أحمد شيخو
لقد تعمقت الأزمات والقضايا الأساسية للمجتمعات والشعوب وخاصة في الشرق الأوسط وتزايدت طردياً مع ما يسميه المفكر والقائد #عبدالله أوجلان# الحداثة الرأسمالية - أو ما يسميه البعض حالياً النيوليبرالية أو المجتمع الدولي أو النظام العالمي الليبرالي.
الحداثة الرأسمالية تقيد المجتمع
ويمكننا القول إن الحداثة المركزية الرأسمالية بحدّ ذاتها كإدارة خارجية عن إرادة المجتمعات والشعوب وقيمهم وكنظام لها ذهنية أحادية وأبعاد وممارسات احتكارية وسلطوية طاغية، تعمل على تقيد المجتمع وتحجيم دوره وساحة نشاطه وحريته، بكلّ ميادينه ومن جميع الجهات. وتحاول السيطرة الكلية عليه وشل قدراته وإضعاف قوته، وهذا يعني تصيير المجتمع بكامله إشكالية وعقداً مستعصية على الفك والحل. وهنا بالذات تبادر الحداثة المركزية تلك كشرط ضروري لوجودها وسيادتها إلى تأسيس نظام قمعيّ واستغلاليّ ونهبي ومركزي شامل، وبسطه على المجتمع وشرائه كافة، بغية تقسيم المجتمع وتبضعه كشيء والتمكن من تفعيل قانون الربح الأعظم عليه-وفق التسمية اليسارية- وعلى موارده وقيمه المادية والمعنوية وبالتالي ممارسة النهب والهيمنة بطرق يتم شرعنتها بعناوين وأسماء وتوصيات وقوانين مختلفة وضعية أو سماوية وديمقراطيات تمثيلية مضللة.
توسع نظم القهر والاحتكار في العصور الحديثة كثيراً عما كانت عليه سابقاً
يختلف نظام القهر والاستغلال والاحتكار حالياً، عمقاً واتساعاً وتأثيراً عما كان عليه في العصور الوسطى وما قبلها، والفرق بين كيفية ومقدار ونوعية النهب والتسلط والتحكم مختلفة وكبيرة، فنهب وسلطة ومصالح سلالة إقطاعية أو ملكيّة في العصور القديمة والوسطى يختلف عن مصالح وسلطوية وماهية النهب والسرقة لآلاف النظم الاستبدادية القوموية والإسلاموية والاحتكارات العالمية الصناعية والمالية والبنكية واحتكارات الطاقة والتقنيات والمعلومة في العصر الرأسماليّ الحالي أو الافتراضي والرقمي الحالي بشكل كبير جداً.
الدولة القومية أداة لهيمنة الرأسمالية ونهبها
كانت الإجراءات والتدابير الإنسانية والمجتمعية الأخلاقية المتّخذة أيديولوجياً وسياسياً واقتصادياً ودينياً عبر التاريخ من أجل عدم تحول النهب والاحتكار الرأسمالي والمركزية الشديدة إلى نظام مسيطر ومهيمن، كانت بدافع الخوف من عدم القدرة على التحكم بهكذا نمط من الاستغلال والقهر والنهب والاحتكار والتسلط وتحوله لوحش كبير، إذ لم يكن المجتمع في تلك الحقب قادراً على تحمّل الرأسمالية والفاشية كنظام مهيمن، ولا على الصمود في وجهها. والعامل في ذلك يعود إلى افتقار أسلوب ونهج الاستغلال والقمع الرأسماليّ إلى رافعة أو رديف أو حاضنة يخوّله للاستمرار بنفسه ضمن الطبيعة الاجتماعية وبيئة الشعوب والمجتمعات.
ولكن هذه الرافعة تم تأمينها فيما بعد تراكم تجارب وخبرات الميل والطريق الرأسمالي، أي أن الأداة أو السلاح الفتاك الذي تستحوذ عليه الرأسمالية كحداثة لتحقيق سيادة ذاتها كنظام حاكم ومسيطر، فهي تحويلها سلطة الدولة إلى سلطة دولة قومية مركزية. والدولة القومية بذاتها غير ممكنة، إلا بتغلغل السلطة في كافة المفاصل والأوعية الشّعرية للمجتمع. فمجتمعٌ تسللت فيه السلطة حتى أدقّ أوعيته الشعرية، وسادت فيها المعادلات الأحادية والمركزية والسلطوية لا يقتصر أمره على الاختناق بالأزمات والقضايا الإشكالية حتى النخاع، بل ويغدو محكوماً عليه بالتمزق والتناثر والصراعات والفوضى وانتشار الإرهاب والتطهير العرقي. أي إنّ المجتمع تحت ظل الدولة القومية مقيد كلياً ومشلول من الحركة والتفاعل والأداء الإيجابي، ويراد به الموت أو الضعف لإيصاله لمستوى الشيء أو المفعول به دون أن يمتلك الهوية الذاتية الحرة أو الإرادة المستقلة أو التنظيم والإدارة الذاتية.
