$التواطؤ الداخلي: وصمة عار متعاقبة في التاريخ السياسي الكردي (1)$
جوان ديبو
التاريخ الكردي حافل بتآمر الأكراد على بعضهم البعض في سبيل تصفية خصومهم الداخليين والحفاظ على مناصبهم. ومحاولة الاغتيال الأخيرة لقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي تعيد إلى الأذهان محطات مشابهة.
محاولة الاغتيال الأخيرة التي تعرض لها قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مظلوم عبدي أوائل الشهر الماضي في مطار السليمانية بكردستان العراق بواسطة طائرة مسيّرة تركية تستحضر إلى الأذهان، ضمن ما تستحضره، قصة التواطؤ الداخلي في التاريخ السياسي الكردي الحديث والمعاصر. هذه القصة المتتالية واللا منتهية أضحت بمثابة اللعنة التي أدت إلى تأزيم مساعي الكرد في الحرية والاستقلال وتحولت إلى وصمة عار يندى لها الجبين ويخجل منها الكرد جيلا بعد جيل.
ومما يؤيد هذا المنحى، أن العديد من التقارير والتحليلات التي أعقبت محاولة الاغتيال، بالإضافة إلى تيارات سياسية، قد أشارت بوضوح إلى ضلوع الحزب الديمقراطي الكردستاني (حدك) في أربيل في العملية، وذلك عن طريق تزويد الاستخبارات التركية، الموجودة أصلا بكثافة في الإقليم، بالمعلومات اللازمة. هذا ما عدا أن زمان ومكان الحادثة يوحيان بتورط “حدك” في العملية نظرا لأن تداعياتها صبت لصالحه، على الرغم من أنها لم تحقق الأهداف المرجوة منها تماما بالنسبة إلى أنقرة وأربيل.
وما يدفعنا إلى الميل لتصديق مثل هذه الروايات هو تاريخ “حدك” والأسرة البارزانية الحاكمة المفعم بتصفية الخصوم الكردستانيين سواء داخل كردستان العراق أو خارجه، والمغامرة والمقامرة بمصير الشعب الكردي وذلك لضمان تسيد المشهد السياسي الكردي وتلبية لمطالب أنظمة الدول المجاورة التي تضطهد الكرد وتقتسم كردستان. ولبلوغ هذا المأرب لم يتورع “حدك” في الاستعانة والاستنجاد بتلك الأنظمة مرارا وتكرارا للقضاء على المعارضين أو إضعافهم ليتسنى للبارزانيين وحدهم الهيمنة على المشهد السياسي الكردستاني والتحكم بمصير الكرد في كافة أجزاء كردستان أو على أقل تقدير الاستطاعة على التدخل السلبي في شؤونهم بما يضمن لهم التحكم بمفاصل الحياة السياسية والحزبية الكردستانية ويلبي أجندات الأنظمة الحاكمة في نفس الوقت.
العلاقات الودية اللافتة بين السليمانية والقامشلي والتي تكللت بلقاء بافل طالباني مع مظلوم عبدي أواخر العام الفائت بدأت تقض مضاجع “حدك”
تاريخيا، عُرفت ظاهرة الخيانة والغدر في التاريخ السياسي الكردي الحديث باسم “الجحوش”. من مفارقات القدر، أن كلمة “جحوش” تم إدراجها لأول مرة في القاموس السياسي الكردي سنة 1966 في كردستان العراق من قبل “حدك” بزعامة ملا مصطفى بارزاني، وهو كناية عن الخيانة والغدر ونقض العهد من الأشقاء. هذا التعبير تم تداوله كوصف للمجموعة التي انشقت عن “حدك” سنة 1966، والتي سميت بالمكتب السياسي لحدك بقيادة إبراهيم أحمد وصهره جلال طالباني اللذين تعاونا فيما بعد مع نظام البعث في بغداد ضد “حدك” بزعامة ملا مصطفى. بطبيعة الحال، بالنسبة إلى “حدك” والبارزانيين، فإن تلك المجموعة قد تعاونت مع بغداد ضد عموم أبناء جلدتها، وليس فقط ضد “حدك”، باعتبار أن البارزانيين يعتبرون أنفسهم الممثلين الوحيدين والشرعيين لعموم الكرد والأوصياء عليهم. لكن لاحقا وكما يشهد التاريخ والحاضر، فإن “حدك” بزعامة البارزانيين هو أكثر من مارس “الجحشنة” بحق الكرد سواء في كردستان العراق أو في بقية أجزاء كردستان.
