احمد شيخو
لم يختلف الاتحاديون والكماليون والأردوغانيون في تنفيذهم للهندسة الديموغرافية كحركية للإبادة الجماعية بحق الشعوب، وأمام هذه الإبادات الجسدية والثقافية والتواطؤ الإقليمي والدولي لا بد من مقاومة متنوعة وشاملة للشعوب المستهدفة وحداثة بديلة وإرادة مجتمعية حرة.
يمكننا أن نشير ونعبر عن الممارسة القسرية أو الإجراء الأحادي الفاشي لتطبيق الهندسة الديموغرافية وإحداث تغيير التركيبة السكانية من خلال حركية الإبادة كما عبر عنها رفائيل لمكين (Raphael Lemkin) وهو الذي تطرق في كتاباته للإبادات التي تمت بحق اليونان والأرمن والسريان والكرد من قبل الشباب الترك أو الاتحاديين الأتراك (الاتحاد والترقي) وكذلك التي تمت بحق اليهود في أوروبا، فحركية الإبادة غالباً تحدث على مرحلتين:
1- القضاء على الطابع المميز أو الهوية القومية والدينية للجماعة أو المجتمع أو الشعب المضطهَد أو المحكوم أو المراد تصفيته والمعرض للإبادة.
2- فرض الطابع المميز أو الهوية القومية والدينية للجماعة أو المجتمع أو الشعب المضطهِد أو الحاكم أو التي تقوم بفرض نفسها.
وإذا كانت المرحلة الأولى تتمثل في التصفية المادية للجماعة أو الشعب المضطهَد عبر المجازر أو التهجير القسري أو الترحيل، فإن المرحلة الثانية قد تتخذ أشكالاً مختلفة تفضي إلى التبني القسري من طرف المجتمع والشعب المضطهَد لأسلوب العيش والثقافة كاللغة، والفن والدين والسلوك والمؤسسات المميزة للجماعة أو المجتمع أو أمة الدولة القومية السائد، بما يؤدي إلى زوال الأول من الوجود بالتدريج وتغيب ملامحه وثقافته وخصوصيته المادية والمعنوية إن لم يقاوم بالشكل المناسب.
الهندسة الديموغرافية تمثل حركية الإبادة الجماعية
لم تمارس الدولة التركية القتل الجماعي فحسب بحق الشعوب الأصيلة المسيحية والإسلامية والمجتمعات الإيزيدية والعلوية في ميزوبوتاميا والأناضول وتراقيا، بل قامت وتقوم كما في مناطق شمال سوريا المحتلة كإقليم #عفرين# والباب وسري كانية (رأس العين) وكري سبي (تل أبيض) وفي إقليم كردستان العراق وشمال العراق كمنطقة شنكال /سنجار، عبر جيشها وأمنها واستخباراتها وأدواتها كداعش وما يسمى بالجيش الوطني السوري وفصائل الإخوان الإرهابية إضافة للائتلاف وضمنهم ما يسمى المجلس الوطني الكردي، على عدة حركيات تراكمية ومتفاعلة فيما بينها الغاية منها تطبيق وتنفيذ الهندسة الديموغرافية، فأوجدت نظاما متماسكاً للهندسة الديموغرافية القصد منه القضاء على وجود الشعوب والمجتمعات من غير العرق التركي أو أمة الدولة القومية التركية الأحادية. هذا النظام وهو نظام الهندسة الديموغرافية الذي يستند إلى القتل الجماعي، التهجير بالقوة والإكراه، نزع الملكية، التهميش الاجتماعي، الإدماج القسري، وإزالة شواهد الثقافة المادية والمعنوية وإيجاد فضاء مجاعة مصطنع ترحل لها هذه المجتمعات والشعوب التي تريد إبادتها مما يؤدي بالنتيجة لتنفيذ حركية الإبادة.
الإدماج القسري
وعند تطرقنا للهندسة الديموغرافية كأحد أبعاد وسبل الإبادة وحركيتها لا بد من أن نأخذ الإدماج القسري بعين الاعتبار، وهو غالبا ما يتصدره الإدماج الديني والقومي كالأسلمة القسرية على المجتمعات غير المسلمة وفرض التطرف والتتريك الإجباري عبر المدارس والجوامع ونوعية التعليم والخطاب الديني الموجه، وفرض اللغة التركية ومنع لغة السكان الأصلية كاللغة الكردية والعربية وغلق المدارس التي تعتني بالثقافة الأصلية وتوزيع الشعوب غير التركية على الأماكن الداخلية وهندسة وجودهم السكاني من خلال قوانين وإجراءات التوطين القسري وما يسمى سياسات الإدماج وتأمين الدولة والمنطقة وسياسات الهندسة الديموغرافية والعمل المستمر لتحقيق نسبة 2٪ أو 5٪ للشعوب غير التركية وأقصى حد أن لا يتجاوز 10 ٪ والترحيل من الأطراف الى الداخل لخلق بيئة الادماج والإبادة وأن يكون الأجيال القادمة منقطعة عن أرضها وثقافة آبائهم وأجدادهم الذين تعرضوا لممارسات الإبادة الجسدية.
