#علي شمدين#
لا شك أن موقف الرئيس (جمال عبد الناصر)، تجاه قضية الشعب الكردي في الشرق الأوسط عموماً، وفي العراق خصوصاً، والبصمة التي تركها مام جلال في بلورة هذا الموقف بشكله الصحيح الذي دفع بقضيته القومية إلى دائرة الأضواء، كانت بحق نقلة نوعية تاريخية جعلت من هذه القضية رقماً مهماً في المعادلات السياسية التي شهدتها المنطقة خلال أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن المنصرم، ولهذا لم يمر موقف الرئيس عبد الناصر من القضية الكردية في كردستان العراق وأسلوب حلها، هكذا من دون تحديات وصعوبات، وإنما شهد جدلاً شديداً، داخل الوسطين الكردي والعربي، هذا الموقف الذي لخصه فؤاد عارف في مذكراته التي قدم لها المؤرخ كمال مظهر، قائلاً: (لقد أوضح لنا جمال عبد الناصر رأيه صراحة خلال لقائنا به- أنا وجلال الطالباني- بأن للكرد حقاً في الصيغة التي يرتؤونها لحياتهم ماداموا لا يريدون ولا يطالبون بالانفصال عن العراق، ومن المفروض أن تمنحهم الحكومة العراقية حق اختيار الأسلوب الذي يريدون العيش به، وكان يؤيد فكرة الحكم الذاتي للشعب الكردي..).
ففي الوقت الذي انقسم فيه الرأي العام العربي بين مؤيد لموقفه، وقد مثله أنصاره ومؤيدوه في العالم العربي، الذين كانوا يدعون إلى حل هذه القضية بالسبل السلمية تحت شعار التآخي العربي الكردي، بما فيه منح الكرد حكماً ذاتياً في إطار وحدة العراق، الأمر الذي ينزع ورقة هامة من يد دول الجوار المتربصة بدولة العراق، ويحصنها ضد التدخلات الخارجية، في هذا الوقت كان هناك المعارضون من هذا الوسط الذين لم يهتدوا إلى حل لهذه القضية سوى الحل العسكري، وهم المسكونون بهاجس انشاء الكرد لإسرائيل الثانية وبالتالي تقسيم العراق وغيرها من الهواجس الشوفينية التي تذرع بها المعادون للشعب الكردي وخاصة البعثيين منهم في سوريا والعراق الذين برروا بهذه الهواجس جرائمهم الدموية التي يندى لها جبين البشرية ضد الشعب الكردي.
بينما كان الوسط الكردي بعمومه يرحب بهذا الموقف الفريد الذي أبداه عبد الناصر تجاه قضية شعبنا في العراق، وكان مام جلال يمثل هذا الرأي مستنداً إلى تخويل حزبه له وثقة رئيسه البارزاني به، فنجح في نقل مطالب الكرد إلى عبد الناصر كزعيم عربي من دون منازع، وتمكن من وضعه في الصورة الصحيحة لقضية شعبه، وإقناعه بضرورة حلها سلمياً، فيقول دانا آدم شميدت في كتابه (رحلة إلى رجال شجعان في جبال كردستان)، ما يلي: (لقد استطاع جلال طالباني أن یعرف العرب بقضیتھم القومیة وتلقي الدعم من شخصیات عربیة مؤثرة مثل عبد الناصر وبن بیلا، وأن ذلك الموقف من طالباني كان دلیلا على ذكائه وبعد نظره..).
ولكن بالرغم من ذلك فإن الوسط الكردي لم يخل مع الأسف الشديد هو الآخر من هذه الأصوات المعارضة للرئيس عبد الناصر، وخاصة (الحزب الديموقراطي الكردي في سوريا)، الذي وقف مع الحزب الشيوعي السوري في خندق واحد ضد عبد الناصر، وضد الوحدة التي انجزها بين مصر وسوريا، فيقول عبد الحميد درويش في كتابه (أضواء على الحركة الكردية في سوريا)، حول موقف حزبه من عبد الناصر: (ومهما تكن الأمور فقد وقف حزبنا موقفاً سلبياً من حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وفي موقفه هذا كان قريباً من موقف الحزب الشيوعي السوري، ومتأثراً به..).
فلم يأخذ الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا، موقف عبد الناصر الإيجابي آنذاك بعين الاعتبار، والذي كان من الممكن الاستفادة منه في التخفيف من معاناة الشعب الكردي في سوريا أيضاً، بدلاً من تعرضه لذاك العنف الشديد الذي واجهه به عبد الحميد سراج وزبانيته في المكتب الثاني، الذين نكلوا بكوادر حركته السياسية من دون رحمة، وزجوا بمناضليه في السجون والمعتقلات ومارسوا بحقهم أسوأ أشكال القمع والترهيب، ونفذوا مختلف السياسات الشوفينية والمشاريع العنصرية في المناطق الكردية بهدف إجراء التغيير الديموغرافي وإنهاء الوجود الكردي فيها، ولهذا يتابع عبد الحميد درويش قوله في كتابه الآنف الذكر: (أعتقدُ بأن حزبنا ارتكب خطأً كبيراً في موقفه السلبي ذاك من حكم الرئيس جمال عبد الناصر، وإن لم تسجل اللجنة المركزية في قراراتها مثل هذا الاعتراف بهذا الخطأ، وكان يمكن الوصول إلى نوع من التفاهم مع سلطات جمال عبد الناصر الذي كان يدعو إلى تفهم المطامح المشروعة للشعب الكردي، والاستجابة لحقوقه القومية بشكل سلمي، بدلاً من قمعه، كما كان يفعل حكام العراق وقتذاك..)، وقد تلقت قيادة الحزب وكوادره بنتيجة هذا الموقف الخاطئ ضربة قاصمة، قصمت في النتيجة ظهر الحزب، وتسببت في ظهور الخلافات المتراكمة دفعة واحدة داخل السجن، ودفعته إلى اختبار عسير يفوق طاقته، فتفجرت تلك الخلافات المشؤومة بين رئيس الحزب (#نور الدين زازا# )، وعضو المكتب السياسي (أوصمان صبري)، حول جدوى الدفاع أمام المحكمة عن شعار (تحرير وتوحيد كردستان)، هذه الخلافات التي مهدت في الأخير لانشقاق الحزب في عام (1965)، والتي أدخلته في دوامة من الانشقاقات المتتالية والتي دفعت الحركة الكردية في سوريا بنتيجتها ولازالت ثمناً باهظاً .
وبالرغم من أن موقف الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا آنذاك جاء متوازياً مع موقف الشيوعيين ومع موقف الانفصاليين في الوقت نفسه، إلا أن الكرد لم ينجوا حتى من غضب هؤلاء أيضاً، لا بل كانت ردة فعل الانفصاليين أقوى وأشد تجاه تنامي دور الحزب بين الجماهير الكردية في سوريا، وتجاه توسع دائرته التنظيمية والسياسية، وهم أنفسهم الذين أرسلوا لواء اليرموك بقيادة الضابط السوري (فهد الشاعر)، إلى كردستان العراق بهدف المشاركة مع الجيش العراقي للقضاء على الثورة الكردية هناك، وهم أيضاً الذين نفذوا مشروعي (الإحصاء الاستثنائي، والحزام العربي)، ولا يزال أحفادهم ينفذون سلسة من المشاريع الهادفة إلى إنهاء الوجود الكردي، حلقة إثر حلقة...[1]