محمد سيد رصاص
هناك اسم مفتاحي لفهم التطورات السورية في مرحلة مابعد سقوط حكم أديب الشيشكلي في 25 -02-1954، هو جمال عبدالناصر، إذ تحركت السياسة السورية على إيقاع الموقف منه في سؤالي: مع ناصر أم و ضده؟ ،وهذا وضع استمر حتى يوم 28-09- 1970عندما توفي الرئيس المصري.
كان هناك قبل هذا التاريخ عوامل خارجية أيضاً تُحرك السياسة الداخلية السورية، لكنها لم تكن أسماء كما في حالة جمال عبدالناصر، بل مشاريع خارجية مثل (الهلال الخصيب)، الذي أتى انقلاب سامي الحناوي، في 14-08- 1949، لتمهيد الطريق له عبر القاطرة التي اسمها (حزب الشعب) الذي فاز بانتخابات الجمعية التأسيسية بعد ثلاث أشهر، ثم أتى انقلاب أديب الشيشكلي الأول في 19-12-1949 ليمنع مسار هذا القطار، أو (مشروع دفاع الشرق الأوسط)، المطروح كمنظومة عسكرية من واشنطن ولندن وباريس وأنقرة في تشرين الثاني/أكتوبر1951 ضد السوفيات، وقتذاك قام الشيشكلي بانقلابه الثاني بدعم من واشنطن ضد حكومة معروف الدواليبي في ليلة 28-29 -10- 1951 الذي كان ضد المشروع، مثلما كان في انقلابه الأول مدعوماً من القاهرة والرياض ضد مشروع الهلال الخصيب المدعوم من بريطانيا والعراق.
بدأ ايقاع النفوذ الناصري بالتحويم فوق سماء السياسة السورية بدءاً من شهر شباط/فبراير1955عندما انشق (الحزب الوطني) على خلفية الموقف من (حلف بغداد) بين جناح مضاد للحلف بقيادة صبري العسلي وجناح مؤيد بقيادة لطفي الحفار لتلك المعاهدة العسكرية العراقية –التركية، والتي أريد منها مثل (دفاع الشرق الأوسط) أن تكون امتداداً شرق أوسطياً لحلف شمال الأطلسي، وهو ما قاد لسقوط حكومة فارس الخوري المعتمدة على ائتلاف حزبي (الشعب) و(الوطني) وهو ماقاد لتشكيل وزارة جديدة برئاسة العسلي مدعومة من حزب البعث وكتلة المستقلين بزعامة خالد العظم المقترب حثيثاً من الشيوعيين، على إيقاع مشهد سوري جديد كان لحنه الأقوى تقارب موسكو والقاهرة وتقارب دمشق مع القاهرة وموسكو.
في هذا المناخ السياسي السوري الجديد كانت فترة صعود #الحزب الشيوعي السوري# بين عامي 1955و1958. كان الحزب، ورغم اعتقالات فترة الشيشكلي، قد خرج قوياً بمرحلة ما بعد سقوطه بعدما برز كأحد الأحزاب الأساسية التي قاومته وهو كان أحد الأركان الأربعة مع (البعث) و(الشعب) و(الوطني) في صوغ “ميثاق حمص” في 4 تموز/يوليو1953 الذي كان القاعدة الحزبية للتحرك العسكري الذي أسقط الشيشكلي في يوم 25-02- 1954. ورغم البروز الانتخابي لخالد بكداش في انتخابات برلمان 1954 عندما فاز بالدورة الأولى في دمشق وهو مالم يستطعه الزعيم البعثي صلاح البيطار، فإن الحزب كان يفضّل الاستقواء بالتحالفات وعدم الظهور بالواجهة، وهو اتجه للعمل من وراء ستارة تحالف العسلي-العظم-البعث، لانشاء مشهد سياسي يتسيّده اليساريون بعدما كانت أن كان يتصدر السياسة السورية اليمين بشكله الليبرالي القديم في (الكتلة الوطنية) التي تأسست عام 1928 قبل أن تنشق عام 1948 لحزبي الشعب والوطني. هذا العمل من وراء ستارة التحالفات تم تطبيقه مع البعثيين في حمص عام 1955 في انتخابات برلمانية تكميلية تشارك الشيوعيون مع البعثيين في دعم المرشح أحمد الحاج يونس وفي انتخابات 1957 التكميلية دعماً لرياض المالكي بدمشق ضد المراقب العام لجماعة الاخوان المسلمين مصطفى السباعي.
