شهد عام 1923 واحدة من أكبر جرائم القرن العشرين، ارتكبتها كافة “الدول المتحضّرة”، المنتصرة والمهزومة في سلسلة الحروب الكبرى من حرب البلقان 1913 وحتى نهاية الحرب اليونانية التركية عام 1923. فبموجب معاهدة لوزان، تم إجراء تبادل سكاني بين الجمهورية التركية الناشئة والدولة اليونانية، برعاية رئيسية من بريطانيا التي كانت تريد دولاً قومية في الفضاء العثماني السابق. ولتحقيق ذلك، كان يجب التقليل من التنوع الاجتماعي والديني في الدول الحديثة لتحقيق الانسجام القومي.
بهذه الرؤية البدائية البريطانية تم التوقيع على المعاهدة وترحيل /1.5/ مليون من الروم الأرثوذكس من الأناضول الغربية، موطنهم التاريخي، إلى الريف اليوناني. في المقابل، تم ترحيل نحو /500/ ألف مسلم تركي من أنحاء اليونان إلى الأناضول.
جاءت هذه المعاهدة على أنقاض معاهدة سيفر التي تم التوقيع عليها عام 1920. في هذه الأخيرة رسمت الدول المنتصرة في الحرب، بشكل مشوّه، خرائط لمشاريع تأسيس مناطق نفوذ لتأسيس دويلات على أنقاض الدولة العثمانية. الأمر الملفت في الانتقال الدولي من سيفر إلى لوزان، ليس انتصار مصطفى كمال في حرب التحرير، فقد كان بالإمكان إيقافه في مرحلة ما لولا تجاوزات اليونان على الرؤية البريطانية. من هنا يصف عبدالله أوجلان الموقف البريطاني في رعاية معاهدة لوزان وإنهاء سيفر بأنه “تغيير في الموقف انطلاقاً من مصالح النظام” (القضية الكردية – ص 156). وما كان بإمكان بريطانيا وفرنسا أن تمنعا عدم تحكم روسيا بعدد من الدويلات المقترحة، فضلاً عن مشكلة من يكون سيد اسطنبول والمضائق. فكان الاستمرار في المعاهدة يرسم ملامح حرب عالمية ثانية بين الأطراف المنتصرة في الحرب الأولى.
الدولة الكردية المقترحة في تلك المعاهدة (سيفر) ولسبب غير معلن يضرب بتأثيره إلى اليوم، حيث تم حصر مشروع الدولة الكردية المستقبلية في منطقتين متلاصقتين، الأولى خاضعة للنفوذ البريطاني المباشر، ومركزها جزيرة بوطان، تحت قيادة آل بدرخان، والقسم الآخر ضمّ دياربكر وامتد غرباً حتى نهر الفرات، وبات هذا الجزء يوصف في المراسلات الدبلوماسية والاستخباراتية البريطانية ب”غرب كردستان”.
ما يلفت في هذه المعاهدة، أي “سيفر”، أنه، إضافة إلى وان وكامل سرحد، تم إخراج المنطقة الكردية الواقعة غرب الفرات من خريطة كردستان، وتحديداً المستطيل الطولي المحاذي للضفة الغربية من الفرات، من سيواس مروراً بملاطية ثم أديامان وصولاً إلى عفرين. كما تم إلحاق منطقة كردستان الجنوبية بالعراق. يستند أوجلان إلى هذه المعطيات في قوله إن معاهدة سيفر تم تطبيقها جزئياً، وألحقت أجزاء منها ب”لوزان”، ومستمرة إلى اليوم.
في تركيا اليوم، ما زالت كلا المعاهدتين (سيفر ولوزان)، يحتلان موقعاً متقدماً في الخطابات الأيديولوجية للأحزاب التركية. ويمكن في هذا الإطار تحديد أربعة تيارات في المشهد السياسي التركي.