الاستيطان
ولعل المصادرة والاستيطان فيها عبر السلطات المحلية الموالية والتابعة للمركز والمحتل، للدور والمنازل والأراضي والبساتين والحقول مع سن قوانين البيع والشراء الموجهة وعدم إعطاء الرخص والبيانات الرسمية إلا وفق آلية أمنية تحقق غرض وأهداف الإبادة إضافة لتشريعات الأملاك المهجورة والتي هي من أهم أبعاد الإبادة ومتطلباتها وتغير الملكية، ولو رصدنا هذا البعد في الممارسات التركية منذ 1908 وحتى اليوم في تراقيا وآسيا الصغرى أو الأناضول وميزوبوتاميا العليا أو كردستان سنلاحظ ذلك بكل وضوح مع أملاك وأراضي اليونان والأرمن والكرد والسريان الثابتة والمنقولة ولعل أحدث الأمثلة ما يحدث في عفرين وسري كانية (رأس العين) وفي كري سبي (تل أبيض) والباب وجرابلس وإدلب، ففي عفرين وحدها يتجاوز عدد المستوطنات التركية والإرهابية الإخوانية أكثر من 25 مستوطنة أو مجمع سرطاني أقامته دولة الاحتلال التركية ومجلس العملاء والخونة التابعة لها كسلطة محلية شكلية مع إسهام كبير من عدد من جمعيات الإخوان من الدول العربية وكذلك بعض الدول العربية وعلى رأسهم جمعيات فلسطيني 48 الإخوانية ودولة قطر والكويت غيرهم. وآخر هذه المستوطنات وليس أخيراً، كانت قبل أيام في مدينة جرابلس وقد قام ما يسمى وزير الداخلية التركي حينها وبحجة اللاجئين وعودتهم، بوضع حجر الأساس للمستوطنة التي تتكون من 240 ألف وحدة سكنية وبدعم وتمويل من دولة قطر التي تدعي الإسلام وهي تقوم بتنفيذ الإبادة والهندسة الديموغرافية بحق سكان شمال سوريا من المسلمين من الكرد والعرب الذين يرفضون الاحتلال التركي والتقسيم الذي تخطط لها.
تغيير الأسماء والهوية
إن تغيير الأسماء للأماكن والمدن والأودية والقرى والأحياء، وحتى منع أسماء الأطفال والتسميات التي تعود للشعوب والمجتمعات المستهدفة أيضا يشكل بعد ملفت وضروري وفق حركية الإبادة ونظامها المنسق، وهنا بعد فترة ومن كثرة استعمال الأسماء الجديدة المجسدة للإبادة وسياقها، ربما تختفي الأسماء القديمة الأصلية ويتم تداول الأسماء الجديدة، فمثلاً على سبيل المثال لا الحصر إن اسم أهم مدينة كردية ليست ديار بكر بل هي آمد ومنذ ما قبل التاريخ، لكن من أراد قتل الثقافة الكردية وإزالة ملامحها وتغييرها، أسماها ديار بكر مع الفتح الإسلامي أو الغزو الإسلاموي السلطوي العربي والتركي فيما بعد، البعيدين عن تجسيد ثقافة الشعب العربي والتركي المتعايشين مع الشعب الكردي في مسار التعايش والاحترام المتبادل والتكامل التاريخي والإسلامي، وكذلك أسماء غالبية المدن الكردية في سوريا وإيران والعراق، فديريك أصبحت المالكية وتربسبيه أصبحت القحطانية في شمال سوريا بسبب الإبادة البعثية وفرض التعريب ومدينة ديلوك أصبحت عنتاب وإليه أصبحت بطمان في شمال كردستان وديرسم أصبحت تونجلي، وفي شرق كردستان أصبحت كرمنشان كرمنشاه و تحول اسم مدينة سنه لسندج وغيرهم المئات والآلاف من الأسماء تم تغيرها دون وجه حق لإزالة الأسماء الكردية.