محاولة الاغتيال الأخيرة كشفت أولا: عن حجم وطبيعة الخلافات القديمة الجديدة بين أربيل والسليمانية وعدم تورع الحزب الحاكم في أربيل عن خلق الفوضى المنظمة في معقل الخصم التاريخي اللدود بالسليمانية، بما في ذلك تأجيج تركيا ضد الاتحاد الوطني الكردستاني (أوك) بغية كسب النقاط وإرغام “أوك” على الانصياع لشروط “حدك” والقبول بقواعد لعبة المحاصصة العائلية والحزبية والمناطقية المقيتة التي أرسى ركائزها الأولى “حدك” الذي يستحوذ على نصيب الأسد فيها.
وثانيا: أبانت عن حجم وطبيعة الخلافات الحادة والمزمنة بين أربيل والقامشلي وأربيل وقنديل، وعن عدم تردد “حدك” في أربيل بالاستعانة بتركيا أو بأي جهة كانت لإضعاف خصومه الأكراد وتسيد المشهد الكردستاني، وكذلك إرضاء لتركيا وإذعانا لأجنداتها المعادية لكل ما هو كردي. خاصة وأن العلاقات الودية اللافتة بين السليمانية والقامشلي والتي تكللت بلقاء بافل طالباني، رئيس “أوك” مع مظلوم عبدي في القامشلي أواخر العام الفائت وزيارة الأخير للسليمانية، بدأت تقض مضاجع “حدك” الذي يخشى من تحالف الخصوم الأكراد ضده وتأثير ذلك على زعزعة موقعه وزحزحته من قيادة المشهد.
يمكن القول إن معظم الأحزاب الكردية الرئيسية باستثناء “حدك” إيران، لها سوابق عديدة في التواطؤ والاغتيالات ونقض العهود على الصعيد الداخلي. وكلنا نتذكر قصة تسليم المناضل الكردي – الإيراني مصطفى سليمي من قبل أسايش “أوك” في السليمانية إلى جلاديه في طهران قبل ثلاث سنوات. كما أن سجل العمال الكردستاني حافل أيضا بتصفية المناوئين داخل الحزب وترهيب وإخفاء
واغتيال المعارضين خارجه. لكن وكما يشهد التاريخ والحاضر فإن “حدك” بقيادة العائلة البارزانية له الصدارة في هذا الميدان. “حدك” بزعامة البارزانيين له باع طويل في الغدر بالأشقاء وإضعافهم وتصفيتهم داخل وخارج كردستان العراق وتسليم مناضليهم أحياء أو أمواتا إلى الدول المجاورة.
حح
كل ذلك كان وما زال يتم باسم السياسة وحسب مبدأ الضرورات تبيح المحظورات، وكأن التواطؤ قد أصبح مجرد وسيلة أو وجهة نظر بالنسبة ل”حدك” بما أنه يؤمن له البقاء ويحقق مقاصده في التحكم بمصائر الكرد في كل مكان، أو وكأن التواطؤ الذي يرتكبه “حدك” حلال ومباح له، لكنه حرام وممنوع على الآخرين. وكل ذلك حدث وما زال يحدث مقابل الحصول على دعم تلك الدول لضمان البقاء على رأس المشهد السياسي الكردي، حتى إذا كان ذلك على حساب استفحال مآسي الكرد سواء في كردستان العراق أو في بقية أجزاء كردستان أو خلق مآسي جديدة لهم. والشواهد والأدلة التي تؤيد هذا المنحى كثيرة وواضحة وضوح الشمس للجميع باستثناء العبيد الطوعيين مسلوبي البصر والبصيرة الذين يؤمنون بخلود القادة، على غرار قطعان المريدين من الأقوام المجاورة الذين يتراقصون ويرقصون لمستبديهم.