ولكن هذا كان يوازيه نمو تنظيمي للحزب تخطى وفق أرقام شفوية شيوعية داخلية رقم العشرون ألف عضو بالحزب في خريف1957 وهو رقم غير مسبوق ولا ملحوق بتاريخ الحزب مع أصدقاء وأنصار كانوا دائما يضربون بعشرة من عدد أعضاء الحزب، وهو حساب تقليدي عند الشيوعيين السوريين.
كان النمو الشيوعي في المدن بين الطلبة في المدارس الثانوية وفي الجامعة وفي خريجي الجامعة وهذا أكثر ماكان يلفت النظر عند خريجي الجامعات الأوروبية الغربية من السوريين أو من أبناء العائلات الثرية بين المسلمين السنة، كما كان النمو في الطبقة العاملة، وفي أبناء الأقليات الدينية (المسيحيون) والقومية (الكرد والشركس)، فيما كان هناك جانب ضعيف بالنسبة للشيوعيين تمثّل بقلة الانتشار بين أقليات طائفية مثل العلويين والشيعة الاثني عشرية، ولم يحصل نمو وانتشار قوي للحزب الشيوعي بين العلويين سوى منذ مرحلة ما بعد 08-03- 1963، فيما كان قبل هذا اليوم عند أبناء متعلمين لعائلات وجيهة ومن المشايخ أساساً مثل أسرة الأحمد التي ينحدر منها الشاعر بدوي الجبل.
ورغم البروز الانتخابي لخالد بكداش في انتخابات برلمان 1954 عندما فاز بالدورة الأولى في دمشق وهو مالم يستطعه الزعيم البعثي صلاح البيطار، فإن الحزب كان يفضّل الاستقواء بالتحالفات وعدم الظهور بالواجهة، وهو اتجه للعمل من وراء ستارة تحالف العسلي-العظم-البعث، لانشاء مشهد سياسي يتسيّده اليساريون بعدما كانت أن كان يتصدر السياسة السورية اليمين بشكله الليبرالي القديم في (الكتلة الوطنية) التي تأسست عام 1928 قبل أن تنشق عام 1948 لحزبي الشعب والوطني.
لم يستطع الحزب الشيوعي تأسيس قاعدة فلاحية اجتماعية مثل حزب البعث، وهو افتقد الركيزة الطبقية الصلبة مثل الطبقة العاملة التي كانت للحزبين الشيوعيين في العراق والسودان ،أوالاستناد الثابت مثل فئة الخريجين(محامون، أطباء، مهندسون) التي كانت قاعدة انتخابية للشيوعيين السودانيين في برلماني 1964و1986. مع هذا ورغمه ظل الحزب الشيوعي السوري أحد الثلاثة الأقوياء بين الأحزاب في السياسة السورية على الأقل في فترة 1954-1980.
كان الدور السوفياتي في دعم عبدالناصر في حرب 1956مؤدّياً إلى موجة شيوعية عربية ترجمت أساساً في دمشق وبغداد والخرطوم. منذ أواخر صيف 1957 بدأ الشيوعيون السوريون وقد أحسّوا بقوّتهم الذاتية بالابتعاد عن البعثيين، في تقدير جديد لقوتهم الذاتية مع تولّي شخص مرتبط بالحزب رئاسة الأركان هو الفريق عفيف البزري، ورئاسة شقيقه صلاح ل(قوات المقاومة الشعبية)، ومع وجود حليف اسمه خالد العظم في وزارة الدفاع. في التاريخ الشفوي الشيوعي عرض البزري على بكداش فكرة انقلاب عسكري ولكن خروتشوف منعه من تنفيذ ذلك، وذلك لمنع مسار اتجاه سوريا نحو الوحدة السورية-المصرية في الشهرين الأولين من عام1958 والتي كان يؤيدها البعث من منطلق أيديولوجي ومن منطلق مصلحي هو منع الشيوعيين من النمو نحو وضع من السيطرة وهو ما اعترف به شخص يميني مثل فارس الخوري عندما اعترف عام 1960 لباتريك سيل بأن خوفه من الخطر الشيوعي هو الذي دفعه لتأييد شيء لا يؤيده وهو الوحدة مع مصر.
