د.هوچين عزيز*
أعلنت #الإدارة الذاتية# لشمال وشرق سوريا أنها ستبدأ محاكمة الآلاف من مسلحي تنظيم داعش، الذين تحتجزهم منذ عام 2019. وسبق للإدارة أن أعلنت عام 2020 عن تنظيم محاكمات مماثلة رفقة مراقبين دوليين برعاية الحكومة السويدية، غير أن جهودها تلك لم تنجح. اتُخذ القرار في ضوء تحمل الإدارة عبء احتجاز وإسكان وإطعام سجناء داعش، وعبء السيطرة على أخطر منظمة في العالم داخل الأراضي التي مزقتها الحرب على مدى الأعوام الخمسة الماضية. ومع ذلك، فإن الإدارة الذاتية ليست دولة ولا تعقد معاهدات تسليم المجرمين ولا تسيّر رحلات جوية، كما لا تملك القدرة المالية لاحتجاز المعتقلين لفترات طويلة أو لإعادتهم إلى بلدانهم الأصلية.
يطرح قرار محاكمة عناصر التنظيم تساؤلاتٍ بشأن الكيفية التي سيتم فيها ذلك، في ضوء نقص الدعم القانوني والمادي الدولي. على الرغم من ذلك، هناك حاجة ماسة إلى إيجاد حل، لأن روجآفا ضحّت بالفعل أكثر من أي مجتمع آخر، لضمان إعفاء العالم من مواجهة التنظيم في ساحاته الخلفية. وعند النظر في وضع الإدارة الذاتية والتأثير الإنساني المستمر للحرب ضد التنظيم والقصف التركي المستمر والتطهير العرقي للمنطقة، فإن جهود الإدارة المتواصلة في قيادة القتال ضد التنظيم أمر ملفت. ومع ذلك، هناك شكوك بشأن مدى نجاح عملية تقديم مقاتليه للعدالة من دون دعم ومساعدة دوليين حقيقيين، لاسيما فيما يتعلق بعودة المقاتلين إلى بلادهم.
تتمسك الإدارة الذاتية بالحاجة الملحة لتوفير العدالة لضحايا التنظيم. وبينما تحتدم النقاشات القانونية الدولية بخصوص أفضل السبل القانونية والإنسانية للتعامل مع المسلحين المحتجزين، تتواصل معاناة ضحايا التنظيم.
اعتقال الآلاف من المسلحي الخطرين
بحلول 2019، عندما أعلن التحالف الدولي القضاء على الخلافة المزعومة، احتجزت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أكثر من عشرة آلاف مقاتل بالإضافة إلى عائلاتهم. تم القبض على غالبية المقاتلين وعائلاتهم في المعركة الأخيرة بالباغوز في مارس/آذار 2019، والتي كانت آخر معقل ل«داعش». في الوقت الحالي يتم إيواء المقاتلين في معسكرين، العائلات في مخيم الهول والمقاتلين في مخيم الروج. ولا تزال المخيمات تشكل بيئة أمنية خطرة وأرضاً خصبة للجيل القادم من التنظيم.
تفرض الموارد المالية والأمنية للاستمرار في احتجاز مثل هذا العدد الكبير ضغوطاً كبيرة على الإدارة الذاتية. بالإضافة إلى ذلك، تضم المنطقة أكثر من مليون نازح من مناطق سورية أخرى أجبر سكانها على الفرار من الصراعات المستمرة في خضم الحرب الأهلية السورية.
جادل نائب منسق مكافحة الإرهاب في مكتب مكافحة الإرهاب بوزارة الخارجية الأمريكية إيان موس، في اجتماع خاص في المجر، بأن الوضع في مرافق الاحتجاز والمعسكرات هو آمن، وأن الأزمة الإنسانية ستستمر في التفاقم إذا لم يتم فعل أي شيء لمعالجة الوضع. وأشار موس كذلك إلى أن أكثر من عشرة آلاف مقاتل محتجزون من قبل الإدارة الذاتية وحدها، وأن هذه الأعداد تشمل حوالى خمسة آلاف سوري وثلاثة آلاف عراقي ونحو ألفين من خارج سوريا والعراق.