أولاً:
حزب العدالة والتنمية، في عهد السلطة المنفردة لأردوغان، بات يتمحور حول معاهدة لوزان من حيث التأسيس لتجاوز هذه المعاهدة، أي إما تعديلها أو إلغاءها. ويروج الإعلام المحسوب على أردوغان لتضليل فج بالقول إن عمر المعاهدة /100/عام وستنتهي في 2023، وأن على تركيا الاستعداد للكفاح من أجل البقاء.
ثانياً:
حزب الحركة القومية مؤسَّس على الهلع التاريخي من إعادة فرض معاهدة سيفر، سواء الجزء القومي المتعلق بالكرد والأرمن، أو الجانب الديني المرتبط بالروم الأرثوذكس.
ثالثاً:
حزب الشعوب الديمقراطي، الباحث عن استعادة روح معاهدة سيفر وليس تقسيماتها الجغرافية المباشرة. بمعنى استيعاب طروحات سيفر ضمن دولة وطنية واحدة تدير التنوع القومي والديني من باب الاعتراف وليس الإبادة.
رابعاً:
حزب الشعب الجمهوري، الذي يعتبر اتفاقية لوزان جوهرة الدولة التركية، أو كما وصفها كمال كليجدار أوغلو “طابو للأرض التركية”.
روسيا ضد لوزان
أعاد أردوغان إثارة الجدل حول#معاهدة لوزان# ، منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز 2016. ففي خريف ذلك العام، شن الرئيس التركي هجوماً مفاجئاً على تلك المعاهدة، واستهجن اعتبارها نصراً لتركيا.
منذ ذلك التصريح، بات البحث عن طريقة لتجاوز لوزان هاجساً لأردوغان. ففي زيارة له إلى اليونان، في السابع عشر من كانون الأول/ديسمبر 2017، فتح أردوغان ملف لوزان مجدداً، زاعماً أن هناك بنوداً غير واضحة في المعاهدة، وهذا يتطلب “تحديث المعاهدة”.
هنا الجانب الذي يريده أردوغان في تجاوز لوزان يكمن في ثروة الغاز شرق المتوسط. فمحيط الجزر التي أقرتها المعاهدة لليونان في بحر إيجة تعد منطقة غاز حديثة، وبنود المعاهدة تقيّد قدرة تركيا على التنقيب بشكل قانوني شرق المتوسط. لكن الشهر الماضي، تراجع الرئيس التركي خطوة إلى الخلف، ففي رسالة له بمناسبة الذكرى ال/96/ لتوقيع المعاهدة (24-07-1923)، أشاهد بالمعاهدة باعتبارها “وثيقة استقلال تركيا” وتتويجاً لانتصارات حروب الاستقلال (1919 – 1922). يمكن التقاط مؤشر دولي حول التباين في مواقف حزب العدالة والتنمية في نسخته الأردوغانية (مرحلة ما بعد أحمد داوود أوغلو)، وهو أن الخطاب المناهض للوزان يلقى المساندة من روسيا، ومن انعكاساتها عرض روسيا مرافقة سفن التنقيب التركية في البحر المتوسط، كذلك الاحتلال لعفرين، الذي يعد خروجاً عن الحدود المرسومة في لوزن ثم اتفاقية أنقرة عام 1926.
أما حين يعتبر أردوغان المعاهدة “وثيقة للاستقلال” فيأتي في سياق خطاب التقارب مع الولايات المتحدة. وحزب العدالة منقسم داخلياً بين تيارين؛ الأوراسي الموالي لروسيا، والأطلسي الموالي لحلف الناتو، وهذا ما يستحق وصفه ب”الفوضى الاستراتيجية”. (من المفيد هنا الاطلاع على مساهمات الكاتب فرهاد حمي حول هذا الملف). يمكن إيجاز شرح التباين في معاني الأوراسية والأطلسية، أن الأولى تدفع تركيا للتوسع والاحتلال، وليس مثال ذلك فقط عرض مرافقة سفن التنقيب، بل في تكريس شرعية الوصاية التركية على إدلب وكل شمال حلب الخاضعة للاحتلال التركي المباشر. أما الاتجاه الأطلسي، فرغم منحه الدعم لتركيا في حروبها الداخلية ضد الكرد، تاريخياً، إلا أن هناك عواقب كبيرة لمحاولات تجاوزها لوزان، على الأقل فرض عقوبات جادة كما حدث لمدة عشر سنوات حين غزت أنقرة الجزء الشمال من قبرص عام 1974، فضلاً عن دخول الولايات المتحدة الشهر الماضي، رسمياً، كطرف مساند لمصر واليونان وقبرص حول التنقيب عن الغاز شرق المتوسط، في رسالة ملتوية و”طويلة البال”، على الطريقة الأطلسية، لأي تجاوز تركي.
