=KTML_Bold=لماذا تُعتبر تجربة “الكُرد والدروز” النموذج الأمثل لحل الأزمة السورية؟=KTML_End=
مركز الفرات للدراسات
لزكين إبراهيم – باحث في مركز الفرات للدراسات
مع دخول الاحتجاجات في محافظة السويداء، ذات الغالبية الدرزية، شهرها الثاني، وتحوّل تركيز المتظاهرين من مطالب متعلقة بالأوضاع الاقتصادية إلى المطالبة بإسقاط النظام السوري، وتطبيق القرار الأممي رقم 2254؛ الذي يحدد آلية للانتقال السياسي في البلاد، باتت هذه الاحتجاجات -لأول مرة منذ عام 2015- تحوز على هذا الزخم الزمني والبشري والاهتمام الدولي، ما جعلها تبدو تحدياً غير مسبوق للنظام السوري وداعميه الإقليميين والدوليين، في سيناريو شبيه بانتفاضة الكرد، التي نتج عنها تأسيس الإدارة الذاتية لشمال وشرق، حيث يتشارك فيها كافة مكونات المنطقة، وأدت إلى إخراج ثلث الجغرافية السورية عن سيطرة النظام. لذا قد يخشى الأخير أن تؤدي شرارة “انتفاضة السويداء” إلى تكرار تجربة الكرد، في جنوبي سوريا.
فما هي الأسباب التي من الممكن أن تجعل تجربة “الكرد والدروز” النموذج الأمثل لحل الأزمة السورية؟ وما القواسم المشتركة بين التجربتان في سوريا، والتي جعلتهما تحظيان بشعبية داخلية واهتمام خارجي؟
يمكننا عبر تحديد بعض السمات الرئيسية لنهج ومحددات انتفاضة الكرد في الشمال، والدروز في الجنوب، من النواحي التنظيميّة والسياسيّة والعسكريّة، ومقارنتها “بالثورة السورية” التي بدأت عام 2011، بعد أن انحرفت عن مسارها؛ إثر هيمنة الإسلام السياسي عليها. والوصول إلى الأسباب التي تجعل من تجربة “الكرد والدروز” نموذجاً لإنهاء النظام المركزي في دمشق، بالإضافة إلى أنها يمكن أن تشل “المعارضة” المدعومة من تركيا أيضاً، ومن أبرز تلك السمات:
أولاً- الحياد وسلميّة الاحتجاجات
إن انتهاج النظام السوري للعنف المفرط في مواجهة الحراك السوري، في ظل إقصاء “المعارضة السورية”، التي يهيمن عليها “الإسلاميون”، دور المكونات السورية الأخرى، مطالبةً منهم المشاركة في الحرب الأهلية ضد النظام، دون تقديم أي ضمانات لحقوقهم ومصيرهم في مستقبل سوريا، دفعت تلك المكونات، وخاصة الكرد والدروز، لاختيار نهج الحياد؛ فلم يقفوا بجانب النظام، ولا اصطفوا مع “المعارضة الإسلامية” التي رفعت السلاح وانتهجت نهج التخريب وهدم كافة مؤسسات الدولة، معتبرة تلك المؤسسات تابعة للنظام، دون التفريق بين النظام كسلطة وبين مؤسسات الدولة، التي هي ملك للشعب. بالإضافة إلى تحول المعارضة المسلحة إلى جماعات وفصائل متشرذمة ومتناحرة فيما بينها، ولا تخضع لضوابط ولا تمتلك مرجعية موحدة، الأمر الذي أدى إلى فشل “الثورة السورية”، ومن ثم تخلي الدول العربية والغربية عن تلك “المعارضة”.
وفي المقابل، كانت الاحتجاجات التي خرجت في المناطق الكردية بداية الحراك السوري، والدرزية الحالية، المطالبة بالحرية والحقوق أكثر عقلانية وتنظيماً، ولم تتحول إلى فوضى وتخريب لمؤسسات الدولة، وبالتالي عدم الانحدار نحو مستنقع الحرب الأهلية والاقتتال السوري–السوري.