ومع الاحتلال التركي لإقليم عفرين في شمال غرب سوريا، عمدت دولة الاحتلال التركي لتغيير غالبية الأسماء الكردية ويتم حالياً تسمية منطقة عفرين ب غصن الزيتون وفق تسمية الاحتلال التي أطلقتها تركيا على غزوها واحتلالها لمدينة عفرين، وتم تغيير أسماء الحارات والكثير من القرى الكردية للأسماء التركية وحتى السكان المتبقين يتم استهدافهم لأسمائهم الكردية وسجنهم واتهامهم كذباً ونفاقاً وتلفيق الاتهامات لهم. وفي كل المناطق المحتلة والتي تتركز حركية الإبادة فيها كعفرين وسري كانية والباب وجرابلس، عمدت السلطات المحلية التابعة لتركيا وبالتعاون مع الاستخبارات والجيش التركي على رفض الهويات السابقة للدولة السورية وإخراج هويات جديدة مرتبطة بالسجل والأمن التركي ومنح من هم من خارج المنطقة هويات على أنهم من سكانها الأصلين.
اقتصاد الإبادة وفقر المجتمع المستهدف
وعند تناولنا للهندسة الديموغرافية وحركية الإبادة علينا تناول اقتصاد الإبادة وبناء برجوازية أو الطبقة المادية المستلزمة والمتواطئة مع السلطات والقوى التي تمارس الإبادة، فيتم فرض الفقر والجوع والحرمان على السكان المراد إبادتهم والسيطرة على دورة الاقتصاد من التملك والإنتاج والتجارة والتصنيع وحركة الاستيراد والتصدير، ويفتح المجال فقط لقوى الإبادة أو للحلقة البرجوازية المتواطئة أو المنشئة حديثاً حتى تقوم بالإبادة الاقتصادية، فيبقى أمام الشعوب والمجتمعات من غير أمة الدولة القومية الأحادية خيارين إما الحياة بعد التخلي عن كل ما يمت للهوية الأصلية أو الموت جوعاً والهجرة تحت الضغط، إذا بقوا أحياء وتجاوزوا مراحل القتل الجماعي.
وفي شمال كردستان وتركيا وكذلك في شرق كردستان في غرب إيران يتم إبعاد الشعب الكردي عن موارده وفرض حالة العوز والحاجة عليه مقابل أن يقوم بعض الأجهزة وبعض التابعين لهذه الأجهزة من مسننات الإبادة وأدواتها ومرتزقتها بالاستفادة من المقدرات والإمكانات والتسهيلات، وفي إقليم عفرين المحتل هناك مجاميع وفصائل أنقرة الإرهابية التي تسرق وتنهب كل شيء وحتى أن لها اقتصاد ومورد هام وكبير عبر رهن المدنيين واعتقالهم وطلب الفدية من أهلهم للإفراج عنهم علاوة على سرقة محصول الزيتون وقطع الأشجار وممارسة كل الموبقات وعمليات السلب والنهب في وضح النهار وبدعم من الجيش والمخابرات التركية.
الميثاق الملي يمثل تنفيذ لحركية الإبادة
لو تتبعنا ورصدنا تاريخ تركيا كدولة الإبادة والاحتلال التركي وممارسة القتل والتهجير بحق شعوب المنطقة، نلاحظ أن الاتحاديون والكماليون والأردوغانيون لهم نفس العقلية والسلوك الفاشي منذ 1908 وحتى اليوم، وما كلام السلطة الحالية الفاشية الإسلاموية عن الميثاق الملي ورغبتها وعملها لضم شمال وشرق سوريا ومدينتي حلب والحسكة وإقليم كردستان العراق ومديني الموصل وكركوك، إلا تعبير واضح عن برنامج وسلوك الإبادة التركية، في ظل الصمت الإقليمي والدولي أو الأصح في ظل التواطؤ الإقليمي والدولي مع الدولة والسلطة التركية بسبب مصالحهم القذرة التي تتجاوز كل القوانين الدولية والإنسانية والمعايير الحقوقية.
الوضعية ساعدت في خلق ذهنية حركية الإبادة
لقد اعتمد الشباب الأتراك وخاصة منذ العقد الأخير من القرن التاسع عشر وثم الدولة التركية والمؤسسات الرسمية بعد عام 1908 في منهجيتهم في الإبادة على قطع التواصل مع ما تم تسميته موروث فكر الانوار الذي استند إليه اصلاحيو التنظيمات التركية، واتخذوا مراجع لهم أمثال المفكرين إرنست رونان(Ernest Renan) وهيبولت تين(Hippolyte Taine) وغوبينو(Gobineau) وأكثرهم كان الفرنسي غوستاف لوبون(Gustave Le Bon) الذي وصلت أفكاره بواسطة كتابات عبدالله جود (1869-1932)أحد المؤسسين الأربعة للاتحاد والترقي.