كابوس “سيفر”
اتسم خطاب الحركة القومية تجاه الوحدة الأوروبية، منذ أن كانت ذات طابع اقتصادي في السبعينيات، بالعداء والحذر الشديد. خلال هذه الفترة، السبعينيات، أعلن ألب أرسلان توركيش، موقفه الرافض للسوق الأوروبية المشتركة “لأنه سيؤدي بشكل غير مباشر إلى تفعيل معاهدة سيفر من خلال السمح للأجانب بشراء الأراضي والحصول على المزايا في أي جزء يريدونه من البلاد” (الاقتباس من دراسة لشرمين كوركوسوز). فكان الاتحاد الأوروبي بالنسبة للحزب، امتداداً لدول الحلفاء في الحرب العالمية الأولى. وخلال مسيرته، حاول الحزب حصر تعريف الاتحاد الأوروبي المرغوب فيه، في الإطار الاقتصادي، أو كمنظمة اقتصادية تدفع لتركيا المنح المالية بدون أن تطلب ثمناً في المقابل.
حين تم قبول ترشيح تركيا للاتحاد الأوروبي، عام 1999، خلال قمة هلسنكي، كان حزب الحركة القومية شريكاً في الائتلاف الحكومي. فتغيرت نبرة رئيس الحزب دولت بهجلي، وبات يتحدث عن “إعادة اكتشاف الأهمية الجيوسياسية والجغرافية لتركيا التي تمت الاستهانة بها في فترة ما بعد الحرب الباردة” ، و”الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى تركيا لتحقيق الاستقرار المنشود في منطقة القوقاز، البلقان والشرق الأوسط ” (شرمين – 13)، وبات موضوع الاتحاد الأوربي يترنح بين مستويين من الخطاب؛ الترحيب بتطلعه لقبول تركيا، والتنديد بعنصريته حين يشدد المعايير، لكنه بات يصبح خارج دائرة العدو صاحب مشروع تقسيم تركيا، ووكيل معاهدة سيفر. لكن مع خروج الحزب من البرلمان، بعد انتخابات 2002، وتركيز الاتحاد الأوروبي على قضايا حقوقية، مثل محاكمة أوجلان، عاد بهجلي إلى تقديم الاتحاد الأوروبي كعدو و”المتطلع إلى تحقيق أحلام بيزنطة” (شرمين – 13)، وتخللت هذه الاتهامات انتقادات مشابهة ضد حزب العدالة والتنمية، الذي كان باهجلي يعده امتداداً لحزب الحرية والائتلاف، الذي كان يدير الحكومة العثمانية في اسطنبول حين احتلها الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى، ووقع على معاهدة سيفر.
قبل تدشين التحالف بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، في الانتخابات البرلمانية المبكرة عام 2015، او ما يعرف في تركيا بالتحالف بين يمين الوسط وأقصى اليمين، كان حزب العدالة متهماً من قبل حزب الحركة القومية بالعمل على إعادة اتفاقية سيفر والتمهيد لتقسيم تركيا.