الأحادية والتنميط من أهم قواعد القمع والنهب والتدخلات الخارجية
وعليه، فحدود الوطن القطري المصطنع والدولة القومية ببعديها العلمانوية أو الدينوية، الجيش القومي، البيروقراطية المدنية المركزية، الإدارة المركزيّة المتشددة، السوق القومية، السيطرة الاقتصادية الاحتكارية، العملة القطرية، جواز السفر، هوية المواطنة القومية ذات اللون الواحد، أماكن العبادة القومية، دور الحضانة والمدرسة الابتدائية، اللغة الواحدة الفرضية، ورموز العلم الواحد للأمة النمطية الدولتية؛ كلّ ذلك ينتج ويختلق بنحو متكامل كليّ متحد كنتيجة أولية من قبيل تفعيل قواعد النهب والقمع والاحتكار والقهر للرأسمالية وتسليطها على المجتمع.
الليبرالية ليست إلا عبودية معاصرة
هذا السياق الموجود الذي يعرّفه علماء علم الاجتماع التابعون للحداثة المركزية الدولتية أو الرأسمالية أو المنظرين للمعادلات الصفرية السلطوية والمشرعنون للدولة القومية والحداثة الرأسمالية، بأنه تطور وتجاوزٌ للمجتمع التقليديّ أو المتخلف بنظرهم ونشوءٌ للمجتمع الحديث النمطيّ المتجانس قسرياً، ويطرحونه على أنه مؤشرٌ للتقدم والسعادة والاستقرار والأمان؛ ولكنه في الحقيقة يدلّ في مضمونه على المجتمع المقيد والمشلول والمهدور كرامته والمأزوم لأبعد الحدود. والمجتمع المحبوس والمخضوع والمذلول هذا لن يطلق سراحه أو يفك قيده، إلا عندما يخضع كلياً ويروّض تماماً ويحضر ويجهز وفق قواعد الرأسمالية ومصالحها واحتياجها للعملاء والخونة والأدوات. وإطلاق السراح هذا الذي يسمّى الليبرالية، التي لا تعبّر في فحواه وجوهرها سوى عن العبودية المعاصرة والحرية الفردانية المزيفة للفرد الأناني الانتهازي المقطوع والبعيد عن مجتمعه وذاته الحرة والإنسانية.
وهنا نجد طرفين:
1- طرف يصر ويكافح لأجل الحرية والديمقراطية والعدالة، ضمن مجتمع عصر الرأسمالية وحداثتها، وهي القوى الديمقراطية والمجتمعية والأخلاقية والتشاركية وهي ما يمكننا تسميتها قوى الحداثة الديمقراطية كما يشير لها المفكر والقائد أوجلان في مجلداته وكتبه.
2- طرف مقابل يصر على الاستغلال والقمع والاحتكار والإبادة للمجتمعات والشعوب وهي الفاشية التي تجسد النظم الدموية والاستغلالية والاحتكارية والمركزية، وهنا من الواقعية أن نتكلم عن محاولة تصفية المجتمع وإنهائه وإبادته ليغدو لا شيء.
يتعمد الباحثين السياسيين وما يسمى علماء الاجتماع المعاصر والنخب المثقفة المتعالية الاستشراقية، عدم تحليل وتقيم العبودية الحديثة الجديدة أي العبودية الرأسمالية والرقمية التي تجاوزت عصر الإقطاع بتجاوزها لامتلاكها للبشر والأرض ورغبات الناس وتمنياتهم إلى رسم مستقبلهم وتوجيه أفعالهم دون إرادتهم عبر التأثير عليهم من مختلف النواحي، بل أن هؤلاء يعتبرون شرعنة واقع العبودية الطبقية واستهداف المجتمعات والشعوب وقواها الديمقراطية والمجتمعية وظيفة أساسية لهم بحكم الأيديولوجيا الليبرالية السائدة والمسيطرة عليهم على رؤيتهم وسلوكهم. وبالتالي، المقاربة هنا ليست علمية. بل تتميز بخصائص ميثولوجية رجعية خادمة لأنظمة السلطة والفاشية التي لا تقبل بالتشارك وخصوصية الآخرين و ترى الأخرين فقط وفق أهوائها ومصالحها وأن المعارضين أو الرافضين عليهم الاستسلام أو الموت.