ووفق غوستاف لوبون، فان العرق يهيمن على الغوغاء التي هي بمنزلة قطيع الذي لا يمكن الاستغناء عن بيئته واستعان الشباب الأتراك؛ بالدارونية الاجتماعية فهي التي يمكنها التفاعل مع الأفكار القومية والإسلامية وحتى الليبرالية، وكذلك استندوا على الوضعية كعلمي الإحصاء وعلم الاجتماع والعلوم البيولوجية كالتشريح والفيسيولوجيا من الأبعاد السلطوية لاستخدامها في الهندسة الديموغرافية وحركية الإبادة بحق الشعوب والمجتمعات غير التركية فقد وجدوا المبرر العصري والغربي المهم برأيهم لكل الجرائم التي ارتكبوها بحق المجتمعات والشعوب التي تتم تصفيتهم الجسدية والثقافية.
الإبادة امتداد لظاهرة الصهر
أما المفكر والقائد #عبد الله أوجلان# فيشير في مجلداته وكتبه الى الموضوع، فيقول عن الإبادة بأنها بمثابة امتداد لظاهرة الصهر، ويقول أنها تهدف إلى التصفية التامة جسدياً وثقافياً للشعوب والمجتمعات وجميع أنواع الجماعات والمجموعات الدينية والمذهبية والأثنية التي صعب تذليلها بأسلوب الصهر. ويقول عن الصهر بأنه يعبر عن العلاقة أو الممارسة الأحادية، التي تلجأ لها احتكارات السلطة ورأس المال في مجتمعات المدنية وتطبقها على المجموعات الاجتماعية التي أخضعتها لنير العبودية بغرض اختزالها إلى امتداد لها أو ملحق بها، وأن استعمال أحد الاسلوبين هو حسبما يتوافق معه الوضع.
ترتكب الإبادة بشكل صيغتين أو اسلوبين:
1- الاسلوب الأول أو الإبادة الجسدية، فترتكب غالباً على المجموعات الثقافية التي هي في منزلة أعلى نسبةً لثقافة النخبة الحاكمة، أي نسبةً لثقافة الدولة القومية المركزية. والمثال النموذجيّ على ذلك هو الإبادات الجماعية وعمليات التطهير العرقيّ المرتكبة ضد الثقافة اليهودية والشعب اليهوديّ. فنظراً لكون اليهود يشكّلون الشرائح الأقوى على مدى التاريخ في ميدان الثقافتين المادية والمعنوية، فقد تعرّضوا دوماً للضربات والإبادات على يد الثقافات المضادة المهيمنة، وطالتهم مراراً عمليات التطهير المسماة بالمذابح المنظّمة.
2- الاسلوب الثاني أو الإبادة الثقافية، فغالباً ما ترتكب ضد الشعوب والمجموعات الأثنية والجماعات العقائدية التي هي في وضع ضعيف ومتخلف مقارنةً مع ثقافة الدولة القومية والنخبة الحاكمة.
يهدف بالإبادة الثقافية إلى التصفية التامة لتلك الشعوب والمجموعات الأثنية والدينية بصهرها ضمن ثقافة ولغة النخبة الحاكمة والدولة القومية، ويسعى إلى القضاء على وجودها بإقحامها تحت ضغط وفي مكبس كافة أنواع المؤسسات الاجتماعية، وعلى رأسها المؤسسات التعليمية.
يمكننا القول أن الإبادة الثقافية شكل من أشكال حركية الإبادة والتطهير العرقيّ الأكثر خطورة ومخاضاً مقارنةً مع الإبادة الجسدية، وتمتدّ على زمن طويل. والنتائج التي تفرزها أفظع مما تفرزه الإبادة الجسدية، وتعادل أكبر أنواع الكوارث مما قد يشهده شعب أو مجموعة ما. ذلك أنّ الإرغام على التخلي عن وجوده وهويته وعن جميع المقوّمات الثقافية المادية والمعنوية الكائنة في طبيعة مجتمعه، يعادل الموت البطيء والإعدام أو الصّلب الجماهيريّ الممتدّ على مرحلة طويلة المدى.
