د. #سربست نبي#
الديمقراطية المحصنة والمُمانِعة
الديمقراطية في اصطلاحها العام ليست وليدة اليوم، إذ لها نسب فكري- نظري يمتد لأكثر من ألفين وخمسمئة عام، وقد اتخذت دلالات متنوعة تبعاً للسياقات التاريخية التي ظهرت فيها. وهي لم تزل إلى وقتنا الراهن موضع سجال مستمر، وقابلة للابتكار بصورة دائمة، بسبب زخمها السياسي الذي لا يستنفد، وأيضاً بسبب النزوع المتنامي واللانهائي لدى البشر إلى المساواة.
ويشير الباحثون إلى أنماط رئيسة للديمقراطية تحققت تاريخياً في دول مثل المملكة المتحدة، والولايات المتحدة الأمريكية, وفرنسا. وهي على التوالي, الديمقراطية الليبرالية، والديمقراطية الدستورية- المساواتية، والديمقراطية التمثيلية أو التنازعية.
وهذه الديمقراطيات المحصنة الراسخة تكاد تكون عصية على الاختراق، بخلاف الديمقراطيات الهشّة أو الرخوة التي شهدناها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت في أمريكا اللاتينية (تشيلي، انقلاب بينوشيت) وفي آسيا(تركيا، انقلابات العسكر) وفي باكستان (انقلاب ضياء الحق)…إلخ، بحيث يتمكن أيّ سياسي أو عسكري مهووس من الانقلاب على الديمقراطية واغتصاب السلطة فيها والنظام السياسي مرات ومرّات، ويفرض بالتالي نفسه وصيّاً عليها ويحتكر الشرعية في شخصه.
إلا أنه حتى تلك الديمقراطيات العريقة والمحصنة ليست بمنأى عن الانحرافات العارضة في فترات تاريخية معينة، التي تهدد وجودها في حدّ ذاته، كما حدث في ألمانيا (جمهورية فايمر) وصعود النازية بقيادة أدولف هتلر.
الديمقراطية إن لم تصحح وتهذّب نفسها بنفسها، تمضي باتجاه حتمي نحو الاستبداد أو الفوضى بمرور الزمن، مثل استبداد الفرد على الجميع، أو استبداد الأقلية الأوليغارشية على الأكثرية، أو استبداد الأغلبيات (القومية، العرقية، المذهبية) على الأقليات، أو استبداد الكل على الكل وهذا هو حكم الغوغاء.
التهديدات الرئيسة للديمقراطية في الغرب الرأسمالي والولايات المتحدة بصورة خاصة، تتمثّل في التوجهات الجديدة الآخذة بالتنامي في مجتمعاتها مثل كراهية الأجانب، النزعات الوطنية المتطرفة، التوحش الليبرالي، وهي كلّها تغذي القاعدة الاجتماعية لليمين الشعبوي. وقد أراد الأخير السطو على قلب المؤسسات الديمقراطية وتعطيل إرادتها عبر إثارة الفوضى العارمة، ما استدعى ردّة فعل سريعة ومباشرة من قبل تلك المؤسسات كشفت من خلالها عن مستوى المسؤولية الديمقراطية لديها.
إن ما أقدم عليه الرئيس الأمريكي، المنتهية ولايته، دونالد ترامب، شوّه الديمقراطية الأمريكية، ويعدّ ذلك من أكثر ظواهر السلوك السياسي انحرافاً والتباساً في تاريخ السلطة التنفيذية في الولايات المتحدة. إذ لم يسبق لسلطة تنفيذية استنفدت مهامها أن استغلت سخط الغوغاء وحرضته للانقضاض على المؤسسة التشريعية أو الصدام معها.
وتعدّ محاولة ترامب الرهان على غضب الجمهور وإثارة الفوضى لتبرير بقائه في السلطة، انعطافة نكوصية في دور مؤسسة الرئاسة ومكانتها لم يشهدها تاريخ الولايات المتحدة من قبل.
لقد دفع النزوع الشمولي والشعبوي لدى ترامب إلى الاستعانة بجمهوره المتطرف، المؤيّد لبرامجه السياسية وشعاراته، ونظّمه لمواجهة المؤسسات الشرعية والفيدرالية، وقد راهن منذ البداية على هذا الأمر وعمل ما بوسعه لتقسيم المجتمع الأمريكي وإدخاله في نزاع فوضوي داخلي عنيف كي يبرر احتفاظه بالسلطة.
وبالمقابل كان على المؤسسات الدستورية والديمقراطية أن تشكّل دريئة ومصدّاً قويّاً ضد هذا النزوع الاستبدادي، وأن تكون قادرة على تصحيح كل نزوع نحو التسلط والانحراف الدستوري في مؤسسة الرئاسة بأقصى سرعة ممكنة.
العنف الذي مارسه أنصار ترامب، احتجاجاً على نتائج الانتخابات وبتحريض منه، لم يكن له أيّة علاقة بالسياسة قط، ناهيكم عن الديمقراطية، بل هو يتعارض مع كل منطق سياسي، يقصيه ويغيبه، ويعدّ حادثة نادرة في التاريخ الأمريكي هزّت صورة الديمقراطية الأمريكية ووضعتها على المحك، ولعل هذا ما أراد أن يخلّفه ترامب وراءه قبل أن يغادر البيت الأبيض، كي يعبر بدقة عن رفضه للإقرار بهزيمته انتخابياً.
قبل أكثر من قرن ونصف، لاحظ المفكر الفرنسي الحاذق ألكسيس دو توكفيل، أن الدستور الأمريكي منح الرئيس أكبر قدر ممكن من الصلاحيات إلا أنه نزع عنه إمكانية التصرف. ورأى منذ ذلك الوقت أن من مثالب النظام الانتخاب في الولايات المتحدة أنه يخلق نوعاً من عدم الاستقرار الطويل في سياسة الدولة الداخلية والخارجية، ولكن الناس لا يشعرون بهذا العيب فعلاً مادام نصيب الرئيس من السلطة محدود.
إن للرئيس في أمريكا تأثير معين في شؤون الدولة ولكنه مع ذلك لا يديرها. فالقوة الغالبة في أيدي ممثلي الأمة كلها، وعلى ذلك فإن مبادئ الدولة السياسية تتوقف على الشعب في جملته، لا على الرئيس وحده، ومن ثم لم يكن للنظام الانتخابي في أمريكا أيّ تأثير ضار على ثبات الحكومة.
أخيراً يقول توكفيل بنوع من التنبؤ: في فترة الانتخابات بين الرئاستين لا يستطيع غير عدد قليل من الأمم الأوروبية تفادي الكوارث والفوضى أو الغزو، أما في أمريكا فالمجتمع يكون على نحو يجعله مستقراً وثابتاً على قواعده دون أيّة حاجة لمساعدة أحد. إذ قد يكون انتخاب الرئيس مدعاة للتهييج والاضطراب، لكنه ليس مدعاة للدمار والخراب. وهذا ما حصل بالفعل أخيراً، واستطاعت الديمقراطية الأمريكية المكرّسة بدستور فيدرالي أن تخلّص نفسها بنفسها.[1]