ثانياً- ذاتية الإدارة والحماية
طوال سنوات الصراع السوري، تمكّن الكرد والدروز -إلى حدٍ كبيرٍ- من تحييد أنفسهم عن تداعياته، والمحافظة على خصوصيتهم، فلم يؤيدوا أي طرفي النزاع في سوريا على حساب طرفٍ آخرٍ، ولم ينخرطوا في “المعارضة المدعومة من تركيا”، باستثناء قلة ممن اعتقدوا أن على الكرد والدروز الانخراط ضمن المعارضة ومحاربة النظام حتى إسقاطه، وبأن هذه الانخراط ستدفع المعارضة لمنحهم حقوقهم بعد وصولها إلى السلطة؛ تقديراً لمشاركتهم في الصراع. لكن تعرض هؤلاء الأطراف (الكرد والدروز) لمواقف مشابهة من قبل التنظيمات الإسلامية التي هيمنت على الحراك الثوري، أثبت أن اعتقادهم كان خاطئاً، وأنه لا يمكن للكرد والدروز التعويل على معارضة همها الوصول إلى السلطة، وتغيير شكل السلطة من القومية إلى الدينية.
ومن بين تلك المواقف المتشابهة ما حصل في أغسطس/آب 2011، حيث أنشأ بعض المنشقون الدروز بقيادة “الرائد خلدون زين الدين”، الذي أنشق عن صفوف جيش النظام السوري، جماعة مسلحة مناهضة أُطلق عليه اسم “لواء سلطان الأطرش” لمحاربة النظام، والتي انضمت على الفور إلى فصائل المعارضة المسلحة في درعا، وشاركت في عدة عمليات هجومية ضد قوات النظام في “جبل الدروز”. لكن رغم ذلك، لم تتلق الدعم المتوقع من تلك الفصائل ولا من السكان المحليين، بل اعتقلت “جبهة النصرة” عدداً من أعضاء هذا اللواء عام 2013، وحكموا عليهم بالإعدام لأسباب طائفية، ليتم إطلاق سراحهم فيما بعد بوساطة جماعات أخرى من المعارضة، ومن ثم الفرار إلى الأردن.
وفي حدثٍ مشابهٍ، هاجمت “جبهة النصرة” الإرهابية عام 2012 مدينة سري كانية (رأس العين) بدعمٍ تركي، واحتلوا أجزاء من المدنية، فخرجت مجموعة من الشبان الكرد، ممن كانوا يطلقون على أنفسهم اسم “التنسيقيات”، واستقبلوهم بالهتافات وسط رفع العلم الكردي، إلا أنهم تعرضوا للإهانة من قبل عناصر وقيادات “جبهة النصرة” وأجبروهم على انزال العلم الكردي، في صورة واضحة لإنكار وإقصاء الكرد حتى وإن كانوا موالين لهم.
وكانت لهذه الحوادث عواقب بعيدة المدى، حيث أقتنع الكثير من الدروز والكرد بأنه لا يمكنهم التعويل على تلك الجماعات والفصائل المعارضة في إحداث التغيير الديمقراطي في سوريا، بل، وعلى النقيض، أصبحت تلك الجماعات الإسلامية والفصائل أكبر خطر يهدد المناطق الكردية والدُرزية، رغم أنها تعتبر مناطق خارجة عن سيطرة النظام السوري، عبر شنها الكثير من الهجمات على تلك المناطق.
حاول النظام الاستفادة من مخاوف الكرد والدُروز من ظهور التنظيمات الإسلامية والجماعات الإرهابية في توظيف ورقة “حماية الأقليات”، باعتماد خطاب “تخويف” موجّه للأقليات، مفاده أن “خطراً وجودياً قد يحدق بها في حال خسر النظام السلطة”، ولكن هذه الورقة سقطت من يد النظام في المناطق الكردية منذ عام 2012، حين تُرك الكرد وحيدين في وجه كافة الجماعات الإرهابية والمتطرفة، وآخرها كانت هجمات داعش على كوباني عام 2014. وسقطت الورقة في السويداء أيضاً بعد تعرضها عام 2018 لهجوم دموي من قبل داعش، ولم يبدي النظام أي تحرك لحماية تلك المناطق السورية.
بعد قدرة الكرد وأبناء السويداء حماية مناطقهم عبر تأسيس قواتهم المحلية والذاتية، ودحر داعش، وإثباتهم أنهم ليسوا بحاجة لجيش النظام لحمايتهم، لم يعد بيد الأخير أي ورقة يمكنه من خلالها إقناع تلك الشعوب بالعودة لقبول حكمه، فقد أثارت تجارب تلك المكونات السورية مخاوف النظام أكثر من خطر التنظيمات والفصائل الإسلامية، لخشيته أن تؤدي تلك التجارب إلى بلورة وحدة مع باقي مكونات الشعب السوري في المجال السياسي، وبالتالي بروزهم كقوة سورية وطنية في هيكل معارضة جديدة، قادرة على جذب اهتمام القوى الدولية والإقليمية، خاصةً مع اكتساب حراك السويداء زخماً متصاعداً، وسط حديث عن مساع لتشكيل “هيئة سياسية مدنية” في المحافظة، على أن ينبثق عنها مؤتمر سياسي، يُعقد في السويداء، ويقدم للمجتمع الدولي رؤية سياسية لمستقبل سورية، وإعادة بناء الدولة.