معظم الأحزاب الكردية الرئيسية باستثناء “حدك” إيران، لها سوابق عديدة في التواطؤ والاغتيالات ونقض العهود على الصعيد الداخلي
يقول الدكتور أيوب بارزاني في مقدمة كتابه “الحركة التحررية الكردية وصراع القوى الإقليمية والدولية 1985 – 1975″، وهو ابن أخي ملا مصطفى بارزاني، “تخلت القيادة الكردية عن شعبها بقرار الهرب خلسة إلى إيران عام 1975 مسلمة الشعب الكردي إلى أقسى طاغية عرفه العراق الحديث. كما اضطر الباقون إلى الاستسلام لنظام الشاه الذي توصل إلى اتفاق مع صدام حسين في قمة الجزائر في آذار (مارس) عام 1975”.
وفي 1996، استنجد مسعود بارزاني بصدام حسين لطرد قوات غريمه جلال طالباني من أربيل، ولبى صدام حسين طلب مسعود بارزاني وأرسل 30 ألف جندي من قوات الحرس الجمهوري الذين دحروا قوات “أوك” وأخرجوها من أربيل. وفي أوكتوبر 2017 وبعد هجوم الجيش العراقي وقوات الحشد الشيعي على كركوك إثر إصرار مسعود بارزاني على إجراء استفتاء حول استقلال إقليم كردستان العراق، فرّ عشرات الآلاف من الكرد من مدينة كركوك خوفا من الانتقام، والمسؤولية كلها كانت على عاتق رئيس “حدك” الذي لم يكترث كالعادة للويلات التي جلبها لعشرات الآلاف من المدنيين الكرد نتيجة عناده المعهود. بطبيعة الحال، وعلى غرار كافة المستبدين، فقد تفنن “القائد الخالد” ابن “الخالد” مع مريديه في تحويل الهزيمة إلى نصر “دونكيشوتي” محتفلا به على وقع طواحين الهواء.
وفي مؤلفه “البديل الثوري للحركة التحررية الكردية” ينتقد سامي عبدالرحمن، الذي انشق عن “حدك” سنة 1980 بسبب تسلط البارزانيين وتفردهم في السلطة وأسس حزب الشعب الديمقراطي الكردستاني، طريقة الإدارة والحكم داخل “حدك” من قبل العائلة البارزانية واصفا إياها ب”المؤسسة المستقلة” داخل الحزب، بحيث هي التي تحكم وتدير مؤسسات الحزب وتملك أمواله ويتصرف أفراد هذه العائلة داخله كما يحلو لهم دون حسيب أو رقيب وفق عقلية المالك وليس الحاكم. كما ينتقد عبدالرحمن قرار الاستسلام وإجهاض الثورة عقب اتفاقية الجزائر سنة 1975، مبينا أن بذلك القرار القاتل أوضحت القيادة أن ثورتنا كانت رهنا فقط بمساعدة شاه إيران، مستخفة ومنتقصة من دور الشعب والبيشمركة اللذين تُركا لمصيرهما الأسود بعد قرار القيادة بالفرار.
وهذا ما تشهد به معظم الحقبات التي مرّ بها الحزب في ظل البارزاني الأب والأبناء والأحفاد. وفي هذا السياق، وكما سيتبين لاحقا في الجزء الثاني والأخير من هذا المقال، تعامل “حدك” تاريخيا بزعامة البارزانيين ومن موقع الضعف والتبعية مع كافة العواصم التي تضطهد الشعب الكردي، ابتداء من نظام الشاه والخميني في طهران ومرورا بنظام صدام حسين وأخيرا وليس آخرا الرضوخ غير المشروط للإملاءات التركية. وكل ذلك لقاء تحقيق المنافع العائلية والحزبية الضيقة مقابل إلحاق الأذى بغريمه الداخلي في السليمانية وبغرمائه الكردستانيين، أي “حدك” في كردستان إيران كما حصل في الماضي، وحزب العمال الكردستاني في كردستان تركيا، وحزب الاتحاد الديمقراطي وجناحه العسكري “قسد” في كردستان سوريا كما يحصل في الحاضر.
جوان ديبو
كاتب سوري كردي
المصدر: العرب اللندنية[1]