منذ تأسيسه عام 1969، صاغ حزب الحركة القومية خطابه الأيديولوجي حول المؤامرات السوفييتية والأطلسية لاستعادة “معاهدة سيفر” وإلغاء لوزان. بهذا المعنى، بقي الحزب متحركاً في اتجاهين غير منضبطين، فمن جهة كرّس رؤيته لمحاربة كل المظاهر السياسية والاجتماعية التي تذكّر بمناخ سيفر، وبالتالي الحفاظ على مكتسبات لوزان، ومن جهة ثانية تبنّى التفسير القومي المشوّه ل”الميثاق الملي” الذي تم إقراره عام 1920 في البرلمان العثماني، ورسم حدود الدولة بما يشمل شمال سوريا بالكامل والموصل وكركوك بما في ذلك إقليم كردستان العراق وكامل جزيرة قبرص. فهو بهذا المعنى يتلاقى مع أردوغان فيتويع الحدود، لكنه أكثر حذراً في إمكانية ارتداد هذا التوسع ضد تركيا. فالحزب وفق سلوكياته الميدانية، لديه رؤية في الجريمة، وهو إما أن يرتكبها سراً أو وفقاً للقانون. ومظلة القانون توفر مساحة واسعة للجرائم، بما في ذلك الإبادة الجماعية والترحيل الجماعي لمئات الآلاف من السكان غير المرغوب فيهم. لكن، في لحظة ما، حين يكون تجاوز لوزان يحمل معه إمكانية فرض سيفر من جديد، على الأرجح أن يكون دولت باهجلي أقل اندفاعاً من أردوغان، وقد يعمل على إعادته للخلف رغم أن البرنامج المعلن للحزبين تعطي التفوق للحركة القومية في النزعة العنصرية وعقلية الإبادة. لكنه سيفعلها من موقعه الجديد كداعية للتوجه الأوراسي الذي لم يكمله أردوغان بعد. فخلال الأيام القليلة الماضية، قدم إشارات متناقضة للغاية، منها استقباله للرئيس الأوكراني وإعلانه أن تركيا لن تعترف أبداً بالاحتلال الروسي لشبه جزيرة القرم، وإعلانه كذلك عن بناء أول كنيسة في تاريخ الجمهورية التركية، وهي مخصصة للطائفة السريانية الأرثوذكسية. اختيار أردوغان لهذه الطائفة لبناء أول كنيسة التفاف ذكي على حليفه باهجلي. فالأخير يركز مخاوفه على طوائف الأرمن واليونانيين كأدوات ل”سيفر”، وليس السريان الأرثوذكس. ومن ناحية أخرى، يأتي هذا القرار في سياق الاتجاه نحو روسيا التي ربما يعتقد أردوغان أنها- أي روسيا- تعبير امبراطوري للأرثوذكسية. قد يكون المعطى الأخير، أي بناء الكنيسة كإجراء ترحيبي بروسيا، كافياً، بشكل مؤقت، لإسكات باهجلي، المتخوف لدرجة الهلع من فتح تركيا أمام المسيحية وإحياء ما يسميه باهجلي “حلم بيزنطة”.
ظلال آيا صوفيا
في قصة ذات مغزى، يروي الكاتب “سليم كورو” مناخ التحول في حزب الحركة القومية قبل التحالف مع حزب العدالة، وكيف استدرجه الأخير منذ عام 2011. ففي ذلك العام، كانت البلاد تحضر للانتخابات العامة حين التقى كورو بشابين من الحركة القومية وكان يبدو عليهما القلق والتجهم. فسألهما: ما الأمر؟ قال أحدهما: “هناك إشاعات أن حزب العدالة والتنمية سيفتتح آيا صوفيا أمام المصلّين”. فتساءل كورو بينه وبين نفسه: ألا يفترض أن يكونا سعيدين؟ فأمثالهما مستعدون لتنظيف آيا صوفيا بفرشاة الأسنان إذا كان حقاً سيتم افتتاحه مجدداً. أجاب الشاب الآخر: “حسناً، إذا فعلها حزب العدالة والتنمية، حقاً لا نعرف كيف لن نصوّت له في الانتخابات”.
يبقى هذا التحالف الحاكم، بين حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية، قائماً على توافقات غير محسومة بعد، حول التخلص من دائرة الأطلسي. وإلى حين الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023، سيعمل أردوغان وباهجلي معاً تحت شعار أن أفضل طريقة لدفن “سيفر” تحت طبقة أخرى من المجازر هو العمل على تجاوز “لوزان”.
*المصدر : NP
*الترجمة: المركز الكردي للدراسات.[1]