ثالثاً- أسلوب الخطاب
على عكس خطاب النظام الذي يصف كل معارضيه ب”الإرهابيين والخونة والانفصاليين”، وخطاب أطياف “المعارضة” التي تصف كل من يخالفها الرأي والعقيدة ب”النصيرية والكفار والمرتدين والانفصاليين”، فإن الكرد والدُروز -رغم تعرضهم لسياسة الإقصاء والتمييز والعنصرية من قِبل النظام السوري والمعارضة المدعومة من تركيا- نادوا بالديمقراطية والسلام والعيش المشترك وحرية المرأة خلال تظاهراتهم. وهذا الخطاب ساهم في إزالة أزمة الثقة والعنصريات التي كرّسها النظام والجماعات الإسلامية بين الكرد والعرب، الأمر الذي شجّع كافة المكونات في شمال وشرق سوريا للمشاركة في الإدارة الذاتية والانضمام إلى قوات سوريا الديمقراطية.
بالإضافة إلى ذلك، فإن الشعارات واللافتات التي يرفعها المحتجون في السويداء، لم تخرج عن إطار الشعارات الوطنية ومطالب كافة السوريين، وهي بعيدة عن الخطابات والشعارات الطائفية، وهذا ما أكده الشيخ حكمت هاجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية السورية، لأتباعه في بداية الاحتجاجات الأخيرة، حيث قال: “إن هذا الحراك صوت الحق للشعب السوري”، مكرراً أن الدروز خرجوا إلى الشوارع كسوريين.
لذا، فإن هذا الخطاب الوطني الذي رفعه الكرد والدروز، يقطع الطريق أمام النظام و”المعارضة الإسلامية” للتحريض ضد مكونات الشعب السوري الأخرى، عبر اللعب على وتر الفتنة القومية والطائفية، لذا نجد اليوم النظام يلفق التهم بحقهم كوصفهم “بالانفصاليين وعملاء الغرب” وما إلى ذلك من تهم في محاولة الطعن في وطنيتهم، ولإيجاد مبرر لمحاربتهم ومنع تحول حراكهم إلى نموذج يعيد الثورة السورية إلى مسارها الصحيح، ويفتح الأبواب أمام حل الأزمة السورية والتغيير السياسي.
رابعاً- دور المرأة
إن أكثر ما يميّز تجربة الكرد في شمال شرقي سوريا، وجعلتها تحظى بالاهتمام والثناء، هو بروز دور المرأة في تلك التجربة كعنصر أساسي في كافة المجالات سواء العسكرية أو السياسية أو الإدارية، على عكس الدور الهامشي لها ضمن الأنظمة السلطوية في الشرق الأوسط عامة؛ ومنها النظام السوري، أو الإقصاء التام لها كما في حالة المعارضة والجماعات الإسلامية.
تلك الصورة الملفتة تكررت في احتجاجات السويداء، فمنذ اليوم الأول للحراك، كان حضور النساء لافتًا، والتي أعطيت أيضا زخماً محلياً واهتماماً دولياً بهذه الاحتجاجات، ورسمت صورة حضارية تهدف إلى المطالبة بالتغيير الديمقراطي، ومنح الحقوق والحريات لكافة شرائح المجتمع.
المواقف الدولية تقلق النظام السوري
إن الوضع والنهج المغاير لتجربة الكرد في شمال وشرق سوريا عن باقي أطراف الصراع السوري، من النواحي السياسة والعسكرية، ومحاربتهم للتنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، دفعت القوى الدولية والتحالف الدولي لاختيارهم شركاء محليين موثوقين، وهذا ما أثار مخاوف النظام السوري من انتقال تلك التجربة إلى الجنوب السوري، ومن ثم إلى باقي المحافظات.
بالإشارة إلى ذلك، أكدت صحيفة “الشرق الأوسط” في تقرير لها (2 أكتوبر 2023)، بأن الاتصالات التي يتلقاها الرئيس الروحي للطائفة الدرزية، الشيخ حكمت الهجري، من أطراف دولية وإقليمية “تقلق الحكومة السورية وتزيد الأمر تعقيداً”، في إشارةٍ للاتصالات الأمريكية – البريطانية خلال الأيام الماضية.
