سياسي يمثل الشعب الكردي في سوريا، ويناضل من أجل رفع الظلم والاضطهاد القومي عن كاهله، وتحقيق طموحاته في بناء نظام ديمقراطي تسوده الحرية والعدالة والمساواة بعيداً عن الظلم والقهر والاستبداد، فقد كان الكرد في سوريا، حتى ذاك الوقت يفتقدون لمثل هذه الأداة النضالية التي تعبر عن طموحاتهم القومية والوطنية، فكانوا يعانون الإهمال والتجاهل والإنكار بين فكي كماشة النزعة الكوسموبوليتية للحزب الشيوعي السوري، والجهات الشوفينية العربية داخل السلطة وخارجها التي كانت تعتبر الكرد في سوريا مجرد مهاجرين عبروا الحدود إلى سوريا قادمين من تركيا بهدف إنشاء (إسرائيل الثانية)، وفي هذا الاتجاه يقول مام جلال في (لقاء العمر): (لم تكن توجد بين كرد سوريا حركة سياسية آنذاك، وكان الكرد بمعظمهم يميلون نحو الحزب الشيوعي، الذي لم يكن يعطي المجال لتأسيس أيّ حزب كردي، ونحن عن طريق العم أوصمان صبري، نجحنا في التأثير على بعض الشباب، ومن بين الذين أتذكرهم: عبد الحميد درويش، ونور الدين زازا وبعض الكرد الآخرين..).
فقد كان مام جلال يمتلك منذ البداية رؤية كردستانية واضحة، تتلخص في دعم ومساندة نضال الشعب الكردي في كل جزء من دون التدخل في شؤونه، والوقوف إلى جانب حركته السياسية وتمكينها من بلورة شخصيتها الاعتبارية وتحقيق أهدافها، ويمكن قراءة رؤية مام جلال الإستراتيجية تلك في هذه الحادثة التاريخية التي ذكرها سامي أحمد نامي في كتابه (صفحات من التاريخ المفقود)، عندما توجه مام جلال عام (1958)، من الشام إلى القامشلي يرافقه الدكتور نور الدين زازا (رئيس الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا)، لحشد التنظيمات والشخصيات الكردية الموجودة آنذاك في الساحة الكردية السورية وإقناعها للإنضمام إلى الحزب الجديد، فيلتقيان بتاريخ (28-11-1958)، في منزل الشاعر الكردي المعروف (أحمد نامي)، بجمع غفير من الرموز الثقافية والاجتماعية الكردية المعروفة آنذاك، حيث يتم
الترحيب بوجوده بينهم ضيفاً عزيزاً من كردستان العراق، فيبادر مام جلال إلى إلقاء كلمة مقتضبة يشكر فيها الحضور ويعبر عن امتنانه لحفاوة الترحيب به والاستقبال، وقال: (أنا لست ضيفاً، أنا اليوم في بيتي، بين أهلي ورفاقي، فعندما يذهب كردي من جزء كردستاني إلى جزء آخر، كمن ينتقل في بيته من غرفة إلى أخرى).
فظل مام جلال خلال علاقاته الكردستانية ملتزماً بهذه الرؤية الإستراتيجية حتى آخر يوم في حياته، ففي الوقت الذي لم يكن يعتبر نفسه غريباً عن بيته وأهله، ظل في الوقت نفسه حريصاً على احترام خصوصية كل غرفة وعلى حرمة ساكنيها وشخصيتهم الاعبارية.[1]