وتكمن حساسية الوضع ليس فقط من جرّاء المخاوف الأمنية المستمرة التي يمثلها آلاف الإرهابيين المحتجزين على سكان روجآفا ممن أصيبوا بصدمات الحرب في مجتمع متعدد الأعراق والديانات، ولكن أيضاً لأن العديد من المعتقلين قصّر. يتم احتجاز غالبية المقاتلين في مراكز احتجاز بنيت خصيصاً لهم، بينما تم توزيع البقية على حوالى عشرين منشأة أخرى. وتشمل هذه المرافق مدارس ومراكز مجتمعية لضمان معاملة المسلحين معاملة إنسانية وفقاً لقوانين ومعايير حقوق الإنسان الدولية. ومع ذلك، فإن العديد من المقاتلين الذكور المحتجزين في هذه المرافق تقل أعمارهم عن 18 عاماً.
على الصعيد المدني، بلغ العدد الإجمالي لأهالي المقاتلين وأطفالهم 56 ألف شخص. تحتجز هذه العائلات، بما في ذلك زوجات المقاتلين وأطفالهم، في مخيم الهول، أكبر معسكر في الأراضي الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية. ومن بين هذه الأعداد، هناك 28000 مواطن عراقي وأكثر من 18000 مواطن سوري وأزيد من 10000 مقاتل من أكثر من 60 دولة حول العالم. كما أن عدداً كبيراً من أولئك الذين يعيشون في مخيم الهول هم أيضاً دون سن 18 عاماً.
المخاوف الأمنية مستمرة
يرتفع منسوب المخاوف الأمنية في ظل محاولات متعددة من قبل خلايا داعش النائمة، وهجمات الطائرات التركية من دون طيار للمساعدة في تحرير المقاتلين في مرافق الاحتجاز. في يناير/كانون الثاني هذا العام، شارك في الهجوم الأخير أكثر من 200 من مقاتلي التنظيم الذين شنوا هجوماً لمدة أسبوع على حي غويران الذي يوجد فيه سجن الصناعة بالحسكة. وبحسب التصريحات الرسمية لقوات سوريا الديمقراطية، اعترف المسلحون المعتقلون بأنه تم التخطيط للهجوم منذ أكثر من ستة شهور، إذ تواطأ الكثيرون وأتوا سويةً من مناطق سرى كانيه (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) المحتلة من قبل تركيا. في شمال سوريا، هاجم المسلحون موظفي مركز الاحتجاز بمن فيهم حراس أمن وطاقم طبي وطهاة وعمال نظافة، إذ ساعد مقاتلون من التنظيم في الخارج من كانوا في الداخل وممن قاموا بقتل حراس السجن والاستيلاء على أسلحتهم، وقتذاك شن التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، ضربات جوية على المباني المحيطة بالمنشآت في محاولة لدعم محاولات قوات سوريا الديمقراطية لوأد الهجوم.
أما الوضع في مخيم الهول مع عائلات الجهاديين، فليس أكثر أماناً. ووقعت عدة عمليات تمرّد و24 جريمة قتل موثقة، بما في ذلك قتل حراس وعمال إغاثة، وأيضاً هجمات بالسكاكين (ومنها ضد منشقين داخل المخيم) وحرائق افتعلتها جهاديات. ودفعت هذه الأحداث، بما في ذلك الافتقار إلى الوسائل الأمنية والمالية الكبيرة، الإدارة الذاتية للاستمرار في المطالبة بالدعم الدولي الذي تم تجاهله حتى الآن.