ويبدو أن النظام يرى في الاتصالات بالشيخ الهجري، تمثل اعترافاً دولياً بزعامته في محافظة السويداء، ما يجعل إزاحته عن ساحة الاحتجاجات صعبة وحساسة جداً، وقد يفتح الباب أمام احتمالية أن تحظى السويداء بحماية دولية وإقليمية، وتحولها لنموذج آخر من مناطق الإدارة الذاتية الخارجة عن سيطرة النظام، خاصةً أن الإدارة الذاتية ومحتجي السويداء يطالبون بتطبيق القرار الأممي 2254.
إلا أن أكثر ما يدق ناقوس الخطر بالنسبة للنظام ويثير مخاوفه من تجربة الكرد والاحتجاجات الدرزية الحالية، أن تمتد تلك الاحتجاجات إلى المحافظات الساحلية ذات الغالبية العلوية، حيث يجد العلويون أنفسهم اليوم في وضع اقتصادي أسوأ من العديد من المناطق الخارجة عن سيطرة النظام. وباتت بوادر هذه المخاوف تزداد مع خروج مظاهرات تحت اسم “حركة 10 آب” في اللاذقية، وتوزيع منشورات مناهضة للنظام، بما في ذلك في مدينة القرداحة، مسقط رأس عائلة الأسد. فيما لاقت هذه الإجراءات دعماً من “حركة الضباط الأحرار العلوية” المعارضة، التي طالبت أيضا على غرار الإدارة الذاتية والسويداء بالالتزام ببنود القرار 2254 المتعلق بنقل السلطة إلى هيئة تنفيذية شاملة جديدة.
ويبدو أن اتخاذ النظام بعض الإجراءات في الساحل السوري، تهدف إلى محاولات إبقاء هذه الجبهة هادئة، ومنع انفجار الأوضاع هناك، حيث قام بتعيين العميد فراس الحامد، وهو رجل من الإدارة العامة للمخابرات، محافظاً لطرطوس، ليأتي بعده زيارة رئيس النظام السوري، بشار الأسد، للمحافظة.
الرؤية
إن استمرار الاحتجاجات في السويداء دون إبداء النظام أي تحرك لتنفيذ مطالبهم، يشير إلى أنه يراهن على عامل الوقت والمماطلة، لإنهاك الحراك وشقّ الصف، وحتى تتبلور لدى السوريين، الذين باتوا يرون أن احتجاجات السويداء تشير لبوادر انتفاضة شعبية جديدة، قناعة مفادها: إن الاحتجاجات السلمية هي محاولات عبثية لن تمثل تحدياً جدّياً للنظام، ولن تغير الواقع السوري!
من غير المستبعد أن يكون النظام السوري وإيران وراء الهجوم “المجهول” الذي تعرضت له الكلية الحربية في حمص، مؤخراً، وذلك لعدة أهداف:
شل الحراك الذي بدأ يظهر في المناطق الساحلية، وإلهائهم بهذه الفاجعة التي كان غالبية ضحاياها من أبناء الساحل، وإيصال رسالة ضمنية للعلويين بأن هناك خطر وجودي لا زال يهددهم في حال سقط النظام.
التغطية على الاحتجاجات في السويداء بتوجيه الرأي العام الداخلي والخارجي إلى هذا الحدث الكبير.
محاولة النظام وإيران إعادة تدوير الأزمة وإشعال الجبهات من جديد، بحجة الانتقام لضحايا الكلية الحربية لكسب الرأي العام الداخلي.
كانت حماية الكرد والدروز لمناطقهم إثباتاً على أن التعويل على الحماية الذاتية هو سبيل الخلاص، واستطاعت أن تحمي مناطق واسعة من سوريا من السقوط بيد التنظيمات الإرهابية، وبالتالي فإن نظام الحماية الذاتية يمكن أن يشكل نموذجاً للقضاء على الإرهاب في سوريا.
من خلال ما تقدم، يبدو أنه لا نظام الحكم المركزي الحالي قادر على إنهاء الأزمة السورية، ولا مشروع “الإسلام السياسي” الذي تتبناه المعارضة السورية المدعومة من تركيا، لذا فإن الحل المستقبلي يجب أن يقوم على أساسٍ لا مركزي، وبنوع من الإدارات الذاتية التي تفتح المجال أمام كافة المكونات لإدارة مناطقهم من كافة الجوانب.
المصدر: مركز الفرات للدراسات
[1]