الدولة القومية قوة غير قادرة على الاستمرار بشكل مستقر
أما سيطرة البعد الاقتصادي الاحتكارية السلطوي النهبي فقط أو الاقتصادوية دون الأبعاد الفكرية والاجتماعية على القراءة والتحليل والمقاربات، علاوة على سيادة المال والنظم البنكية المركزية العالمية، والذكاء الاصطناعي في عصرنا الماليّ والافتراضي الرقمي ووجود الدولة القومية وسلطاتها الفاشية كأداة ومحاولة ترقيعهم وتأهيلهم وتكرارهم بأدوار جديدة، فإن هذا العصر والمرحلة هو أكثر عصور الرأسمالية رجعية وقمعاً وطغياناً وتحكماً، فمعناه القوة السلطوية الاحتكارية المتراكمة في صيغة الدولة القومية التي لا يمكن لأيّ إله تاريخيّ أن يتحلى بها. بل وربما تعبّر عن الإله الأقوى للأسياد المسيطرين. ومن دون هذا الإله، لا الرأسمالية ممكنة، ولا الدولة القومية، ولا الصناعوية أو الافتراضية، ولكنها الى الضعف والانهيار وخاصة في السنوات العشرين الأخيرة في الشرق الأوسط، رغم تجاوزها آلهة العصور القديمة والوسطى، ولكن أية مقاربة أو ظاهرة أو حتى أداة لا تأخذ الأبعاد الاجتماعية والفكرية بعين الاعتبار لا تستطيع الاستمرار بشكل مستقر وآمن.
إن الحفاظ على صمود المجتمع في وجه التحديات والتدخلات وإله المال والمادة والعصر الافتراضي يقتضي المعاني الإنسانية العظمى، وقوة الحياة المجتمعية التكاملية والثقافية والتفاعل الصحيح مع العصر الرقمي. لكن، ما من أثر بارز لمجتمع يمتلك مثل هذه القوة في الشرق الأوسط والعالم. فتجارب المجتمعات الاشتراكيّة والقومية والعلمانية والدينية وما تم تسميتها مجتمعات حركات التحرر الوطنية والتي ظهرت إلى الوسط متحصنة بهدف كهذا، قد تبينت قدرتها المحدودة على النجاح. وغالبا تكبّدت الهزيمة والفشل، كما هي حال دول وشعوب الشرق الأوسط التي تعاني من كل الإشكاليات والمصائب.
تفعيل أنسجة المجتمع الديمقراطية وإزالة العوائق لتحقيق التحول الديمقراطي نحو الاستقرار والأمان
لكن، مهما تم التدخل وفرض الخنوع والذل والاستسلام إزاء الحداثة الرأسمالية وأبعادها وأدواتها من الدول القومية والميول والذهنيات الأحادية والسلوكيات الاجرامية كالتطهير العرقية والتغير الديموغرافي بحق الشعوب والمجتمعات الأصيلة، فلا خيار وحل أو خلاص سوى بالإصرار بكل قوة وعزم على المجتمعية والتشاركية الديمقراطية والدفاع عن المجتمع والتمسك بقيمه وتقاليده الديمقراطية وبناء الإنسان والمجتمع الديمقراطي القادر على تحقيق التحول الديمقراطي و مواجهة التحديات أمام الفاشية السلطوية الدولتية ونظام الاحتكار الرأسمالي العالمي. فمهما باتت القضايا سرطانية، وتأزمت ومهما بلغت أبعاداً كبرى من التوتر والفوضى؛ فإنّ حماية الوجود المجتمعيّ والدفاع عنه، وخلق التوازن بين الحرية الشخصية وحرية المجتمع والعمل على توعية وتنظيم وتدريب الانسان والمجتمع ومواجهة التحديات وإزالة العوائق أمام تفعيل أنسج المجتمع الأخلاقية والسياسية، والعمل بشرف وإخلاص ووعي كبير بمستجدات العصر ومعطياته ورقمياته، شرطٌ لا استغناء عنه لأجل الحياة الحرة والديمقراطية بإنسانية وكرامة ومهنية. أما الحياة البديلة والمقابلة لذلك، فإما أنها الحياة المجرّدة من كافة القيم والمعاني الإنسانية، والتي يطغى عليها الربح الأعظم وقوانين الاحتكار ونظم الاستبداد والتبعية للخارج وتبضع الانسان وكل شيء ليباع؛ أو أنها الحياة المتروكة للانحلال وللتفسخ والاهتراء بين صمت القبور الذي يتم فرضه وشركات النهب العابرة للحدود ومنظومات الفساد والقمع والقهر والاحتكار، وعليه فالصح هو البحث عن الحلول والاستقرار في المجتمعات والشعوب وليس في السلطويات الدولتية الفاشية.[1]