علاوة على ذلك، يجب الحد من دور تركيا المستمر في دعم مقاتلي «داعش» بالأسلحة والمعونات الطبية، فضلاً عن الدعم الاستراتيجي والأمني ومعالجة الأمر من قبل المجتمع الدولي. على الرغم من مئات الحالات الموثقة للدعم التركي منذ 2014، ظل المجتمع الدولي والتحالف المناهض للتنظيم صامتاً إلى حد كبير في هذا الصدد. يؤدي تقويض أنقرة المستمر لجهود إنهاء الخلافة المزعومة واعتقال مسلحي التنظيم إلى تقوية التنظيم الإرهابي بما في ذلك العديد من الخلايا النائمة في العراق وسوريا. كذلك، ينبغي أيضاً التعامل بقلقٍ بالغ مع عمليات جمع تركيا المستمرة لمقاتلي التنظيم السابقين في منطقة عفرين وتغيير واجهتهم الإيديولوجية تحت ستار الفصائل الإسلامية المختلفة. استخدمت تركيا أيضاً الأسلحة الكيميائية والضربات الجوية والغزو البري لاحتلال أراضي الإدارة الذاتية، ما أدى إلى نزوح ما يقرب من مليون مدني عن منازل أجدادهم ضمن عملية تطهير عرقيّ.
الجانب الإنساني
فيما يتعلق بالشق الإنساني، أعربت منظمات حقوق الإنسان عن المخاوف بشأن القصّر المحتجزين في المرافق واعتبرت ظروفهم انتهاكاً للقوانين الدولية. وبحسب منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف)، فإن عدد الأطفال داخل سجن الصناعة يبلغ نحو 850 طفلاً. وطالب تقرير للأمم المتحدة في 2021 إعادة العديد من النساء والأطفال الأجانب المحتجزين بشكل عاجل إلى بلدانهم. كذلك، جادلت يونيسيف بأن الأطفال المحتجزين «لا يحصلون على الخدمات الأساسية بما في ذلك الملابس الدافئة والنظافة والصحة والتعليم والغذاء». وبحسب منظمة «أنقذوا الأطفال»، يضم السجن أكثر من 7300 طفل. وقدمت المنظمة تنبؤاً رهيباً بأنه ما لم يقم المجتمع الدولي بتسريع عمليات الإعادة، يمكن أن يظل العديد من هؤلاء الأطفال عالقين في مثل هذه المخيمات لأكثر من 30 عاماً.
مما لا شك فيه أنه من المهم معاملة عائلات وأطفال التنظيم بطريقة إنسانية، وأنه ينبغي تحقيق العدالة التصالحية المناسبة والسريعة والعودة إلى بلادهم. ومع ذلك، تنصّل المجتمع الدولي من مسؤولياته تجاه هذا الأمر، ولم يكن هناك إلا القليل من الدعم المالي أو القانوني أو الإنساني للإدارة الذاتية لضمان محاكمة المسلحين وعائلاتهم من دون تأخير وإعادتهم إلى بلدانهم وإطلاق العدالة التصالحية.
هناك قضية أخرى مقلقة وهي أن المخيمات تأوي العديد من النساء والفتيات الإيزيديات اللائي وقعن في العبودية بسبب هجوم «داعش» عام 2014 على معقل الإيزيديين في شنكال (سنجار). تم إنقاذ عدد من الفتيات الإيزيديات من براثن المتطرفين، لكن منظمات حقوق الإنسان تخشى أن العديد من الفتيات مازلن يتعرضن للترهيب أو لغسيل الدماغ. تحدثت النساء اللواتي تم إنقاذهن عن خوفهن من النساء المتطرفات اللائي أرهبوهن لإسكاتهن وتهديدهن بالقتل وقطع رؤوسهن إن اخترن التعريف عن نفسهن كإيزيديات.
في حين أن الظروف الإنسانية تتطلب الاهتمام بهذه المخيمات، فمن الواضح أن العديد من النساء المتطرفات لسن ضحايا أبرياء للتنظيم الإرهابي ويواصلن بنشاطٍ تربية أطفالهن على التطرف. وفي حين أنه في ظل الظروف المثالية ستتم إعادة هؤلاء النساء والأطفال وإعادة تأهيلهم في المجتمع، فإن الواقع أكثر تعقيداً بكثير من مجرد اعتبار هؤلاء النساء ضحايا. يجب تغيير منحى الدراسات الدولية التي تنظر إلى الدور التقليدي ومكانة النساء والقصّر لدى «داعش» على أنهم ليسوا أكثر من ضحايا للحرب والإرهاب واعتبارهم تالياً داعمين، فعلياً ومعنوياً ومالياً، للخلافة المزعومة فضلاً عن شغلهم مناصب أمنية وتورطهم بالتعذيب.
