=KTML_Bold=أزمة الشرق الأوسط وسبل الحل 1=KTML_End=
نجم عبد الله
التناقضات الداخلية لدول الشرق الأوسط، والتي ترفع بها ديناميكيات الصراع الطبقي في مجال العلاقات الاجتماعية والاقتصاد السياسي للنزاعات الراسخة منذ زمن طويل، والأزمات في الشرق الأوسط، مع الالتفات بصورة خاصة إلى دور القوى الخارجية القوية النابعة من الإمبريالية الغربية بقيادة بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة فيما بعد. ومركزية العلاقة بين الإمبريالية والحرب والاضطراب السياسي الشرق أوسطي مع تحليل الطبيعة الطبقية للدولة والقوى الاقتصادية المشاركة في الحركات الوطنية والأصولية، والسياق التنظيمي الذي تحشد فيه هذه القوى نفسها سياسيًا حتى تكون ذات أثر في التغيير.
فبعد أن كانت الإمبراطورية العثمانية حتى مطلع القرن العشرين هي القوة الأساسية الكبرى في الشرق الأوسط، فإن الضغط الغربي الإمبريالي على الإمبراطورية سرعان ما تسارعت وتائره في صورة علاقات تجارية غير متكافئة، انعكست سلبًا على الصناعات المحلية، وبالتالي على الاقتصاد بشكل عام، ما أدى إلى الانهيار التام والكامل فيما بعد.
ومما لا شك فيه أن تلك المشاكل والأحوال الاقتصادية المتردية للإمبراطورية العثمانية “والتي كان الغرب أحد أسبابها الرئيسية” قد شكلت مدخلا طبيعيا للتدخل في شؤونها الداخلية، ومن ثم احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
لقد أسال المخزون الهائل للمنطقة من النفط لعاب القوى الإمبريالية الأساسية للغرب “ومن ثم فإن تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين مرتبط بجهود القوى الغربية لتحقيق سيطرة مطلقة على موارده وتجارته والمورد الرئيسي هو الزيت (النفط) “.
بيد أن المخطط الغربي للسيطرة على المنطقة أو مصادرها النفطية لم تكن على وتيرة واحدة من النزاع والمنافسة، بل تمثلت إلى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: من عام 1818وحتى عام1914م والتي تميزت بانحدار بريطانيا من قمة هرم الإمبريالية الغربية أواخر القرن التاسع عشر إلى المنافسة مع الدول الأخرى (فرنسا- ألمانيا – الولايات المتحدة) أي الصراع للحصول على تنازلات مريحة في كل من الأرض والشؤون المالية والطرق الحيوية للمواصلات وحتى القوى الإدارية للحكومة العثمانية، وقد تزايد خلالها النفوذ الألماني في المنطقة والذي كانت مكافأته خط سكة حديد بغداد. ولمقاومة التحدي الألماني – الأمريكي للهيمنة على الشرق الأوسط “عادت بريطانيا وفرنسا للظهور باعتبارهما القوة المهيمنة فعززا سيطرتهما على المنطقة متجاوزتين الوجود الألماني، مع إخضاع وكبح تحدي الولايات المتحدة للهيمنة البريطانية “.
المرحلة الثانية: من1918 وحتى 1939 والتي تميزت بتقسيم الشرق الأوسط بين القوى الغربية، وبروز تحدٍّ أكبر من ألمانيا تمثل بعمل عسكري أدى إلى نشوب الحرب العالمية الثانية، ثم بعد ذلك تحدٍّ من الولايات المتحدة عند نهاية الحرب، لتحل أمريكا محل بريطانيا “باعتبارها القوة العظمى الرأسمالية القائدة محددة طبيعة وديناميكيات الاقتصاد السياسي الكوني.