لا نستطيع الحديث هنا عن العيش في سبيل القيم الثقافية المعرّضة للإبادة، بل لا يمكن الحديث سوى عن التأوّه والأنين. فالألم الأصليّ الذي تتسبب به الحداثة الرأسمالية وأدواتها من الدول القومية المركزية وثقافتها الأحادية لكلّ الشعوب والطبقات المسحوقة والمتروكة عاطلةً عن العمل بغية تحقيقها ربحها الأعظم، لا ينبع من استغلالها مادياً وحسب؛ بل وهو ألم يجترّ بسبب صلب جميع قيمها الثقافية الأخرى. ذلك أنّ الاحتضار على الصليب هو الحقيقة التي تشهدها كافة القيم الثقافية المادية والمعنوية الخارجة عن الثقافة الرسمية للدولة القومية المركزية وأمة الدولة النمطية المتجانسة المرادة بشغف لأجل السلطة والدولة. وبالأصل، ففيما خلا ذلك من أساليب، يستحيل تحويل البشرية والبيئة الأيكولوجية إلى مصدر للاستغلال، وتعريضها بالتالي للانتهاء.
ما يتعرض له الشعب الكردي يمثل حالة فريدة
ومن بين أكثر الشعوب المعرّضة للإبادة الثقافية في الشرق الأوسط والعالم، يمثّل الكرد حال الشعب الذي يعاني من ويلات هذه الإبادة الثقافية بأكثر أشكالها لفتاً للأنظار مع حالة الاستهداف الإقليمي والعالمي له. فبينما يفرض اجترار الألم على الشعب الكرديّ ضمن آلية الصّلب التي تنصبها الدول القومية الأربعة المسيطرة وتسلّطها على جميع قيمه الثقافية المادية والمعنوية، فإنّ موارد الغنى، التحتية منها والفوقية، والإرث المجتمعيّ بأكمله –وعلى رأسه قيم الكدح– يعرّض للسلب والنهب المكشوفين، ويترك الباقي يواجه المحو والبطالة والعطالة والتفسخ، ويجعل قبيحاً، ويقحم في وضع لا يطاق وبمنأى عن النظر إليه. وكأنه لم يبق سوى طريق واحد أمام الإنسان الكرديّ: الانصهار في بوتقة الدولة القومية المهيمنة، والتخلي كلياً عن قيمه الأساسية! ولا سبيل للحياة فيما عدا ذلك. ويبدو فيما يبدو، أنّ إبادة الكرد ثقافياً، والتي قد تصل بين الحين والآخر حدّ الإبادة الجسدية، تتصدر لائحة الأمثلة الأكثر مأساويةً ولفتاً للنظر في الإشارة إلى حقيقة الحداثة الرأسمالية بكلّ سطوع وجلاء وأهدافها ووسائلها الإجرامية.
لابد من مقاومة الهندسة الديموغرافية وحركية الإبادة بكل الوسائل
ومن الطبيعي أمام هذه الممارسات الإجرامية والهندسة الديموغرافية وحركية الإبادة الجماعية الجسدية والثقافية، فإن كل الوسائل مشروعة وحسب كل القوانين السماوية والوضعية بما فيها اللجوء الى استعمال القوى الصلبة والمرنة والذكية أمام المجتمعات والشعوب لتحافظ على وجودها وثقافتها ولتدافع عن نفسها أمام حركية الإبادة والممارسات القسرية الأحادية وبل من الواجب والأخلاق والقيم المجتمعية والإنسانية لا بد أن يكون هناك مقاومة متعددة الأوجه وشاملة، وبناء حداثة مجتمعية ديمقراطية وحرة تجسدها ذهنية تشاركية وسلوك مقاوم وإرادة حرة، في الوقت الذي يتغاضي أو يشارك ما يسمى المجتمع الدولي أو النظام العالمي الرأسمالي في هذه الجرائم بحق المجتمعات والشعوب والتكوينات الاجتماعية الأصيلة بعلاقاته العسكرية والسياسية والاقتصادية مع النظم القومية المركزية الأحادية والفاشية وأدوات الإبادة المحلية والإقليمية، دون أن يأخذ هذه الإبادات المطبقة بعين الاعتبار بل أن أكثر هذه الإبادات وحركيتها هي لأجل مصالح ومشاريع الهيمنة والنهب للنظام العالمي المهيمن ومراكزه الأساسية، أما من يحاول أن يبعد المجتمعات والشعوب وقوى المجتمع عن الصمود والمقاومة والمطالبة بالتحول الديمقراطي تحت أية حجة كانت فهو يمثل أحد أدوات الإبادة والمساهمين فيها.[1]