العبء المستمر على الإدارة الذاتية
تواجه الإدارة الذاتية منذ عقدٍ تحديات الحرب على التنظيم والتأثير الاقتصادي والإنساني للحرب الأهلية السورية. وأدى الإغلاق المنتظم للحدود العراقية والتركية مع الإدارة إلى حدوث أزماتٍ إنسانية هائلة، إذ يعاني كثيرون من الفقر المدقع والظروف الاقتصادية الصعبة. إن وجود مئات آلاف النازحين من جميع أنحاء سوريا وعفرين المحتلة من قبل تركيا يعني انتشار عشرات المخيمات التي تأوي هؤلاء، في وقتٍ يتوجب أن توجّه المساعدات إليهم. ومن المثير للاهتمام أن جميع المساعدات والدعم الدولي الرسمي تتجاوز روجآفا ويتم تسليمها إلى نظام الأسد الذي يوزعها وفقاً لمصالحه وأجنداته الخاصة، فيما لا تتلقى روجآفا سوى القليل من المساعدات الدولية على الرغم من جهودها الكبيرة في القضاء على تنظيم داعش وتقديم الدعم الإنساني للسكان والنازحين.
حتى الآن، بذلت خمس دول أوروبية فقط، بما فيها كوسوفو والبوسنة وروسيا، فضلاً عن أستراليا، جهوداً لإعادة مسلحي «داعش» وزوجاتهم وأطفالهم. كما أعاد العراق الآلاف من مقاتليه. لكن المحاكمات وعمليات الإعدام التي نفذتها الحكومة افتقرت إلى الإجراءات القانونية الواجبة. وكل هذا يعتبر جهداً غير كافٍ على الإطلاق في سبيل تخفيف العبء الهائل الذي ماتزال الإدارة الذاتية تتحمله عبر قتالها للتنظيم. أثمرت الدعوات إلى إنشاء محكمة دولية عن العديد من النقاشات، ولكن الجهود الملموسة لإنشاء تلك المحكمة كانت قليلة، فيما يتردد المجتمع الدولي بشدةٍ في تقديم المساعدة القانونية والمؤسسية والمالية اللازمة للإدارة الذاتية لإجراء المحاكمات، إذ يبدو أن ذلك يعطي موافقة ضمنية للإدارة للتصرف كدولة.
يجب على المجتمع الدولي بذل كل الجهود لدعم الإدارة الذاتية في مسعاها هذا. لا ينبغي أن يُثقل كاهل الإدارة بإخراج الطعام من أفواه الأيتام والأرامل والمدنيين المهجرين حتى يتمكن إرهابيو تنظيم داعش، الذين نشروا الرعب وقتلوا واغتصبوا، من العيش في مرافق فاخرة ومكيّفة. في الواقع، بالنظر إلى القدرة المحدودة لروجآفا والنشاط المستمر لخلايا التنظيم النائمة والتهديدات المرافقة، فإن لدى الإدارة التزام أخلاقي بدعم النازحين والسكان أولاً وقبل كل شيء. لقد قامت الإدارة الذاتية بجهدٍ مثير للإعجاب في اعتقال هؤلاء الأفراد الخطرين واحتجازهم ضمن شروط إنسانية قدر الإمكان حتى الآن. إنه لأمر مستهجن أخلاقياً أن نلقي على الإدارة الذاتية مشقة الاستمرار في تحمل هذه المهمة الكبيرة والمكلفة للغاية إلى أجلٍ غير مسمى. لقد حان الوقت لأن يتحمل المجتمع الدولي مسؤوليته أيضاً.
–الدكتورة هوزين عزيز حاصلة على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من جامعة نيوكاسل في أستراليا. منشئة منصة The Middle East Feminist. عملت كمدرّسة في الجامعة الأمريكية في السليمانية بالعراق (AUIS)، بالإضافة إلى عملها كباحثة زائرة في CGDS (مركز النوع الاجتماعي (الجندرة) والتنمية). تشغل حالياً مهام المديرة المشاركة للمركز الكردي للدراسات (القسم الإنجليزي).[1]