المرحلة الثالثة: من1945 إلى 1991 والتي أنهت الولايات المتحدة بها أكثر من قرن ونصف من السيطرة البريطانية في الشرق الأوسط، ولتؤمن في الوقت ذاته بواسطة سلسلة من الدول والحكومات الوكيلة عنها في المنطقة تحكّمها الجيوبوليتيكي بالمنطقة، واستغلالا واسعا لآبار النفط المتدفقة باستمرار. وكانت حرب الخليج الثانية عام 1991 أكبر حدث معبر عن الصورة المرسومة آنفًا.
وانحدار الإمبراطورية العثمانية -والذي لعب الغرب الإمبريالي فيه دورًا أساسيًا -أدى إلى صعود رد فعل سياسي محافظ ومتطرف. لقد لعبت الأقليات الإثنية المكونة من الأرمن واليونانيين واليهود دورا مهمًّا وقياديًّا في البنيان الاجتماعي والاقتصادي والمالي العثماني أواخر القرن الثامن عشر، وقد أدى ذلك إلى تحسس الأتراك جراء قوة الأقليات الاثنية الاقتصادية – وخاصة الأرمن.
وقد وجد مصطفى كمال في فلاحي الأناضول حلفًا جماهيريًا مكنه من البروز كبطل قومي، ومع توسع دور الدولة في الاقتصاد ما بعد سنوات الحرب فإن “الكماليين وبورجوازية الثورة أنتجا دولة قوية مركزية”. بيد أن تدخل الولايات المتحدة في تحريك بيادق اللعب على الرقعة التركية ودعمها للعديد من التحالفات والانقلابات العسكرية أعوام 1960-و1971-و1980 عمق من أزمة النظام النيوكولونيالي مع تضارب التوجهات ونمو المد الإسلامي التركي.
“لقد كانت قناة السويس أساسية لاستغلال زيت الشرق الأوسط”. هكذا كان لسان حال بريطانيا وهي تبسط سيطرتها على مصر وما جاورها، وهو ما جعل الوجدان القومي ينساب عميقا بين المصريين الذين استنكروا الاحتلال الإمبريالي لترابهم الوطني، فقامت مجموعة من الضباط الأحرار بانقلاب على السلطة الحاكمة مدخلين بذلك مصر في مرحلة “رأسمالية الدولة” في الاقتصاد باستخدام الدولة “كأداة للتطور الرأسمالي القومي في ظل الحكم البيروقراطي للبرجوازية الصغيرة”. وبوفاة عبد الناصر دخلت البلاد مرحلة جديدة سميت “بالانفتاح” تحت ضغوط داخلية وخارجية إمبريالية، تمت بموجبها عملية تآكل لسياسة رأسمالية الدولة وظهور طبقة رأسمالية قومية متحالفة مع المصالح التجارية الكبرى تعتمد أساسا على الإمبريالية، أدى في النهاية إلى وقوع مصر في الفلك النيوكولونيالي، وإلى زيادة التقسيمات والصراعات الطبقية في المجتمع المصري.
في السياق ذاته فإن وضع سوريا والعراق بات معروفاً لمتابعي تاريخ الصراع السياسي في كلا البلدين، لينتهي إلى تحديد دور كل من القوى الداخلية والخارجية في رسم خريطة مصير هاتين الدولتين في ظل فشل مشروع رأسمالية الدولة الذي تم اعتماده وتبنيهما لوضع نيوكولونيالي متزايد داخل الاقتصاد العالمي وبضغط مباشر من صراعات أثنية وطبقية.
أن تاريخ صراع المصالح الإمبريالية بين الدول الثلاث الأقوى اقتصاديا “ألمانيا-اليابان-الولايات المتحدة” وكيف تسبب ذلك الصراع في نشوب حروب عالمية، ومن ثم حربين خليجيتين كان المحرك الأول لها محاولة استخدام إحدى دول المنطقة الإقليمية كحارس وساهر على خدمة مصالح هذه الدول، وكيف انتهت تلك التجاذبات السياسية والعسكرية بهيمنة مطلقة للولايات المتحدة على المنطقة. ولا ننسى في هذا السياق التأكيد على تنامي التحدي الألماني – الياباني للهيمنة الأمريكية على المنطقة، باعتماد كل منهما على مجاله الحيوي “ألمانيا على الجماعة الأوروبية ودول الشمال الإفريقي واليابان على الصين ودول جنوب شرق آسيا”، “مبشرا” إن -جاز التعبير-بصدام آخر للمصالح دون تحديد لمكانه أو زمانه.