أمام هذا المد الوحدوي حدد بيان اللجنة المركزية في13 كانون الثاني/يناير فكرة “اتحاد فيدرالي” وهو ما رفضه عبدالناصر مشترطاً (الوحدة الاندماجية المرفوقة بحل الأحزاب وتحييد الجيش عن السياسة) وهو ما سارت الأمور نحوه في الشهر التالي وكان خالد بكداش هو النائب السوري الوحيد الذي تغيب عن جلسة المجلس النيابي الذي أقرّ ميثاق الوحدة وكان قد غادر سوريا قبل الجلسة بيوم.
في محاضرة داخلية مسجّلة على شريطي كاسيت عام 1975 يروي أحمد محفل تفاصيل لقائه مع مبعوث عبدالناصر لدمشق في أيار/مايو 1958، وهو كمال الدين رفعت، وكيف عرض رفعت القبول ببقاء الحزب الشيوعي مع تغيير الاسم، وكيف حمل محفل المقترح إلى بكداش المقيم في بلغاريا، فيما رفض بكداش المقترح، ومن ثم قدّم (البنود ال 13) لاشتراط قبول الحزب بالوحدة، وهي عملياً عودة لبيان13كانون الثاني/يناير، وكان بكداش في البنود تلك يستقوي بما حصل قبل شهر من تغيير عراقي في 14-07- 1958عندما برز الشيوعيون كأقوى قوة سياسية عراقية اتجهت نحو رفض انضمام العراق للوحدة السورية –المصرية ويستقوي بتغير الموقف السوفياتي من عبدالناصر على ضوء بروز الشيوعيين العراقيين وعلى ضوء التقارب الأميركي – المصري الذي برز في أزمة صيف 1958اللبنانية.
عاد بكداش لسوريا في أيلول/سبتمبر1958 ونال موافقة اللجنة المركزية على البنود ال13 وعارضه محفل وظهير عبدالصمد ومن القيادة المركزية مع الحزب اللبناني عارضه فرج الله الحلو. كانت البنود ال 13 طريقاً للصدام مع عبدالناصر وهو ماحصل من خلال حملة اعتقالات على الحزب بدأت في رأس سنة 1959 .
مراجع:
1-دراسة دوغلاس ليتل:”الحرب الباردة والعمل السري:الولايات المتحدة وسوريا1945-1958″، وهي دراسة تتناول من بين ماتتناوله خفايا انقلاب حسني الزعيم في 30-03-1949 وموضوع عرقلة المجلس النيابي لاتفاقية خط التابلاين حيث كانت غالبية المجلس مع أن يصب الخط في الساحل السوري بدلا من اللبناني ،حيث وافق الزعيم عليها في 12أيار،وخفايا انقلاب الشيشكلي الثاني وذلك بالاعتماد على وثائق حكومية أميركية نزع عنها غطاء السرية أواخر الثمانينيات.الدراسة منشورة في “ميدل ايست جورنال”، العدد الأول،شتاء1990،ص ص51-75.
2-باتريك سيل:”الصراع على سوريا”،دار الأنوار.بيروت1968.ص413 حول خوف البعث من صعود الشيوعيين خريف1957.وحديث فارس الخوري صفحة 423.
3-نذير جزماتي:”الحزب الشيوعي السوري1924-1958″،مطبعة ابن حيان.دمشق 1990.قرار اللجنة المركزية في 13-01-1958ص ص 386-392،والبنود ال 13 ص ص 398-400.[1]