الجذور التاريخية للصراعات الحالية في الشرق الأوسط
علق كثيرون بعد الحرب العالمية الأولى الآمال على إرساء أواصر التعايش السلمي الدائم بين الأمم. وكان من المأمول وقتها أن يجلب نظام الانتداب شكلا جديدا من أشكال الإمبريالية “اللطيفة” للشرق الأوسط تحت إشراف المجتمع الدولي. لكن المعضلات التي زُرعت حينها لا تزال تهيمن اليوم على المنطقة أكثر من أي وقت مضى.
كلمات هذه السطور تبدو وكأنَّها تُعدِّدُ أحداث سنة 2014 في الشرق الأوسط، لكنها في الواقع تَصِفُ وضع المنطقة في منتصف عشرينيات القرن الماضي. ورغم انقضاء العام السابق في ظل إحياء ذكرى الحرب العالمية الأولى، قلما نجد أحدًا يضع التطورات الحالية في الشرق الأوسط في سياق عواقب الصراع الكبير الذي كان قائمًا قبل قرنٍ من الزمن. هذا على الرغم من أنَّه لم تتم إعادة رسم خريطة أوروبا من جديدٍ بعد انتهاء الحرب وحسب، إنما أيضًا خريطة الشرق الأوسط.
أنشأ ترسيم الحدود التعسفيُّ للغاية في مناطق أخرى فسيفساء حقيقيةً مكوَّنةً من مجموعاتٍ عرقيةٍ مختلفةٍ. العراق على سبيل المثال، أكبر البلدان الجديدة، جرى تشكيله من ثلاث محافظات عثمانية سابقة، وكانت وفقًا لذلك غير متجانسة: كان أغلب السكّان في محيط الموصل من الكرد السُّنَّة، وفي محيط بغداد كانوا من العرب السُّنَّة الذين تطلعوا نحو سوريا، وفي محيط البصرة كانوا عربًا شيعةً وكانت لهم علاقات وثيقة بإيران.
بالإضافة إلى ذلك كانت هناك جماعاتٌ صغيرةٌ من الأقليات مثل التركمان السُّنَّة والآشوريين المسيحيين أو الإيزيديين. كل هذه الأقليات تجرأت في وقتٍ من الأوقات وتمرَّدت على الحكومة السُّنيَّة في بغداد – لكن بمساعدة سلاح الجو البريطاني تم قمعهم.
لم تنتهِ هيمنة الأقليَّة العربيَّة السُّنيِّة في العراق إلا بعد سقوط نظام صدام حسين سنة 2003 – بالذات من خلال تدخُّلٍ غربيٍّ، كما كان الأمر لدى تشييد الدولة العراقيَّة في الأصل. ومنذ ذلك الحين والأوضاع لم تستقر في البلاد والسبب يرجع إلى التدخلات الخارجية والحروب الطائفية التي تفتك بوضع العراق وتنهش وحدته.
اعتمد الفرنسيون في البلاد الواقعة تحت انتدابهم نهجًا معاكسًا في بادئ الأمر، فنشأت في سوريا مباشرةً خمسُ وحداتٍ جديدةٍ، تمَّ رسم حدودها على أساسٍ طائفي. وبعد حركات عِصْيان كبيرةٍ قامت في سنة 1930 تم دمج دولة الدروز في الجنوب ودولة العلويين على ساحل البحر الأبيض المتوسط إلى المنطقة الوسطى ذات الهيمنة السُّنيَّة لتنشأ بذلك الجمهورية السورية، في حين لا تزال دولة لبنان قائمةً حتى يومنا هذا.[1]